انخفاض أسعار النفط دفع طهران لإنهاء حلمها النووي خوفاً من ثورة جياع
إيران وافقت في آخر لحظة على ما رفضته منذ الوهلة الأولى
إيران وافقت في آخر لحظة على ما رفضته منذ الوهلة الأولى
تقرير - محمد الزيد
اعترف عالم السياسة أخيراً بالموهبة الإيرانية في التمثيل. فالدولة التي اعتاد فنانونها حصد جوائز السينما العالمية، أثبتت أنها ليست "ملكة الدراما" فحسب، بل أستاذة في الكوميديا السوداء أيضاً. لا برهان أمضى من ذلك من منظر المواطنين الإيرانيين وهم يحتفلون في شوارع طهران بالاتفاق النووي المبدئي. الاتفاق الذي سيطوّق طموحات البلاد النووية، ويضيّع ملياراتٍ من الدولارات اجتبتها الدولة العنيدة من مواطنيها بغية تحقيق حلمٍ أضحى بعيد المنال. دقّت أسعار النفط ناقوس الخطر فوجلت قلوب رجال السلطة في طهران. سعر البرميل لم يعد يتجاوز الخمسين دولاراً وإيران كانت تعاني من وضع اقتصادي صعب حتى حينما كان السعر يناهز السبعين. قد تحتاج بلاد الفستق والزعفران إلى عقودٍ لتعود إلى ذات الحالة الاقتصادية الهشة التي كانت عليها عند فرض العقوبات. أما اليوم فلم تتردد السلطة الحاكمة بتقديم مفاعلاتها النووية قرباناً على مذبح الاستقرار الاقتصادي لاتقاء "ثورة جياع" لطالما أقضت مضجعها.
الأنشوطة النفطية أطبقت الخناق
ينص الاتفاق النهائي - الذي لم توقعه إيران بعد - على التخلص من ثلثي أجهزة الطرد المركزي القادرة على إنتاج يورانيوم صالح للاستخدام العسكري. كما سيتوجب على طهران تفكيك مفاعلٍ كامل بسبب قدرته على إنتاج البلوتونيوم، بالإضافة إلى إخضاع كافة أبحاثها النووية للرقابة الدولية. بعد كل ما أنفقته من مال وجهد، ستضطر إيران للتقهقر إلى الخلف والنزول إلى درجةٍ كانت قد تجاوزتها في التقنية والتجهيزات. سيتحتم عليها أيضاً فتح كافة منشآتها للتفتيش الدولي المتواصل. في سيناريو آخر للفيلم الإيراني، كان من الممكن أن يمثّل هذا انتهاكاً خطيراً للسيادة. لكن: لا صوت يعلو على صوت جرس البورصة الذي غدا يدق - في كل مرةٍ - معلناً عن سعر أقل لبرميل النفط. حفاظ الدول القائدة في أوبك على مستوى إنتاجها دفع بالسلطات الإيرانية لرفع الدعم عن الوقود لتحقيق هامش ربحٍ داخلي يعوّض خسارتها الخارجية الفادحة. لا تخرج "موافقة اللحظة الأخيرة" عن هذا الإطار. الأنشوطة النفطية اِلتفّت حول العنق الاقتصادي فخنقته.
كأس سُمٍّ جديد
كان المرشد الأعلى السابق لإيران قد شبّه قبوله وقف الحرب مع العراق عام 1988 بتجرع كأسٍ من السم. ويبدو أن المذاق قد أصبح مستساغاً. فالعقوبات لن تُرفع دفعةً واحدة عقب توقيع الاتفاق النهائي، بل سيجري تخفيضها ببطء. حرفياً: قالت القوى الست إن هناك "إمكانية لخفضٍ تدريجي" للعقوبات. ما قد يغيب عن أذهان الكثيرين أن العقوبات الغربية (الأميركية - الأوروبية) تختلف عن تلك الدولية (تفرضها الأمم المتحدة). وكلٌّ منه يختلف عن الآخر في شروطه و"مشترطيه". فالولايات المتحدة أبدت استعدادها لتنفيذ "عودةٍ فورية" للعقوبات الغربية في حال انتهاك إيران للاتفاق. بل إن هناك عقوبات ستظل سارية حتى ولو وُقّع الاتفاق النهائي. فلا تزال طهران مُدانةً لدى المجتمع الدولي بدعم الإرهاب وانتهاك حقوق الإنسان وصناعة صواريخ بالستية. إن نجحت إيران في إقناع القوى الكبرى بأنها تراجعت عن تهورها النووي، فقد توقِّع معهم اتفاقاً نهائياً بعد ثلاثة أشهر يجعل من وضعها السياسي المهتز أقل تأرجحاً، ويخفف من ترنحها الاقتصادي ليصبح سيئاً فقط بعد أن كان نموذجاً للفشل.
نهاية حزينة ودورٌ مختلف
لا تخلو القصة من جانب محزن. فمسؤولو الدول الكبرى قالوا صراحةً إن تحديدهم لعشر سنوات كمدة للاتفاق المنتظر سببه "الأمل بأن يتغير النظام في إيران". ورغم ما يدل عليه التصريح من جرحٍ لاعتبار الدولة المتفاخرة على الدوام، فإن المفاوض الإيراني استقبل الملاحظة القاسية بابتسامة عاجزة. إن سكان هذا العالم، الذي غدا قرية صغيرة، دأبوا منذ سنين على التعجب من ابن قريتهم المتعثر الذي يتلخص طموحه في مشاكسة أبناء القرية الناجحين لعله يلفت النظر أو يستقطب الأضواء. فإن نجح سارع للزعم بأنه أمسى ندّاً للكبار. هو دورٌ يؤديه الممثل البارع من حينٍ لآخر ليبرر خروجه عن النص - وما أكثره.