في الوقت الذي أعلنت فيه روسيا سحب قواتها من سوريا كان المؤتمر الصحفي للخارجية الأمريكية منعقداً، وعندما سئل المتحدث باسم الخارجية الأمريكية عن الانسحاب الروسي أظهر تفاجؤه وقال إنه لا علم له بهذا النبأ، وكان نفس الموقف من المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض الأمريكي الذي كان منعقداً أيضاً في نفس التوقيت، هذه المفاجآت الأمريكية دلالة على أن باقي عواصم دول العالم كانت أكثر تفاجؤاً، ومنها عواصم محور إيران من طهران إلى بغداد ودمشق وبيروت شركاء حلف بغداد الروسي، بل التزمت هذه العواصم الصمت حتى أعلن بشار الأسد بيانه أنه تلقى اتصالاً هاتفياً من بوتين بعد إعلان الخبر من راديو موسكو، فاعتبر بشار الأسد ذلك الاتصال الهاتفي من بوتين بعد قرار الانسحاب، تنسيقاً معه، ومع ذلك لم يصدر عن دول محور إيران العراق لبنان أي خبر إلا بعد مرور بضع ساعات من إعلان بوتين الخبر، وهذا دليل على أنهم صدموا من الخبر الروسي.
هذه المفاجأة الروسية ربما ينبغي الاعتياد عليها، فقد كررها بوتين عندما أعلن تدخله العسكري في سوريا بتاريخ 2015/9/30، فقد جاء الإعلان مفاجئاً، وبعد أن بدأت الطائرات الروسية بقصف مواقع المعارضة السورية، وقد جاء في إعلان الانسحاب الروسي أن الرئيس بوتين أمر جيشه يوم الاثنين 2016/3/14 ببدء سحب الجزء الرئيسي من القوة الروسية في سوريا، قائلاً: "إن التدخل العسكري الروسي حقق أهدافه إلى حد كبير"، وقال بوتين خلال اجتماع في الكرملين مع وزيري الدفاع والخارجية الروسيين: "إن الانسحاب سيبدأ اعتباراً من يوم غد الثلاثاء، كما أمر بتكثيف الدور الروسي في عملية السلام الرامية لإنهاء الصراع في سوريا".
وبالنظر إلى أن هذا الأمر هو أمر عسكري، وأن يكون سحب القوات الروسية الفعلي في اليوم التالي، فإن ذلك يعني أن هناك دوافع لهذا القرار الروسي، فهو وإن لم يكن مفاجئاً للقيادة الروسية لأن مثل هذا القرار العسكري لا بد يأخذ حقه في الدراسة والتفكير داخل القيادة الروسية، فإن ذلك قد يكون مرتبطاً بنفس الخطة التي بدأ تنفيذها منذ خمسة أشهر، والتي أخذ عليها الرئيس بوتين موافقة قيادة أركان الجيش الروسي للبدء بتدخله العسكري في سوريا، فقد أعلن في ذلك الوقت أن التدخل العسكري سيكون لمدة أربعة أشهر فقط، ثم تم التراجع عن تحديد المدة الزمنية، وأن مهمة الحملة العسكرية الروسية حتى تحقق أهدافها، وقد يكون التراجع لأسباب سياسية وإعلامية فقط، وهذا مؤشر على أن روسيا في هذا التدخل والانسحاب الإعلامي أمام أكثر من احتمال، نذكر بعضاً منها:
الأول: أن الروس جاؤوا فعلاً إلى سوريا لإجراء المناورات العسكرية للجيش الروسي في سوريا بدل أن تكون في سيبيريا أو غيرها من الأراضي الروسية، وهو ما كان عبر عنه الرئيس الروسي في مؤتمره الصحفي السنوي في نهاية شهر يناير/كانون الثاني في استعراض منجزات السياسة الروسية في العام الماضي وخططها للعام القادم، فقد ذكر أن ما تقوم به القوات الروسية في سوريا، وما تستهلكه من قدرات عسكرية وكلفة مالية هي نفسها التي تستهلكها في مناوراتها العسكرية المعتادة، وأن الجيش الروسي لن يتكلف المزيد من المال والذخائر والصواريخ في المناورات العسكرية السنوية المعتادة، من بينها إطلاق الصواريخ الباليستية من البحر الأسود على الأراضي السورية، ومن بينها أيضا سقوط صواريخ باليستية في إيران، قال المتحدث الروسي إنها سقطت بالخطأ، ولكن الغريب أن الخطأ الروسي بالصواريخ الباليستية اختار الأراضي الإيرانية ولم يختر الأراضي التركية ولا الخليجية ولا غيرها، أي إن التجارب الباليستية الروسية شملت الجغرافيا الإيرانية أيضاً!
فإذا كان الأمر كذلك فقد صدق كلام بوتين بأن سحب القوات الروسية من سوريا جاء بعد تحقيقها لأهدافها العسكرية، وهي إجراء مناورات عسكرية في مناطق حية، وأن يكون القتل حياً وطبيعياً، وبنيران حية أيضاً، ولا يهم روسيا كم قتلت من السوريين، ولكن الإعلام الروسي ذكر أن عدد الإرهابيين الذين قتلهم الجيش الروسي في سوريا في هذه الأشهر هم ألفا مقاتل، وقال إنهم يحملون الجنسية الروسية، وكأن روسيا جاءت لقتل المتطوعين الروس فقط، مع أن قسماً كبيراً منهم جاؤوا بالتنسيق مع المخابرات الروسية والإيرانية وحلفهم الطائفي.
الاحتمال الثاني لانسحاب روسيا، وهو لا يتعارض مع الاحتمال الأول، هو أن روسيا اكتشفت الخديعة التي أوقعتها بها القيادة الإيرانية والجنرال قاسم سليماني قائد الحملة العسكرية الإيرانية في البلاد العربية عندما ذهب إلى روسيا في شهر يوليو/تموز 2015 وطلب من الرئيس الروسي بوتين أن ينقذ بشار الأسد، وقد صوَّر له أن العملية الروسية سهلة وقصيرة، ومكاسبها كبيرة، فهي تمنح روسيا وبوتين فرصة اللاعب الدولي الذي يحرك قواته العسكرية خارج حدوده، ويصبح بوتين من الزعماء الذين يقررون مستقبل خرائط الشرق الأوسط، وهي الفرصة التي لم تستطع روسيا تحقيقها أيام الاتحاد الروسي، وقد قدمتها إيران لروسيا في سوريا على طبق من ذهب، وقد وافقت روسيا على هذه الخديعة الإيرانية بأن صرح وزير الخارجية الأمريكي جون كيري في حينها، بأن "أمريكا لا تمانع إرسال قوات روسية إلى سوريا ما دام أنها ستشارك في حرب الدولة الإسلامية داعش"، وأن أمريكا ترحب بكل قوات تقوم بذلك، فانطلت الخديعة الأمريكية الإيرانية على فلاديمير بوتين، أو أنه أراد أن يستغل هذه الخديعة وهو مدرك لها، وأرسل قواته وهو يظن أنه يستطيع خلال أسابيع وأشهر قليلة تغيير معادلة الصراع في سوريا، ولكن وبعد خمسة أشهر تبين له أن كل ما استطاع تحقيقه هو استعادة 3% من الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة السورية، ومن ثم فهو أمام سنوات ومستنقع أفغاني جديد في سوريا، وما يرجح هذا الاحتمالَ هو الاحتمالُ الثالث، وهو يتحدث عن الخلاف الروسي الإيراني في سوريا.
الاحتمال الثالث: هذا الاحتمال يسلط الضوء على أثر الاختلاف الروسي الإيراني في دور كل منهما في سوريا، سواء في قيادة المعارك في سوريا أو في الدور السياسي لهما، وأيضاً دور بشار الأسد فيها، فالإيرانيون يريدون الجيش الروسي عصا غليظة لضرب الثورة السورية لمصلحتهم، وروسيا جاءت لضرب المعارضين لبوتين من المتطوعين الروس في سوريا، والإحداثيات التي أعطيت للجيش الروسي في الشهر الأول لم تكن صحيحة، ومصدرها جيش الأسد والحرس الثوري الإيراني، ولذلك أخذت روسيا تطلب تحديد مواقع الإرهابيين، وليس غريباً أن تكون روسيا قد اكتشفت أن هناك تعاوناً عسكرياً بين الحرس الثوري الإيراني وبشار الأسد مع تنظيم الدولة الإسلامية داعش، ومن ثم فإن الاختلاف الإيراني الروسي قد أفقد الروس القيام بدور عسكري واضح، فقد أصبح لابروف أضحوكة أجهزة الاستخبارات العالمية لتحديد مواقع الإرهابيين وأسمائهم وغيرها، فإذا كان الأمر كذلك فهذا يعني أن روسيا اكتشفت الخديعة المزدوجة من إيران وأمريكا، ومن ثم فقرارها بالانسحاب هو رفض التورط أكثر في حرب لا تستطيع تحقيق شيء فيها، سوى القتل والتدمير ومزيد من الكراهية من السوريين والعرب والمسلمين، وقد أصبحت أمام خسائر سياسية كبيرة ضد العالم العربي والإسلامي، وليس مع تركيا فقط، وهي تريد التعاون مع السعودية والخليج العربي في مجالات الطاقة أيضاً.
الاحتمال الرابع: أن وجود روسيا في أعمال عسكرية مرهقة في سوريا سيكلفها خسارة اقتصادية ومالية كبيرة، ولعل تزويد المعارضة السورية بالصواريخ الحرارية، وإسقاطها لطائرة حربية يوم 2016/3/13، كان له وقع كبير على القيادة الروسية عجل في قرار الانسحاب، وما كان لها من مكاسب إعلامية بوجود قاعدة عسكرية في طرطوس يكفيها، وهذه القاعدة متفق عليها من أيام الحرب الباردة مع أمريكا، ولكن ما هو أهم هو اكتشاف القيادة الروسية أنها دخلت ورطة كبيرة في سوريا، وأن خلاصها الحقيقي هو في سرعة الانسحاب وقبل فوات الأوان.
لذلك طلب الرئيس بوتين من وزير خارجيته لابروف مواصلة مساعيه السياسية السابقة، وبالأخص أن مؤتمرات فيينا وجنيف3 قد حرفت مسار الحل السياسي من إنهاء لدور بشار الأسد بالكامل كما في جنيف1، وتشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات، إلى مشاركة كافة أطراف الصراع في سوريا بالحل السياسي بما فيها طرف بشار الأسد، كما هي الرؤية الروسية والأمريكية في جنيف3 ومساعي دي مستورا، ولكن بشار الأسد طمع أكثر بالوجود الروسي العسكري وأصبح يطالب بعودة الأراضي السورية كاملة تحت حكمه وسلطانه، وأن تكون مكاسب المعارضة جزءاً من التعديلات الدستورية التي قد تمنحها تشكيل حكومة شكلية كما هي عادة آل الأسد في الحكم منذ أربعة عقود، ولكن روسيا رفضت ذلك؛ لعلمها أن المعارضة السورية ترفض ذلك أولاً، وأن تأييدها لهذا المطلب من بشار الأسد سيطيل وجودها العسكري وخسائرها منه أيضاً، ولذلك من الأفضل لها الانسحاب عسكرياً من سوريا، وترك السوريين يغرقون في الألاعيب الأمريكية والإيرانية لسنوات قادمة أيضاً.
إن الخاسر الأكبر من الانسحاب الروسي من سوريا هي المشاريع الأمريكية التي كانت تخطط لتوريط روسيا في حرب طويلة، تسفك فيها دماء المسلمين أنهاراً ، ولكن بوتين يدرك خسائر هذه المعركة في الحاضر أولاً، وأنها خسائر أكبر في المستقبل، فخمس سكان روسيا الاتحادية من المسلمين، وليس من مصلحة روسيا أن تحارب ملياري مسلم في العالم، لمصلحة حفنة من المسلمين تقتلهم الأحقاد الطائفية من الإيرانيين والعلويين السوريين، ولذلك فإن بوتين، ومع بدء مفاوضات جنيف3 أراد إيصال رسالة للسوريين والمجتمع الدولي، بأن روسيا لن تكون طرفاً حربياً في تقرير مستقبل سوريا، وتكتفي بالدور السياسي، وهو ما وجه له وزير خارجيته لابروف.
إن توقيت إعلان الموقف الروسي بالانسحاب العسكري للقوات الرئيسية الروسية من سوريا في يوم انطلاق مباحثات جنيف غير المباشرة، التي أجرها دي مستورا يوم 13/3 مع وفد المعارضة السورية، ويوم 14/3 مع وفد النظام الأسدي برئاسة بشار الجعفري، وتوصل دي مستورا لخلاصة بأن الحل سيعود مرة أخرى إلى مجلس الأمن، فإن ذلك مؤشر على قناعة بوتين أن الأزمة السورية ستراوح مكانها لسنوات قادمة، حيث إن أمريكا غير جادة في الحل العسكري ولا السياسي، وعليه؛ فإن روسيا ليس من مصلحتها مشاركة أمريكا في الحل الغامض، وأمريكا تريد استخدام روسيا العصا الغليظة لفرض التقسيم في سوريا فقط.
والخاسر الثاني من الانسحاب العسكري الروسي من سوريا هو القيادة الايرانية الخامنئية، التي أتت بالروس لمواصلة مهمة فشلوا فيها، وهي القضاء على الثورة السورية والحفاظ على حكم الأسد، وحيث إن الروس كانوا أكثر جرأة وشجاعة من الإيرانيين وأعلنوا الانسحاب، فإن الإيرانيين يشعرون بالحسرة على مستقبل وجودهم في سوريا، ومن ثم ضعف محورهم العسكري والسياسي، الذي حاول الاستفادة من الغطاء العسكري الروسي لهم، وإيران تخشى أن تعود عسكرياً إلى سوريا مرة أخرى، بعد أن خففت من وجودها العسكري فيها، وبالأخص القيادات العسكرية العليا، ولذلك سيكونون عرضة أكثر للخسارة العسكرية من ذي قبل، ولا ضمانة بأن فصائل المعارضة السورية سوف تقبل شروط جنيف3 بعد الانسحاب الروسي، أي إن رحيل الأسد سيكون هو مدار الحل في المستقبل مرة أخرى، وتصريح علي أكبر ولايتي، مستشار خامنئي، على القرار الروسي، يؤكد امتعاض إيران من القرار الروسي، حيث تمنى ولايتي: "ألا يؤثر ذلك على حسن العلاقات الإيرانية والروسية في سوريا".
وأخيراً، لقد كان الموقف التركي الحاسم من رفض التدخل العسكري الروسي في سوريا، واعتبار أردوغان للوجود الروسي في سوريا نوعاً من الاحتلال الخارجي، وما لحق بروسيا من خسائر اقتصادية بسبب محاولة بوتين معاقبة تركيا على إسقاط الطائرة الروسية المعتدية على تركيا، لقد كان له أثر في مراجعة السياسة الروسية لمسارها في سوريا والمنطقة، فبينما كانت إيران تحرض روسيا ضد تركيا وقيادتها السياسية، أخذت إيران نفسها تتقارب مع القيادة التركية في الأسبوع الماضي، فقد طلبت من رئيس الوزراء التركي داود أوغلو القيام بزيارة مفاجئة لطهران لتهيئة زيارة الرئيس روحاني إلى أنقرة الشهر القادم، وتنسيق مواقفها من تقسيم سوريا، بعد أن انفردت روسيا مع أمريكا بإعلان وقف الأعمال العدائية، والحديث عن التقسيم أو الفيدرالية، وروسيا لا تريد أن ترى نفسها أمام تقارب تركي إيراني في الوقت الذي تبتعد فيه روسيا عن تركيا، وهذا مؤشر على درجة الخلاف الروسي الإيراني أولاً، وأن روسيا لم تعد تثق بالأحلاف العسكرية مع إيران ومحورها، فقد ثبت لها مدى ضعف بشار عسكرياً، وأنه لن يقوى على حكم سوريا مرة أخرى، أي إن روسيا بتدخلها العسكري ومحاولة صناعة الأحلاف العسكرية في المنطقة سوف تخسر الكثير سياسياً واقتصادياً، وهي مثقلة بأعباء تركة الاتحاد السوفييتي.
إن الانسحاب الروسي مؤشر على مراجعة روسية شاملة لسياستها في الشرق الأوسط أولاً، ومن المرجح أن يكون من آثارها المستقبلية إعادة رسم سياستها مع الدولة التركية ثانياً، فقد أثبتت صحة مواقفها السياسية في سوريا والمنطقة حكمةَ القيادة التركية، وأنها كانت أكثر القيادات نجاحاً في تجنب المكائد الأمريكية حتى لو تعرضت للنقد الأمريكي مراراً، أو إلى الاعمال العدائية من مرتزقتها في المنطقة.
المصدر/ الخليج أونلاين
هذه المفاجأة الروسية ربما ينبغي الاعتياد عليها، فقد كررها بوتين عندما أعلن تدخله العسكري في سوريا بتاريخ 2015/9/30، فقد جاء الإعلان مفاجئاً، وبعد أن بدأت الطائرات الروسية بقصف مواقع المعارضة السورية، وقد جاء في إعلان الانسحاب الروسي أن الرئيس بوتين أمر جيشه يوم الاثنين 2016/3/14 ببدء سحب الجزء الرئيسي من القوة الروسية في سوريا، قائلاً: "إن التدخل العسكري الروسي حقق أهدافه إلى حد كبير"، وقال بوتين خلال اجتماع في الكرملين مع وزيري الدفاع والخارجية الروسيين: "إن الانسحاب سيبدأ اعتباراً من يوم غد الثلاثاء، كما أمر بتكثيف الدور الروسي في عملية السلام الرامية لإنهاء الصراع في سوريا".
وبالنظر إلى أن هذا الأمر هو أمر عسكري، وأن يكون سحب القوات الروسية الفعلي في اليوم التالي، فإن ذلك يعني أن هناك دوافع لهذا القرار الروسي، فهو وإن لم يكن مفاجئاً للقيادة الروسية لأن مثل هذا القرار العسكري لا بد يأخذ حقه في الدراسة والتفكير داخل القيادة الروسية، فإن ذلك قد يكون مرتبطاً بنفس الخطة التي بدأ تنفيذها منذ خمسة أشهر، والتي أخذ عليها الرئيس بوتين موافقة قيادة أركان الجيش الروسي للبدء بتدخله العسكري في سوريا، فقد أعلن في ذلك الوقت أن التدخل العسكري سيكون لمدة أربعة أشهر فقط، ثم تم التراجع عن تحديد المدة الزمنية، وأن مهمة الحملة العسكرية الروسية حتى تحقق أهدافها، وقد يكون التراجع لأسباب سياسية وإعلامية فقط، وهذا مؤشر على أن روسيا في هذا التدخل والانسحاب الإعلامي أمام أكثر من احتمال، نذكر بعضاً منها:
الأول: أن الروس جاؤوا فعلاً إلى سوريا لإجراء المناورات العسكرية للجيش الروسي في سوريا بدل أن تكون في سيبيريا أو غيرها من الأراضي الروسية، وهو ما كان عبر عنه الرئيس الروسي في مؤتمره الصحفي السنوي في نهاية شهر يناير/كانون الثاني في استعراض منجزات السياسة الروسية في العام الماضي وخططها للعام القادم، فقد ذكر أن ما تقوم به القوات الروسية في سوريا، وما تستهلكه من قدرات عسكرية وكلفة مالية هي نفسها التي تستهلكها في مناوراتها العسكرية المعتادة، وأن الجيش الروسي لن يتكلف المزيد من المال والذخائر والصواريخ في المناورات العسكرية السنوية المعتادة، من بينها إطلاق الصواريخ الباليستية من البحر الأسود على الأراضي السورية، ومن بينها أيضا سقوط صواريخ باليستية في إيران، قال المتحدث الروسي إنها سقطت بالخطأ، ولكن الغريب أن الخطأ الروسي بالصواريخ الباليستية اختار الأراضي الإيرانية ولم يختر الأراضي التركية ولا الخليجية ولا غيرها، أي إن التجارب الباليستية الروسية شملت الجغرافيا الإيرانية أيضاً!
فإذا كان الأمر كذلك فقد صدق كلام بوتين بأن سحب القوات الروسية من سوريا جاء بعد تحقيقها لأهدافها العسكرية، وهي إجراء مناورات عسكرية في مناطق حية، وأن يكون القتل حياً وطبيعياً، وبنيران حية أيضاً، ولا يهم روسيا كم قتلت من السوريين، ولكن الإعلام الروسي ذكر أن عدد الإرهابيين الذين قتلهم الجيش الروسي في سوريا في هذه الأشهر هم ألفا مقاتل، وقال إنهم يحملون الجنسية الروسية، وكأن روسيا جاءت لقتل المتطوعين الروس فقط، مع أن قسماً كبيراً منهم جاؤوا بالتنسيق مع المخابرات الروسية والإيرانية وحلفهم الطائفي.
الاحتمال الثاني لانسحاب روسيا، وهو لا يتعارض مع الاحتمال الأول، هو أن روسيا اكتشفت الخديعة التي أوقعتها بها القيادة الإيرانية والجنرال قاسم سليماني قائد الحملة العسكرية الإيرانية في البلاد العربية عندما ذهب إلى روسيا في شهر يوليو/تموز 2015 وطلب من الرئيس الروسي بوتين أن ينقذ بشار الأسد، وقد صوَّر له أن العملية الروسية سهلة وقصيرة، ومكاسبها كبيرة، فهي تمنح روسيا وبوتين فرصة اللاعب الدولي الذي يحرك قواته العسكرية خارج حدوده، ويصبح بوتين من الزعماء الذين يقررون مستقبل خرائط الشرق الأوسط، وهي الفرصة التي لم تستطع روسيا تحقيقها أيام الاتحاد الروسي، وقد قدمتها إيران لروسيا في سوريا على طبق من ذهب، وقد وافقت روسيا على هذه الخديعة الإيرانية بأن صرح وزير الخارجية الأمريكي جون كيري في حينها، بأن "أمريكا لا تمانع إرسال قوات روسية إلى سوريا ما دام أنها ستشارك في حرب الدولة الإسلامية داعش"، وأن أمريكا ترحب بكل قوات تقوم بذلك، فانطلت الخديعة الأمريكية الإيرانية على فلاديمير بوتين، أو أنه أراد أن يستغل هذه الخديعة وهو مدرك لها، وأرسل قواته وهو يظن أنه يستطيع خلال أسابيع وأشهر قليلة تغيير معادلة الصراع في سوريا، ولكن وبعد خمسة أشهر تبين له أن كل ما استطاع تحقيقه هو استعادة 3% من الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة السورية، ومن ثم فهو أمام سنوات ومستنقع أفغاني جديد في سوريا، وما يرجح هذا الاحتمالَ هو الاحتمالُ الثالث، وهو يتحدث عن الخلاف الروسي الإيراني في سوريا.
الاحتمال الثالث: هذا الاحتمال يسلط الضوء على أثر الاختلاف الروسي الإيراني في دور كل منهما في سوريا، سواء في قيادة المعارك في سوريا أو في الدور السياسي لهما، وأيضاً دور بشار الأسد فيها، فالإيرانيون يريدون الجيش الروسي عصا غليظة لضرب الثورة السورية لمصلحتهم، وروسيا جاءت لضرب المعارضين لبوتين من المتطوعين الروس في سوريا، والإحداثيات التي أعطيت للجيش الروسي في الشهر الأول لم تكن صحيحة، ومصدرها جيش الأسد والحرس الثوري الإيراني، ولذلك أخذت روسيا تطلب تحديد مواقع الإرهابيين، وليس غريباً أن تكون روسيا قد اكتشفت أن هناك تعاوناً عسكرياً بين الحرس الثوري الإيراني وبشار الأسد مع تنظيم الدولة الإسلامية داعش، ومن ثم فإن الاختلاف الإيراني الروسي قد أفقد الروس القيام بدور عسكري واضح، فقد أصبح لابروف أضحوكة أجهزة الاستخبارات العالمية لتحديد مواقع الإرهابيين وأسمائهم وغيرها، فإذا كان الأمر كذلك فهذا يعني أن روسيا اكتشفت الخديعة المزدوجة من إيران وأمريكا، ومن ثم فقرارها بالانسحاب هو رفض التورط أكثر في حرب لا تستطيع تحقيق شيء فيها، سوى القتل والتدمير ومزيد من الكراهية من السوريين والعرب والمسلمين، وقد أصبحت أمام خسائر سياسية كبيرة ضد العالم العربي والإسلامي، وليس مع تركيا فقط، وهي تريد التعاون مع السعودية والخليج العربي في مجالات الطاقة أيضاً.
الاحتمال الرابع: أن وجود روسيا في أعمال عسكرية مرهقة في سوريا سيكلفها خسارة اقتصادية ومالية كبيرة، ولعل تزويد المعارضة السورية بالصواريخ الحرارية، وإسقاطها لطائرة حربية يوم 2016/3/13، كان له وقع كبير على القيادة الروسية عجل في قرار الانسحاب، وما كان لها من مكاسب إعلامية بوجود قاعدة عسكرية في طرطوس يكفيها، وهذه القاعدة متفق عليها من أيام الحرب الباردة مع أمريكا، ولكن ما هو أهم هو اكتشاف القيادة الروسية أنها دخلت ورطة كبيرة في سوريا، وأن خلاصها الحقيقي هو في سرعة الانسحاب وقبل فوات الأوان.
لذلك طلب الرئيس بوتين من وزير خارجيته لابروف مواصلة مساعيه السياسية السابقة، وبالأخص أن مؤتمرات فيينا وجنيف3 قد حرفت مسار الحل السياسي من إنهاء لدور بشار الأسد بالكامل كما في جنيف1، وتشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات، إلى مشاركة كافة أطراف الصراع في سوريا بالحل السياسي بما فيها طرف بشار الأسد، كما هي الرؤية الروسية والأمريكية في جنيف3 ومساعي دي مستورا، ولكن بشار الأسد طمع أكثر بالوجود الروسي العسكري وأصبح يطالب بعودة الأراضي السورية كاملة تحت حكمه وسلطانه، وأن تكون مكاسب المعارضة جزءاً من التعديلات الدستورية التي قد تمنحها تشكيل حكومة شكلية كما هي عادة آل الأسد في الحكم منذ أربعة عقود، ولكن روسيا رفضت ذلك؛ لعلمها أن المعارضة السورية ترفض ذلك أولاً، وأن تأييدها لهذا المطلب من بشار الأسد سيطيل وجودها العسكري وخسائرها منه أيضاً، ولذلك من الأفضل لها الانسحاب عسكرياً من سوريا، وترك السوريين يغرقون في الألاعيب الأمريكية والإيرانية لسنوات قادمة أيضاً.
إن الخاسر الأكبر من الانسحاب الروسي من سوريا هي المشاريع الأمريكية التي كانت تخطط لتوريط روسيا في حرب طويلة، تسفك فيها دماء المسلمين أنهاراً ، ولكن بوتين يدرك خسائر هذه المعركة في الحاضر أولاً، وأنها خسائر أكبر في المستقبل، فخمس سكان روسيا الاتحادية من المسلمين، وليس من مصلحة روسيا أن تحارب ملياري مسلم في العالم، لمصلحة حفنة من المسلمين تقتلهم الأحقاد الطائفية من الإيرانيين والعلويين السوريين، ولذلك فإن بوتين، ومع بدء مفاوضات جنيف3 أراد إيصال رسالة للسوريين والمجتمع الدولي، بأن روسيا لن تكون طرفاً حربياً في تقرير مستقبل سوريا، وتكتفي بالدور السياسي، وهو ما وجه له وزير خارجيته لابروف.
إن توقيت إعلان الموقف الروسي بالانسحاب العسكري للقوات الرئيسية الروسية من سوريا في يوم انطلاق مباحثات جنيف غير المباشرة، التي أجرها دي مستورا يوم 13/3 مع وفد المعارضة السورية، ويوم 14/3 مع وفد النظام الأسدي برئاسة بشار الجعفري، وتوصل دي مستورا لخلاصة بأن الحل سيعود مرة أخرى إلى مجلس الأمن، فإن ذلك مؤشر على قناعة بوتين أن الأزمة السورية ستراوح مكانها لسنوات قادمة، حيث إن أمريكا غير جادة في الحل العسكري ولا السياسي، وعليه؛ فإن روسيا ليس من مصلحتها مشاركة أمريكا في الحل الغامض، وأمريكا تريد استخدام روسيا العصا الغليظة لفرض التقسيم في سوريا فقط.
والخاسر الثاني من الانسحاب العسكري الروسي من سوريا هو القيادة الايرانية الخامنئية، التي أتت بالروس لمواصلة مهمة فشلوا فيها، وهي القضاء على الثورة السورية والحفاظ على حكم الأسد، وحيث إن الروس كانوا أكثر جرأة وشجاعة من الإيرانيين وأعلنوا الانسحاب، فإن الإيرانيين يشعرون بالحسرة على مستقبل وجودهم في سوريا، ومن ثم ضعف محورهم العسكري والسياسي، الذي حاول الاستفادة من الغطاء العسكري الروسي لهم، وإيران تخشى أن تعود عسكرياً إلى سوريا مرة أخرى، بعد أن خففت من وجودها العسكري فيها، وبالأخص القيادات العسكرية العليا، ولذلك سيكونون عرضة أكثر للخسارة العسكرية من ذي قبل، ولا ضمانة بأن فصائل المعارضة السورية سوف تقبل شروط جنيف3 بعد الانسحاب الروسي، أي إن رحيل الأسد سيكون هو مدار الحل في المستقبل مرة أخرى، وتصريح علي أكبر ولايتي، مستشار خامنئي، على القرار الروسي، يؤكد امتعاض إيران من القرار الروسي، حيث تمنى ولايتي: "ألا يؤثر ذلك على حسن العلاقات الإيرانية والروسية في سوريا".
وأخيراً، لقد كان الموقف التركي الحاسم من رفض التدخل العسكري الروسي في سوريا، واعتبار أردوغان للوجود الروسي في سوريا نوعاً من الاحتلال الخارجي، وما لحق بروسيا من خسائر اقتصادية بسبب محاولة بوتين معاقبة تركيا على إسقاط الطائرة الروسية المعتدية على تركيا، لقد كان له أثر في مراجعة السياسة الروسية لمسارها في سوريا والمنطقة، فبينما كانت إيران تحرض روسيا ضد تركيا وقيادتها السياسية، أخذت إيران نفسها تتقارب مع القيادة التركية في الأسبوع الماضي، فقد طلبت من رئيس الوزراء التركي داود أوغلو القيام بزيارة مفاجئة لطهران لتهيئة زيارة الرئيس روحاني إلى أنقرة الشهر القادم، وتنسيق مواقفها من تقسيم سوريا، بعد أن انفردت روسيا مع أمريكا بإعلان وقف الأعمال العدائية، والحديث عن التقسيم أو الفيدرالية، وروسيا لا تريد أن ترى نفسها أمام تقارب تركي إيراني في الوقت الذي تبتعد فيه روسيا عن تركيا، وهذا مؤشر على درجة الخلاف الروسي الإيراني أولاً، وأن روسيا لم تعد تثق بالأحلاف العسكرية مع إيران ومحورها، فقد ثبت لها مدى ضعف بشار عسكرياً، وأنه لن يقوى على حكم سوريا مرة أخرى، أي إن روسيا بتدخلها العسكري ومحاولة صناعة الأحلاف العسكرية في المنطقة سوف تخسر الكثير سياسياً واقتصادياً، وهي مثقلة بأعباء تركة الاتحاد السوفييتي.
إن الانسحاب الروسي مؤشر على مراجعة روسية شاملة لسياستها في الشرق الأوسط أولاً، ومن المرجح أن يكون من آثارها المستقبلية إعادة رسم سياستها مع الدولة التركية ثانياً، فقد أثبتت صحة مواقفها السياسية في سوريا والمنطقة حكمةَ القيادة التركية، وأنها كانت أكثر القيادات نجاحاً في تجنب المكائد الأمريكية حتى لو تعرضت للنقد الأمريكي مراراً، أو إلى الاعمال العدائية من مرتزقتها في المنطقة.
المصدر/ الخليج أونلاين