يتحدّث الكثيرون عن "الهلال الشيعي" بأنه يمتدّ من إيران ويمرّ على العراق ثم سوريا ويصل إلى لبنان، وتجمّدت العقول المناوئة للمشروع الإيراني الصفوي مع هذا الهلال حتى صاروا لا يرون سواه.
غير أن الحقيقة التي ربما يجهلها الكثيرون، أو يتجاهلونها، أو خدعوا بغيرها في ظل "بروباغندا" إعلامية واسعة النطاق، أن إيران تحلم وتخطّط لـ "قمر" صفوي فارسي يمتدّ من طهران إلى وهران في الغرب الجزائري المحاذية للحدود مع المملكة المغربية.
هذا الأمر تؤكده شواهد كثيرة ومعطيات عديدة، من أهمها أن المد الشيعي كان ينشط في الخليج العربي ثم دول أفريقيا، وصار يمتدّ إلى أوروبا حيث يتغلغل في أوساط المهاجرين المسلمين عموماً والعرب خصوصاً والجزائريين والمغاربة بصفة أخص، ويستعمل الأساليب المختلفة من التبشير الديني إلى العمل الجمعوي والسياسي وأيضاً النشاطات الاقتصادية المتنوّعة.
الأخطر في معادلة المدّ الشيعي الإيراني، هو التركيز على الجزائر في الآونة الأخيرة، ذلك أن إيران يبدو بأنها شعرت بنهاية وجودها في سوريا بسبب الثورة الشعبية العارمة على نظامها في دمشق. وأيضاً عبر عاصفة الحزم ثم إعادة الأمل التي تقودها المملكة العربية السعودية ضد مليشياتها في اليمن. وحتى في العراق تتصاعد الثورة الشعبية من خلال العشائر، على ملالي إيران. أما لبنان حيث يهيمن تنظيم "حزب الله" الإرهابي، فيوجد حراك فعلي ضده، وخاصة بعد غرقه في مستنقع الحرب الطائفية على الشعب السوري، الذي تنذر بنهاية مشؤومة له.
كما أن الشعب الأحوازي تحرّك بدوره وخرج مارده من قمقمه، وصار يفرض قضيته على العالم العربي والإسلامي بمختلف الوسائل؛ من مظاهرات سلمية، إلى مؤتمرات دولية، وغيرهما، إلى جانب ثورة البلوش التي صارت ترهق كاهل النظام الإيراني وتستنزفه عسكرياً.
كل هذه المعطيات دفعت إيران إلى أن تسابق الزمن بتعويض وجودها في دول عربية وإسلامية أخرى، وهي تراهن كثيراً على الجزائر والمغرب وتونس وليبيا – على الرغم من الحرب- كي تكون لها بوابتها على الضفة الأخرى من بحر المتوسط، أما في مصر والأردن فلكي تحافظ على حدودها مع "إسرائيل" لتظل فلسطين هي الورقة المستعملة والمتاجر بها دائماً في كسب الحماية الدولية واختراق العالم العربي والإسلامي.
لقد رفع الجزائريون سقف التحذير من المشروع الإيراني من خلال المد الشيعي الذي صار واضحاً للعيان، فقد تحوّل الشيعة الجزائريون من السرية إلى العلنية، وصاروا يشاركون في الفضائيات الشيعية بصورهم وأسمائهم، ويتجمّعون ويتهيكلون في أطر جماعية خارج القانون، بل يسافرون إلى قم والنجف لأداء الشعائر والطقوس الشيعية.
أيضاً يمارسون التبشير- إن صحت التسمية- بالتشيّع في الشوارع والمدارس والإدارات، على عكس ما كان عليه شأنهم من قبل، إذ إنهم لا يتجرؤون حتى على ذكر تشيّع غيرهم فضلاً عن تشيّعهم، بل كانوا يذهبون للصلاة في المساجد التي كلها سنّية، ويصطفون بين الناس، وبينهم من يصلّون جماعة بنيّة الانفراد، وذلك تفادياً لأي شبهات تلاحقهم، خاصة أن مصالح الأمن في فترة معينة كانت تحصي عليهم أنفاسهم.
على المستوى الاقتصادي، صار الشيعة في الجزائر من الأثرياء في ظل الفساد الذي يعصف بالبلد، يشترون عقارات في مناطق استراتيجية، خاصة بالعاصمة، ويفتحون الشركات لتوظيف الناس وإخضاعهم لهم بالإغراء المادي ومناصب الشغل، بل إن كبار تجار الذهب في بعض الولايات هم من الشيعة الذين تلقّوا الدعم من المراجع المعمّمين في سوريا والعراق وإيران ولبنان.
لم يقتصر الأمر على ذلك، بل صاروا يتغلغلون في مؤسسات الدولة الرسمية، وتجري ترقيتهم في مناصب حساسة، حيث يكون لهم التأشير في القرار، ويحاولون مد جذورهم حتى في المؤسسة العسكرية، سواء بالتجنيد أو بوسائل أخرى، حيث توجد الكثير من حالات تزويج بنات متشيّعات لضباط مخابرات صار بينهم من يحملون الرتب المتقدمة والسامية في الجيش.
كل المعطيات المتوفرة توحي بأن التركيز الإيراني صار قوياً على الجزائر، ساعدت على ذلك عدة أسباب؛ منها الوضع السياسي والاجتماعي والأمني والاقتصادي المهترئ في البلاد، كما أنه توجد علاقات وثيقة بين نظام الملالي ونظام بوتفليقة منذ وصوله للحكم عام 1999.
وهذا واضح، فقد صارت مواقف الدولة الجزائرية في الآونة الأخيرة تتماهى مع ما يخدم إيران فقط، خاصة في سوريا، حيث إن الجزائر ظلت ترفض أي مبادرة ضد نظام الأسد، بل إنها تدعّمه استخباراتياً، ويوجد تواصل بين النظام الجزائري والنظام السوري على مستويات عليا منذ بداية الثورة في مارس/آذار 2011 إلى غاية اليوم، وسيستمر حتى النهاية، كما حدث مع القذافي في ليبيا.
وتمّ تبادل زيارات لقيادات عسكرية، وحتى المخابرات السورية طلبت من نظيرتها الجزائرية المساعدة في الاستفادة من تجربة الجيش الجزائري في إجهاض ثورة 5 أكتوبر/تشرين الأول 1988.
الأمر نفسه بالنسبة للعراق، حيث إن الجزائر قامت بمحو ديون على حكومة المالكي الذي يعدم ويعذّب الجزائريين في سجونه، مع أن العراق دولة غنيّة وثرواتها تنهبها إيران في وضح النهار.
والأمر نفسه بالنسبة لموقف الجزائر في اليمن، فقد عارضت عاصفة الحزم، وبررت ذلك بالدعوة إلى الحوار مع مليشيات الحوثية الإرهابية التي هجمت على العاصمة صنعاء وسيطرت عليها بقوة السلاح، ولم تتحدث حينها السلطات الجزائرية عن هذا الأمر، ولا تحرّكت ضد الحوثيين الذين قتلوا طلبة جزائريين في دماج ونكّلوا بهم وهم من المدنيين الذين يطلبون العلوم الشرعية فقط.
إيران مؤخراً كثّفت من عملها التبشيري في الجزائر، بل إنها عيّنت أحد أبرز الناشطين في الدفاع عن مشروعها عبر الفضائيات العربية، وهو أمير موسوي، الذي كان رئيساً لمركز دراسات في طهران، وصار ملحقاً ثقافياً في السفارة الإيرانية بالجزائر.
وكما هو معلوم أن الملحقين الثقافيين هم من يقودون نشاطات التشيّع في كل أنحاء العالم، بل يجري تكوينهم استخباراتياً ودينياً للإشراف على تصدير الخمينية وتنشيطها في البلد التي يحطّون رحالهم بها.
في 2010 أحصيت من خلال معلومات موثوقة وموثّقة، وجود 3 آلاف شيعي نشيط في الجزائر، وقد غطّيت في عملية الإحصاء 40 ولاية من بين 48 ولاية جزائرية، وهؤلاء الثلاثة آلاف شيعي لم أحتسب عائلاتهم، كما أنهم يتردّدون على إيران والعراق وسوريا في إطار مهمّة التدريب والتعلّم على نشر التشيّع، وتموين نشاطاتهم المشبوهة من قبل مراجع شيعية معروفة، وتحت رعاية جهاز الاستخبارات الإيراني.
لكن في أواخر 2014، وصلت إلى رقم جديد ومخيف؛ وهو وجود 5 آلاف شيعي جزائري، أي إن الأمر يكاد يكون قد تضاعف، مما يوحي بالتركيز الإيراني الممنهج على الجزائر، في ظل غياب كامل للأجهزة الأمنية والحكومة الجزائرية، بل إن السلطات، للأسف، تحاول التقليل من شأن التشيّع، وتتّهم من يتحدّثون عنه بالتضخيم، وهذا طبعاً لا يخدم سوى إيران، ويجعلها تمارس عملها التبشيري في صمت وراحة تامة بعيداً عن الأضواء التي تؤدي إلى الضغوطات الرسمية أو الشعبية.
يجب أن يفهم الجميع، وكل الجزائريين خصوصاً، أن مشروع إيران ليس دينياً أو مذهبياً أو طائفياً كما يريد أن يصوّره البعض، خاصة من الليبراليين والعلمانيين الذين يسيطرون على المشهد الإعلامي الجزائري.
ولا هو صراع بين "السلفيين" والمتشيّعين، كما يسوّق له أيضاً، بل هو مشروع دولة أجنبية معادية لقيم الدولة الجزائرية ويهدّد أمنها القومي. والسكوت على هذا المشروع الطائفي العنصري وتجاهله سيوصل البلاد إلى صراعات وحروب نجسة صرنا نراها اليوم في العراق وسوريا واليمن ولبنان.
وجب التصدي بقوة على المستوى الشعبي والرسمي للمشروع الإيراني الهدام الذي يجرّمه القانون المحلي في الجزائر، ودون ذلك ستصل الأمور إلى ما لا يحمد عقباه لا قدر الله.
لقد تبين مما ذكرنا سابقاً أن المشروع الإيراني بدأ يجمع حقائبه ليغادر سوريا واليمن والعراق بعدما حقق مبتغاه في تدمير هذه الدول وتخريب مكتسباتها وكيانها وبناها التحتية وأواصرها الاجتماعية والسياسية.
ووجهته في المرة القادمة هي الدول المغاربية، وعلى رأسها الجزائر والمغرب، مع أن المملكة المغربية تتخذ رسمياً بعض الإجراءات، لكنها غير كافية للتصدي للمشروع الصفوي، ومخططه يهدف إلى الحفاظ على الوجود الإيراني خارج "الجغرافية" الإيرانية المهترئة أصلاً، أو أنه يصل بها إلى ما فعله في الدول التي دمّرها بحروب طائفية نجسة من خلال مليشيات شيعية إرهابية يتحكّم في قرارها المطلق مرشد الثورة الخمينية علي خامنئي تحت سلطة "ولاية الفقيه".
مشروع إيران المدعوم من الاستخبارات الغربية، وعلى رأسها "إسرائيل"، يمتد من طهران ويصل إلى وهران، ثم يحلم بالتمدّد من طنجة إلى جاكرتا، ومن الصعب أن يحقق مبتغاه في إعادة إمبراطوريته المفقودة، لكنه من السهل تحقيق الدمار والخراب، وهذا ما تريده الصفوية لأجل أمن الصهيونية وكيانها العبري في فلسطين.
تعليق