تعاني مناطق كثيرة من العالم الإسلامي من انحرافات في الفكر والعقيدة والسلوك من قِبَل جماعات متشددة، اتخذت من الإسلام ستاراً تتسلح خلفه لتمارس أدواراً مشبوهة، أشبه بأدوار الاستعمار الذي يسعى لتشويه الصورة النقية لشريعة قدمت للعالم النموذج الناصع للتعايش السلمي البنَّاء على مدار أجيال متلاحقة بلغت ربوع الأرض، وأشرقت أنوارها في بابل والأندلس والسند والشام.
في نيجيريا.. يمثل المسلمون أغلبية في بلد منهك بالصراعات المتأججة التي تقع بين الحين والآخر، يروح ضحيتها أبرياء نتيجة تأجيج طائفي من قبل منحرفين؛ سواء مسلمين أو مسيحيين، في ظل تخاذل دولي، وأحياناً محاولاً التأجيج للاستفادة من مقدرات أحد البلاد التي تتمتع بقوة اقتصادية كبيرة لما تمتلكه من مخزون نفطي كبير.
عاشت نيجيريا أياماً صعبة خلال أبريل الماضي، بعد سلسلة التفجيرات التي استهدفت حافلات على مشارف العاصمة أبوجا، وراح ضحيتها أكثر من مائتي مواطن، ثم استيقظ النيجيريون على حادث أعنف؛ وهو إقدام جماعة «بوكو حرام» على خطف 223 طالبة شمال البلاد، وتهديدها بمعاملتهن كسبايا.
قصة «بوكو حرام»
جماعة إسلامية نيجيرية تعني بلهجة قبائل الهوسا «التعليم الغربي حرام»، تنشط في شمال نيجيريا، وتسعى لتطبيق الشريعة الإسلامية، وهي حركة محظورة رسمياً.
تأسست الجماعة عام 2002م في ولاية بورنو بشمال نيجيريا بزعامة المدرس ورجل الدين «محمد يوسف»، لكن الوجود الفعلي للحركة بدأ خلال عام 2004م بعد أن انتقلت إلى ولاية يوبي على الحدود مع النيجر، حيث بدأت عملياتها ضد المؤسسات الأمنية والمدنية النيجيرية.
تسعى الحركة التي يُطلق عليها أيضاً اسم «طالبان نيجيريا» إلى منع التعليم الغربي والثقافة الغربية عموماً التي ترى أنها «إفساد للمعتقدات الإسلامية»، وإلى تطبيق الشريعة الإسلامية بمجمل الأراضي النيجيرية، بما فيها ولايات الجنوب ذات الأغلبية المسيحية.
وتتكون الحركة أساساً من الطلبة الذين غادروا مقاعد الدراسة بسبب رفضهم المناهج التربوية الغربية، إضافة إلى بعض الناشطين من خارج البلاد على غرار بعض المنتسبين التشاديين.
ورغم تقارب النموذج النيجيري مع النموذج الأفغاني، لم يعثر على أي دليل قد يؤكد وجود صلة بين «بوكو حرام» وحركة «طالبان» الأفغانية، وتستهدف الحركة في عملياتها خاصة عناصر الشرطة ومراكز الأمن وكل من يتعاون مع السلطات المحلية.
وقد اغتيل زعيم الحركة «محمد يوسف» في 30 يوليو 2009م بعد ساعات من اعتقاله واحتجازه لدى قوات الأمن، وألقي القبض على «يوسف» في عملية مطاردة بعد مواجهات مسلحة اندلعت أواخر يوليو 2009م في شمال نيجيريا بين عناصر الحركة وقوات الأمن، وأسفرت حسب تقارير إعلامية عن سقوط مئات القتلى، وقد أعلنت السلطات الأمنية النيجيرية تمكنها من القضاء على الحركة بشكل كامل.
النفط و«بوكو حرام»
سلوك جماعة «بوكو حرام» وتاريخها يثير الكثير من علامات الاستفهام، فهي لا ترتبط فكرياً بالجماعات المسلحة الراديكالية المعروفة في العالم، خاصة «تنظيم القاعدة»، وللعودة لنيجيريا الدولة التي نشأت فيها «بوكو حرام»، ربما ستظهر بعد خيوط مؤامرة ترتيبها وتنسيقها لا يسمح بالتعامل معها بشكل دقيق، فالقضية تدور محورها في فلك المصالح والنفط الذي تتمتع به نيجيريا؛ وهو الأمر الذي تحدث عنه الكاتب التركي «إبراهيم قره غُل»، في مقال له بعنوان «خريطة العالم السرية للبنتاجون.. أين ستبرز الصراعات الإثنية»، كتبه عام 2004م، بعد عام من احتلال العراق، وتحدث فيه عن ماهية منطقة الأزمة، التي ستحلّ في نيجيريا ودلتا النيجر في المستقبل، مضيفاً «أحياناً بعض المعلومات نتصور أنها خيالية جداً، ولكن عندما تدركون الخطط والتحضيرات، بوسعكم توقع اندلاع الأزمات يوماً ما بسهولة»، وأشار «قره غُل» إلى أن الأزمة في نيجيريا متواصلة منذ أعوام طويلة في الحقيقة، وستستمر، وقد تودي بالبلاد إلى الانقسام.
وفي تعليقه على أزمة المخطوفين في مقال له بعنوان «تنظيم بوكو حرام والفتيات المخطوفات»، في صحيفة «يني شفق» التركية قال: إن «بوكو حرام»، إنما هي جزء من حرب قذرة، وامتداد لسيناريو تقاسم موارد نيجيريا، من خلال استغلال الصراعات بين المسلمين والمسيحيين.
بينما قال الناشط الحقوقي البارز، «أبيودون أريمو»، في حديث لوكالة «الأناضول»: «إن هذا استعمار ناعم يتحقق من خلال الباب الخلفي، وهو بالنسبة لهم بمثابة حلم يتحقق».
وللنفط تأثيرات كثيرة في المجتمع النيجيري وظهوره مع سوء توزيع عائداته في ظل فساد منتشر وطبقية وسيطرة دولية تسبب مشكلات اجتماعية وسياسية شوهت المجتمع وأربكت مكونات الدولة وتماسكها، وهو ما لخصته وزيرة المالية «نديدي عثمان» في أحد تصريحاتها بالقول: «لقد جعَلَنا البترول كسالى.. فعندما كنت طفلة تعلمت أنه يجب أن أستخدم عقلي وأجتهد كي أنجح.. أما جيل البترول الحالي فلا يهتم بذلك ولا حتى يفكر فيه.. لقد أفسَدَنا البترول»! وهو ما عبر عنه الرئيس النيجيري نفسه «أولوسيجون أوباسانجو» للقول أمام حشد جماهيري في نوفمبر 2003م: «لقد أعمانا البترول والغاز وأبعدانا عن قيمنا، بل جعلانا أكثر توحشاً وقسوة»!
وبحسب تقرير على موقع «الجزيرة» نشر في عام 2004م، فقد جاء فيه أن الولايات المتحدة تولي أهمية خاصة للنفط في دول غربي القارة الأفريقية عموماً ونيجيريا خصوصاً، حيث تنتج هذه المنطقة 4.5 ما يقرب من 6 ملايين، وهي بهذا تعتبر واحدة من أهم مناطق العالم إنتاجاً للطاقة خاصة في ظل عدم استقرار الأوضاع في دول الشرق الأوسط، وتأتي نيجيريا على رأس الدول الأفريقية التي تصدر النفط إلى الولايات المتحدة، حيث يحتل النفط النيجيري المركز الخامس بالنسبة لها بكمية تبلغ 1.5 مليون برميل يومياً.
ويتابع التقرير أن الدول الأوروبية تنافس أمريكا على النفط النيجيري، فمصالح الطرفين في مجال البترول والغاز الطبيعي بعيدة من التطابق والتآلف، فبريطانيا ترى أنها الأولى بالاستفادة من بترول نيجيريا لكونها كانت مستعمرتها لفترة طويلة، يضاف إلى ذلك أن نيجيريا عضو في رابطة «الكومنولث»، فضلاً عن أن «كون شل» البريطانية العالمية شركة من أقدم الشركات وجوداً في منطقة دلتا النيجر حيث آبار النفط النيجيري، وتذكر المصادر أن بريطانيا تعتمد على 10% من البترول النيجيري، ولذلك سيظل اهتمامها بهذه المنطقة قائماً، وقد قامت الحكومة البريطانية مؤخراً بتعزيز تعاونها الأمني مع نيجيريا، وسمحت أبوجا بالقيام بدور تأمين المنطقة من خلال تعاون أمني بين بريطانيا ونيجيريا.
ولذلك نستطيع أن نقول: إن «بوكو حرام» ظاهرة لن تخرج مسبباتها عن سوء توزيع عائدات النفط الذي أفرز الطبقية والنفوذ واحتكارها في أيدي فئة قليلة العدد مرتبطة المصالح بالولايات المتحدة والغرب؛ وهو ما أنتج ظواهر التسلح والمقاومة المغلوطة الناتجة عن ضعف الثقافة وفساد منتشر أجَّج الصراع وخلق بيئة للعنف، بدءاً من هجمات على أنابيب النفط وخطف رهائن من العاملين الأجانب في هذه الشركات، والعنف الطائفي مع الإرث القديم من الاضطرابات العرقية والصراعات الدينية.
زوجة «أوباما»
ومن اللافت للنظر الحملة التي أعلنت عنها زوجة الرئيس الأمريكي «باراك أوباما» بتضامنها مع المختطفات بنشرها على حسابها الرسمي صورة ظهرت فيها، وهي تحمل ورقة كتب عليها هاشتاج «أعيدوا بناتنا» شعار الحملة التي أطلقت عبر الإنترنت دعماً للمختطفات.
بل إن «السيدة الأولى هي التي ألقت الخطاب الأسبوعي عشية احتفال الأمريكيين بعيد الأم، الذي خصصته للحديث عن اختطاف أكثر من 200 تلميذة من مدرستهن في شمال شرق نيجيريا على أيدي «بكو حرام».
ووفقاً لبيان صادر عن المستشار الرئاسي النيجيري، «روبن أباطي»، تخطى عرض الولايات المتحدة المساعدة، الذي نقله وزير الخارجية الأمريكي «جون كيري» للرئيس النيجيري، قضية الفتيات المختطفات، وأضاف أباطي: أكد «كيري» للرئيس «جوناثان» أن الولايات المتحدة ملتزمة كلياً بإعطاء كل الدعم اللازم، والمساعدة لإنقاذ الفتيات المختطفات، ووضع حد للإرهاب الذي اجتاح أجزاء من البلاد على يد «بوكو حرام» في تلميح مباشر لتدخل أمريكي في نيجيريا.
إننا وإذ ندين ما قامت به جماعة «بوكو حرام»، ونطالب بالعمل على الوقوف في وجه مثل هذه الجماعات المنحرفة، فإننا نطرح تساؤل حول سبب كل هذا الاهتمام من قبل الولايات المتحدة حتى وصل الأمر لزوجة الرئيس على الرغم من حوادث ووقائع كثيرة لا تقل انتهاكاً عما يحدث في نيجيريا (سورية، ميانمار، حوادث الاغتصاب في الهند)، والتي لم يكن البيت الأبيض ولا الرئيس ولا زوجته بهذا الحرص والاهتمام، فهل تكون «بوكو حرام» هي الذريعة التي ستحتل بها الولايات المتحدة أحد المفاتيح الدولية في العالم وهي نيجيريا بحر النفط في أفريقيا؟