هذا مقال عن التحركات الجديدة لتحالفات المنطقة نقلته من مركز الجزيرة للدراسات
المحور الاستراتيجي:
تعتبر المدرسة الديغولية، نسبة لشارل ديغول، الملهم الروحي للجمهورية الفرنسية الخامسة، وهي تركز على الاستقلالية والسيادة، خصوصًا عن أميركا، بالرغم من انتمائها إلى المعسكر الغربي. ويعكس هذا التوجه مؤشرات، كانسحاب فرنسا من القيادة المشتركة للناتو، في عام 1966(6). ومنها إقرار قوانين للحد من المد الثقافي الأميركي (كتحديد نسبة المحتوى الأجنبي في الإذاعات الفرنسية والإعلام)، ومعارضة الغزو الأميركي للعراق عام 2003.? المحور الاستراتيجي:
وهذا يجعل فرنسا في حالة بحث دائم عن موازنة للنفوذ الأميركي في أوروبا والعالم. ولكن يجب التفريق في هذا المقام، من وجهة نظرنا، بين نوعين من التوازن الاستراتيجي: "توازن الاحتواء" و"توازن المواجهة"؛ فالأول يكون بين الدول المرتبطة عضويًا ببعضها البعض، على مستوى الأمن والاقتصاد ومنظومة القيم، أما الثاني فلا يحصل إلا في حالة انفكاك تام من دائرة الأمن والاقتصاد والقيم. والتوازن الذي تبحث عنه فرنسا مع أميركا ينتمي إلى النوع الأول، وهذا بعكس بحثها عن توازن استراتيجي مع روسيا، مثلاً، أو مع الصين. وهنا تلتقي فرنسا مع المملكة العربية السعودية، من حيث حاجة البلدين لموازنة نفوذ أميركا.?
فالسعودية التي تحالفت مع أميركا في العام 1944، بغرض موازنة نفوذ أوروبا الاستعمارية، "توازن مواجهة"، ها هي تعود لأوروبا لموازنة نفوذ حليفتها الاستراتيجية، أميركا. ولكن في هذه المرة، تبحث السعودية عن "توازن احتواء".?
?لكن التقارب الاستراتيجي بين السعودية وفرنسا مرهون، وبعلاقة عكسية، بحجم حضور النفوذ الأميركي في منطقة كل منهما. بمعنى، أنه كلما كان النفوذ الأميركي حاضرًا بقوة في الشرق الأوسط، قلّت فرص تحالف السعودية مع فرنسا استراتيجيًا. وكلما كان الحضور الأميركي قويًا في أوروبا، فإن احتمال تحقق تحالف استراتيجي بين فرنسا والسعودية، يصبح ضعيفًا. وهذا عائد لسبب بسيط، وهو أن الحضور القوي للنفوذ الأميركي في منطقة كل منهما، في ظل ارتباط الطرفين أمنيًا واقتصاديًا بأميركا، يجعل مصالحهما مرتبطة أكثر بالولايات المتحدة، وهذا بدوره يقلل من فرص فعالية السعي لموازنة هذا النفوذ، على المستوى الاستراتيجي.
?قد يكون هنالك مناورات تكتيكية في هذا الأمر أو ذاك، لكن يظل المستوى الاستراتيجي بعيدًا عن المناورة. أما في حالة تراجع النفوذ الأميركي سواءً في أوروبا أو في الشرق الأوسط، فستنكشف مساحات واسعة لكلتا الدولتين، للتحرك والتمدد؛ فيصبح من الممكن البحث بشكل جدي عن توازن احتواء على المستوى الاستراتيجي.
فسوريا التي كانت تستخدم حركات المقاومة بغرض مواجهة تمدد أميركا في العراق، لا تستخدم الأسلوب ذاته لمواجهة نفوذ إيران المتزايد في سوريا نفسها. بل تستخدم التقارب مع السعودية ومصر للوصول لذلك. وهذا ما كان يفعله الأسد الأب. وبنفس المنطق، لا يمكن للسعودية التحالف مع حركات المقاومة ضد الولايات المتحدة، بل تستخدم عقود السلاح والاقتصاد والتحالفات مع أوروبا للوصول لهذا الهدف. وهذا مثال على الفرق بين "توازن الاحتواء" الاستراتيجي، و"توازن المواجهة" الاستراتيجي. ?
وتعتبر فرنسا ذات التقاليد الديغولية دولة نموذجية -باستثناء فترة حكم ساركوزي- لتتحالف معها السعودية بغرض إحداث توازن استراتيجي في المنطقة، بشكل خاص، ومع الولايات المتحدة بشكل عام. ويعود ذلك لكون فرنسا الديغولية واعية باستقلالها عن أميركا، من جهة، ومن أخرى لتضررها، كما السعودية، من أي اتفاق محتمل لاقتسام النفوذ بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران.?
ولما كانت تكلفة الإبقاء على حضورها العالمي باهظة، اعتمدت أميركا استراتيجية "اقتسام المغنم والمغرم". يعكس ذلك الانسحاب من العراق، وإعادة الانتشار في آسيا وأوروبا. وسيكون الاقتسام مع الأقوى والأقدر على التفاهم حول المصالح الأميركية. وهذا يعني أن تصبح أميركا طرفًا في إخضاع المنطقة لنفوذ لاعب ما، بغرض الحفاظ على مصالحها، وهنا تلتقي المصالح السعودية - الفرنسية.
?
فكما انفكت مصر أنور السادات، أمنيًا واقتصاديًا عن الاتحاد السوفيتي، لترتبط عضويًا بأميركا، فإنه ليس من المستحيل إتمام صفقة مماثلة مع لاعب إقليمي، كإيران، خصوصًا وأن هنالك إرثًا تاريخيًا من التعاون بين البلدين. وقد يساعد على ذلك ما تشهده إيران من مرحلة تحول داخلية كبرى، تتمثل في انحسار خطاب الاستعداء للخارج والمظلومية، كأساس للشرعية داخليًا، إلى خطاب قائم على التنمية، كما تمثل ذلك في الحركة الخضراء، فتيار الإصلاحيين، الذي يسعى لتحديث الدولة وبناء مؤسسات عصرية، ويسعى لبناء علاقات أوثق بالغرب(7).?
?ولترشيح السعودية كحليف نموذجي لفرنسا ما يبرره؛ فالسعودية، التي تعتمد بشكل رئيسي على القوة الجوية كأساس لقدراتها العسكرية، تمتلك أكثر من ربع مليون جندي، و977 طائرة حربية من الجيل الرابع، و368 هيلوكوبتر، بالإضافة إلى قاعدة صواريخ بُنيت وجُهزت بأحدث التقنيات الموجودة في العالم. وتمتلك أيضًا بنية تحتية للصناعة العسكرية يمكن أن تتطور إلى رافد مهم للتوازن الاستراتيجي في المنطقة.?
هنالك توسع ملحوظ في أعمال شركة "الشرق الأوسط لمحركات الطائرات". وقد دشنت شركة "السلام للطائرات"، مثلاً، عملية تصنيع لأجزاء مهمة للطائرات التي تعاقدت عليها الرياض مع واشنطن، كأجنحة ومقدمة هيكل F15. وهنالك طائرات بدون طيار تم تصنيعها داخل السعودية، كطائرة KSU3، و"صقر الصحراء"، وطائرة "نسر1". حتى وإن كانت قدرات هذه الطائرات لا تزال مدنية في الغالب، إلا أنها قد تتطور إلى مستويات عسكرية متقدمة.?
ويعتبر مستوى الإنفاق العسكري السعودي من بين المستويات الأعلى في العالم، وهذا ينسحب على التدريب. وتتمتع السعودية ببنية تحتية قوية للصيانة والتحديث، وإن كان ذلك لا يلبي كافة احتياجاتها الأمنية، إلا أنه يعطيها هامشًا عاليًا للتحرك والتمدد، بالإضافة إلى قوة ردع إقليمية.?
كما تمتلك السعودية بنية تحتية لمكافحة الإرهاب، والذي تختلف تجهيزاتها وتقنياتها عن الحاجات الأمنية التقليدية. وتجربة السعودية المتميزة في مكافحة الإرهاب، تشكّل نموذجًا يُحتذى. وهذا ما دفع خبراء مكافحة الإرهاب والضباط المختصين في الكثير من الدول المتقدمة، كفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وبريطانيا وألمانيا وغيرها، إلى القدوم إلى لرياض من أجل الوقوف على هذه التجربة الاستثنائية. كما أنها تمتلك عوامل أخرى تعزز من جاذبيتها للتحالف، كون اقتصادها الأكبر في المنطقة، وعضويتها في مجموعة العشرين، ودورها المحوري في سوق الطاقة. ?
وعلاوة على هذا كله، فإن السعودية وفرنسا، اللتين تستقيان تجاربهما وتدريباتهما العسكرية من المنظومة الأمنية ذاتها، المنظومة الغربية، قد اشتركتا في برامج تدريبية استراتيجية على مستوى عال من الأهمية. وكان آخرها تمرين (نمر 2) الذي تم في جزيرة كورسكا، في أكتوبر/تشرين الأول 2012.
بالإضافة إلى كل ماسبق، فإن كلا البلدين قد مرّا بتجربة "تعايش النفوذ" في لبنان، ولا تشير المعطيات القائمة حاليًا لوجود ما يمنع من تكرار تجربة تعايش النفوذ في سوريا، والمنطقة. ويدعم ذلك اصطفافهما معًا ضد النفوذ الإيراني في لبنان وسوريا خاصة، والعالم العربي عامة.
كل ما سبق يؤكد التقاء المصالح والحسابات الاستراتيجية الفرنسية-السعودية، بشكل عام، وفي هذا الوقت بالذات.
المحور الآني-المرحلي:
بالرغم من التقارب الفرنسي-القطري إبان حقبة ساركوزي، إلا أن النهج "المغاير" لعلاقات فرنسا بالخليج الذي يبدو أن الرئيس هولاند قد تبناه، يرفع من احتمالات تطور العلاقات السعودية-الفرنسية، في مقابل تراجع للعلاقات الفرنسية-القطرية. ويدعم هذا التحليل استعادة السعودية لدور ريادي في الكثير من ملفات المنطقة، مثل نفوذها البارز في ملف المعارضة السورية، والذي تمخض عن انتخاب أحمد الجربا رئيسًا للائتلاف المعارض، ونفوذها أيضًا في مصر.? مثلت الحقبة الساركوزية حالة استثناء بالنسبة لمصالح فرنسا التقليدية، وإرثها الدبلوماسي؛ ففرنسا الديغولية توارت عن الأنظار، لصالح التبعية لأميركا. فعادت لقيادة الناتو، ورمت بثقلها خلف المشاريع الأميركية، واقتربت من إسرائيل، على حساب علاقاتها التاريخية مع العالمين العربي والإسلامي، وتبنت سياسة الانفتاح على سوريا بهدف فك ارتباطها بإيران، ولم تنجح. كما تبنت سياسة أكثر عدائية تجاه تركيا؛ فأدت هذه الفترة الاستثنائية التي امتدت لخمس سنوات (2007-2012) إلى هزة طالت ثقة المنطقة في فرنسا. ولا يصعب تخيل دور اهتزاز الثقة في فرنسا في فشل جميع مبادراتها أثناء حكم ساركوزي، كالانفتاح على سوريا، والاتحاد من أجل المتوسط... إلخ. ?
لقد حاولت فرنسا إعادة تعريف دورها في المنطقة، عبر انتهاج سياسة "الانفتاح" وتوزيع جديد لخارطة تحالفاتها مع دول المنطقة. وقد تزامنت هذه الفترة الاستثنائية لفرنسا، مع توجه تركي نحو الشرق، ومحاولة لـ"استعادة دور تاريخي ما" لتركيا.?
وكما تعلم الأتراك من العرب وجود الصفر في الحسابات الرياضية، ها هم يتعلمون من العرب مجددًا، عدم وجود الصفر في الحسابات السياسية. فلم تنجح سياسات "تصفير المشاكل" التي تبناها مهندس السياسة الخارجية التركية ووزير خارجيتها أحمد داوود أغلو مع دول الجوار.
وقد أسهم هذان التوجهان، الفرنسي والتركي نحو الشرق، في إبراز الحاجة لتحالفات مع اللاعبين الإقليميين، كقطر، لتوسيع نفوذهم. وقد أدى تطلع قطر لدور إقليمي وعالمي إلى فترة استثنائية. فنشطت في مبادرات كثيرة للتنمية الداخلية أولاً؛ ما أدى إلى فتح شهية الشركات الغربية لدخول سوق العقود القطري، ومصالحات إقليمية، مما أعطاها ثقلاً إقليميًا، وإدارة توازن سياسي مثير للاهتمام، جمع إيران بالسعودية، وفرنسا بأميركا وسوريا بتركيا. ?
من هنا تلاقت هذه الفترة الاستثنائية لقطر، بالفترة الاستثنائية لفرنسا؛ فنما أفق للتعاون بينهما، خصوصًا في دارفور ولبنان. وبالفعل فقد لعبت الدوحة أدواراً هامة كتقارب فرنسا مع سوريا في مرحلة ما، وتوفير مظلة عربية للتدخل العسكري في ليبيا بعد اندلاع الثورة الشعبية فيها واتي أطاحت بنظام العقيد معمر القذافي. هذا غير امتلاك قطر، في فترة مضت، علاقات مميزة مع سوريا وحزب الله، مما أعطى هذه الدولة الخليجية نفوذًا واسعًا في المنطقة، في ظل اشتراكها مع إيران في حقول نفطية، ونمو علاقات متوازنة/حذرة بينهما. ?
لكنها تحولت بعد اندلاع ثورات الربيع العربي من حليف للنظام السوري إلى عدو له، مما يعني عداوة لحزب الله كذلك، الحليف الرئيس لنظام الأسد. وبعكس الحال فيما يتعلق بالثورة الليبية، رجحت الثورة السورية من احتمال عدم توافق المصالح بين قطر والسعودية، مما زاد من وتيرة التنافس بينهما في هذا الملف.
من جهة أخرى، فإن الوضع الأمني في مناطق النفوذ الفرنسية في إفريقيا قد تغير؛ فيشكّل تهديد النفوذ الفرنسي في مالي، مثلاً، خطرًا استراتيجيًا جسيمًا على دورها العالمي. فانحسار هذا الدور يعني نهاية فرنسا كقوة عالمية، وانكفاءها على ذاتها، كالبرتغال مثلاً. وهذا يشرح، جزئيًا، القرار السريع والحاسم بالتدخل العسكري الفرنسي في مالي، من قبل هولاند الذي كان يُتهم بالتردد. وقد كان لهذا انعكاس على حسابات فرنسا الإقليمية.?
فبالإضافة للتقارير التي تحدثت عن دعم لوجستي من قبل قوات النخبة السعودية لنظيراتها الفرنسية في مالي، تحتاج فرنسا لنفوذ السعودية القوي في إفريقيا؛ فالسعودية تملك تجربة مهمة فيما يتعلق بمكافحة القاعدة، وهذا ما تواجهه فرنسا. كما تمتلك أيضًا علاقات متميزة مع دول إفريقية مؤثرة ونشاط اقتصادي/خيري/دعوي هناك. وكل هذا يجعل منها حليفًا مهمًا لفرنسا. ?
وبالرغم من وجود ملاحظات لباريس على دور الهلال الأحمر القطري في مالي، والذي تجاوبت معه الدوحة إيجابيًا، إلا أن هنالك عوامل أخرى سببت تراجع العلاقات القطرية-الفرنسية. فالتحديات التي تواجهها فرنسا في إفريقيا، واستعادة السعودية لدور بارز في المنطقة (خصوصًا في سوريا ومصر)، وتعاظم الدور القطري في فرنسا من خلال الاستثمارات الضخمة، جعلت من مراجعة العلاقات الفرنسية-القطرية أمرًا مفهومًا. وهذا ما فتح المجال أمام نمو العلاقات السعودية-الفرنسية بشكل كبير في الآونة الأخيرة. وخير مثال على ذلك الزيارات العديدة لكبار المسؤولين السعوديين لباريس في أشهر مايو/أيار ويونيو/حزيران ويوليو/تموز من هذا العام 2013، والتي تركزت على صفقات التسليح والتنسيق حول سوريا.?
فالسعودية، التي كانت أول محطة عربية للرئيس هولاند بعد وصوله إلى السلطة، تعتقد بالضرورة الملحة لتسليح المعارضة. وقد شكّلت معركة القصير منعطفًا مهمًا في تاريخ الثورة السورية؛ حيث شاركت إيران وحزب الله فعليًا في العمليات العسكرية على الأرض. وقد شكّل هذا صدمة للرأي العام العربي.?
?وهذا ساهم في تأكيد مواقف السعودية من دور إيران، بملفها النووي وطموحاتها الإقليمية، في دعم النظام السوري. وهو ما غيّر قناعات دول مؤثرة، مثل فرنسا من قضية تسليح المعارضة السورية.
فبالرغم من سعيهما الحثيث لتوسيع دائرة الدعم المقدم للثورة السورية، ليشمل جماعات أوسع من دائرة الإخوان المسلمين، وهو مالم تكن قطر متحمسة له، تسعى السعودية وفرنسا لمنع تكرار سيناريو معركة القصير. ولذلك، فإن القناعة التي توصلت إليها الرياض مبكرًا، وصلت أخيرًا لقصر الإليزيه: وهي تسليح المعارضة السورية. وهذا ساهم في تقارب أكثر، ومستوى أعلى من التنسيق بين البلدين. ومع نجاح السعودية في استعادة نفوذها بين صفوف المعارضة السورية، بدا جليًا لباريس أهمية التنسيق مع الرياض لدعم سوريا.?
الخاتمة:
هنالك جو إقليمي وعالمي ملائم لتأسيس تحالف استراتيجي بين السعودية وفرنسا. وهذا سيمنح كلا البلدين ثقلاً استراتيجيًا يمكن استثماره لموازنة علاقتيهما مع الولايات المتحدة الأميركية، بشكل عام، وفي المنطقة بشكل خاص. وبالإضافة لذلك، فإن الظروف التي يمر بها الشرق الأوسط حاليًا، وتغير توجهات فرنسا تجاه تحالفاتها في المنطقة، تفتح المجال أمام هذا التحالف. ولكن يبقى الأمر مرهونًا بالرغبة السياسية لدى الطرفين، ومدى تقديرهما للمصالح وملائمة الوقت لعقد هكذا تحالف.
تعليق