شهدت المنطقة العربية منذ اندلاع ثورات الربيع العربي في العام 2011 تغيرات عدّة
حملت معها تحديات وتهديدات واضحة للأمن القومي العربي بشكلٍ عام والخليجي بشكل خاص
ما أثار اهتمام المملكة العربية السعودية وحتّم عليها أن تلعب دوراً حاسماً في مواجهة
التطورات، نظراً لما تمثله الرياض من مكانةٍ إقليمية وما تحظى به من اهتمام دولي.
وممّا لا شكّ فيه أنّ المملكة تواجه في هذه الفترة تحديات غير بسيطة، على الصعد كافة.
وتشكل المحاولات الأصولية المتطرّفة للتسلل الى الداخل، واهتزاز سلطة أنظمة
قريبة - وبخاصةٍ في اليمن - تحديات داخلية للمملكة، بما تمثله من تأثير على النفوس
الضعيفة، لا سيما على الحدود السعودية الجنوبية.
وفي المعالجة الداخلية، كانت سياسة المملكة حريصة على سن التشريعات اللازمة
لترسيخ الأمن الوطني، فأصدرت في أواخر كانون الأول/ديسمبر الماضي، أوامر ملكية
استباقية، تضمنت تجريم الانتماء إلى الجماعات والأحزاب المتطرفة، والسجن لكل من
يثبت وجوده في أماكن القتال خارج المملكة أو الانتماء إلى تيارات دينية متطرفة، أو تلك
المصنفة كمنظمات إرهابية داخلياً أو إقليمياً أو دولياً، أو تأييدها أو تبني فكرها أو
منهجها بأي صورة كانت، أو التعاطف معها بأي وسيلة كانت، أو تقديم أي شكل من
أشكال الدعم المادي أو المعنوي لها، أو التحريض على شيء من ذلك أو التشجيع عليه
أو الترويج له بالقول أو الكتابة بأي طريقة.
وبالإضافة، فقد نجحت السعودية في تجربة المناصحة والتأهيل لكل من يحمل أفكاراً
متطرفة أو تكفيرية، وذلك عبر مناصحته سواء أكان داخل السجن أو خارجه، إذ إنها
ساهمت في تصحيح أفكار أكثر من 90% من المتطرفين، وذلك بعد أن أنشأت
"مركز محمد بن نايف للمناصحة والتأهيل" في الرياض وجدة، وعملت على مناصحة
المتطرفين في أكثر من 12 ألف جلسة، ونظمت 1599 دورة علمية، وقدمت محاضرات
توعوية في المدارس والمساجد في تسع محافظات.
وعملت المملكة على تحصين الحدود البرية في الشمال والجنوب، عبر بناء سياج حديدي
مدعم بالتقنيات الحديثة، لكشف المتسللين الذين يحاولون استغلال طول الشريط الحدودي
في الشمال أو التضاريس الجبلية في الجنوب، للتسلل إما للهروب من الملاحقة الأمنية
أو لإدخال ممنوعات الى داخل الأراضي السعودية.
وفي ما يتعلّق بمحاولة الحوثيين السيطرة على اليمن، الذي يقع على الحدود الجنوبية
للسعودية، فقد قامت المملكة بنشر حرس الحدود للتصدّي لأي تسلّل.
وتكمن الأهمية هنا بالعودة الى تكتيكات السياسة الإقليمية واستراتيجياتها، إذ يعتبر
الحوثيون حلفاء لإيران، وبالتالي فإن سيطرتهم على اليمن تعتبر امتداداً للنفوذ الإيراني
الذي سيصبح موجوداً على حدود اليمن المشتركة مع السعودية.
وعلى الصعيد الدولي، يسجل للمملكة اهتماماتها في توضيح الإبهام الذي تتعرّض
له المباديء الإسلامية؛ فنظمت لهذه الغاية المؤتمر العالمي “الإسـلام ومحاربة الإرهاب”
تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وذلك لرفض التطرف
والبحث في سبل التصدي للإرهاب.
وفي خطوة لافتة، فقد تبنت المملكة إنشاء مركز دولي لمكافحة الإرهاب، وتبرّعت
في العام الماضي بمبلغ 100 مليون دولار لمركز الأمم المتحدة لمكافحة الارهاب.
وفي إطار التحديات التي تتمثل بازدياد نشاط التكفيريين الإرهابيين، بادرت المملكة
الى القيام بسلسلة من الأنشطة الوقائية، حيث وقعت مع الإتحاد الأوروبي في
كانون الثاني/ يناير الماضي، مذكّرة تفاهم في مجال مكافحة الإرهاب، كما دعت الى
– وشاركت في - مؤتمرات محلية وعالمية تهدف الى التصدي لتلك الظاهرة.
وانتقالاً إلى مزيد من التحديات الخارجية، فإنّ الدعم الذي قد يوفّره أي
تفاهم تركيّ – قطريّ للاخوان المسلمين، وبخاصةٍ في مصر، ترى فيه المملكة تهديداً
للمنطقة العربية ككل، نظراً لأهميّة مصر من حيث قدراتها أو من حيث موقعها
الجيواستراتيجي، ومن المتوقع معالجة هذه النقطة أثناء زيارة رئيس الوزراء
التركي للرياض.
ومن ناحية أخرى تنظر المملكة بعين القلق الى التدخل الإيراني في معظم الدول العربية
بشكلٍ عام، وفي الدول الأقرب إلى السعوديّة (العراق، الكويت، البحرين، اليمن)
بشكلٍ خاص، إضافة الى احتمال توصل المباحثات الأميركية الإيرانية إلى شراكة إقليمية
دون الأخذ في الإعتبار المصالح العربية والخليجية.
ذلك إلى جانب عدم وضوح الرؤية الأميركية للمنطقة - وبخاصة موقفها من
الأخوان المسلمين في مصر وعدم مساندة الشعب السوري في الحصول على حقوقه
المشروعة ودورها المتغيّر في العراق - ما قد يستدعي إعادة صياغة السياسة الخارجية
للمملكة بما يحافظ على استمرار تميز دورها ومكانتها الإقليمية والدولية.
لا شكّ في أن المملكة العربية السعوديّة تواجه تحديات جمّة على الصعد كافة، لكن
ما يطمئن في الأمر أنها مدركة تماماً لحجم هذه المخاطر، ما يخوّلها الإستمرار في
لعب دورها الدائم والفريد والمتمثّل في قيادة المراحل الصعبة بوعي وحذر.
ويدل توافد القادة الكبار في الأسبوعين الفائتين على مدى جدية خادم الحرمين الشريفين
في الإمساك بملفات المنطقة الأساسية.
ان الفترة المقبلة ستبقى الشاهد على ان ما سيكتبه التاريخ، من متغيرات استراتيجية
سيؤكّد على أهميّة دور المملكة، كالعادة. وقد علّمنا التاريخ أن ثبات الإعتدال السعودي
في مقاربة الملفات هو ما يرسم مسار الأمان للمنطقة.
تعليق