فيكتور أوربان ــ البابا أوربان الثاني
خطب البابا أوربان الثاني يستحث "المسيحيين" في أوروبا على شن أولى الحملات الصليبية 1097، فقال: "يا شعب الفرنجة! شعب الله المحبوب المختار!... لقد جاءت من تخوم فلسطين، ومن مدينة القسطنطينية، أنباء محزنة تعلن أن جنساً لعيناً أبعد ما يكون عن الله، قد طغى وبغى في تلك البلاد بلاد المسيحيين، (...) وهم يهدمون المذابح في الكنائس، بعد أن يدنسوها برجسهم، ولقد قطعوا أوصال مملكة اليونان (...) طهروا قلوبكم من أدران الحقد، واقضوا على ما بينكم من نزاع، واتخذوا طريقكم إلى ضريح المسيح المقدس ربنا ومنقذنا الضريح الذي تمتلكه الآن أمم نجسة وغيره من الأماكن المقدسة التي لوثت ودنست..."
اليوم، يقول رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان في حوار لصحيفة فرانكفورتر ألجماينه تسايتونغ الألمانية إن مشكلة "المهاجرين الذين اجتاحوا المجر أن معظمهم ليسوا مسيحيين بل هم مسلمون. وهذا سؤال مهم لأن أوروبا والثقافة الأوروبية لها جذور مسيحية. أليس الموضوع برمته مثيرا للقلق لأن الثقافة الأوروبية المسيحية بالكاد قادرة على الحفاظ على القيم المسيحية لأوروبا؟"
ليس ثمة فارق كبير في تفكير "الأوربانين" إلا في كون الأول خطيباً بارعاً، فيما الآخر سياسي قد افتقر قليلاً إلى دبلوماسية الساسة الأوروبيين الذين لا يرغبون في صراحة فاقعة كهذه قد تعرقل عمل وكلائهم، حكام المنطقة العربية، في مهمة تدجين شعوبنا!
لدينا نحن مشكلة كبيرة، ربما يمكننا وصفها بـ"الطيبة الزائدة" تارة، أو بشفافية أكبر "سذاجة بالغة" فيما يتعلق بتعاملنا مع الأوروبيين؛ فيضللنا كثيراً بعض المعاملات الإنسانية من هذا الأوروبي أو ذاك عن أن ندرك أن هذا ليس سلوكاً جمعياً، وإن كان، فلا يمثل غالبية في مجتمع، ينظر ساسته على الدوام من ثقب باب أوربان الثاني الذي لم يزل قادراً رغم وفاته منذ ألف سنة أو قريباً من ذلك أن يمنع المسلمين من فتح مسجد آيا صوفيا للصلاة فيه اليوم! فأوربان الكاثوليكي حين هب لنجدة كنيسة القسطنطينية الأرثذوكسية من المسلمين السلاجقة لم يكن أتباعه إلى اليوم ليرضون هم أن تظل كنيستها خمسمائة عام مسجداً!
هذا الشعور الذي أبكى هرقل ذات يوم وهو يطل من فوق ربوة كاشفة لسوريا، راحلاً قبيل فتح أبي عبيدة رضي الله عنه لها بقليل، وهو يودعها قائلاً: "سلام عليك يا سورية، سلاماً لا اجتماع بعده ولن يدخل إليك رومي إلا خائفاً".. فما زالت أوروبا/هرقل تأنف من سورييها المسلمين، تستذكر فيهم هزائمها، يوم رحل هرقل عنها، ويوم اندحر أوربان بجيوشه الصليبية الجرارة (300 ألف صليبي بايعوه حينها على القتال).
أوربان اليوم لا يعزف لحناً نشازاً في أوروبا؛ فإذا كانت المجر لم تتخلص بعد من تأثيرات الروس، والحقبة السوفييتية؛ فإن دولاً لم تعرف إلا الرفاه و"الحريات" و"تقديس حقوق الإنسان" تعزف اللحن ذاته؛ فسلوك الصحيفة البريطانية ديلي إكسبريس التي صدّرت صفحتها الأولى (2 سبتمبر الحالي) بقصة عن كلبة وصفتها الصحيفة بـ "أكثر كلاب بريطانيا سوءا للحظ".، في حين اتهمت آلاف اللاجئين، بإحداث "فوضى" في أوروبا، ليست بدعاً من صحف الغرب ولا ساسته في التعاطي مع أزمة اللاجئين المأساوية في أوروبا، وما بثته الجزيرة مؤخراً تحت عنوان "الصندوق الأسود.. الهجرة السرية" أماط كثيراً لثام "الإنسانية" عن وجه أوروبا في تعاملها مع موجات الهجرة الجماعية التي سببتها جرائم بشار الأسد الذي يكافح الاتحاد الأوروبي من أجل بقائه في الحكم بسوريا رغم فاشيته ودمويته التي أفضت إلى أكبر هجرة جماعية إلى أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
بالعودة إلى مشكلتنا "الطيبة الزائدة أو السذاجة البالغة"، ليس المقصود بها هؤلاء الضحايا الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، وإنما المقصود كل من يصدق أن أوروبا يمكنها أن تنسى "مسيحيتها"، و"جذورها" تلك التي يتحدث عنها "العلماني" أوربان المجري، ولذا؛ فلم يعد مثيراً للعجب أن تتحدث التقارير عن اضطراب وقع فيه ساسة أوروبا الآن، حين وضعوا أمام استحقاقين متعارضين.. قوانين وتفاهمات وضعت في ظروف لم يحسبوا لها حساباً كافياً لموجة هجرة جماعية كهذه، وبين "الجذور المسيحية" التي لم يتحدث عنها أوربان المجري وحده، بل يشاطره في هذا رئيس الوزراء السلوفاكي روبرت فيتسو الذي قال إن بلاده ستستقبل 100 مسيحي سوري، إذ إن بلاده – بحسب الناطق باسم الخارجية – "لا يوجد بها مساجد، وبالتالي سيجد المسلمون صعوبة في التأقلم"!
لا تنص اتفاقية دبلن التي يناقش الغرب تطويرها اليوم على تطبيق معيار "المسيحية" في قبول اللاجئين، لكن وكالة الأنباء الألمانية وصحيفة "فيلت" قد أوردتا أخبارًا قالت فيها إن "سلوفاكيا وجمهورية التشيك وبولونيا وبلغاريا تطبقها، ولن تقبل لاجئين مسلمين". كما أن الاتفاقية لا تنص على ضرب اللاجئين مثلما تفعل المجر، ولا أخذ بصمات النساء بالقوة مثلما تفعل شرطة إيطاليا، ولم تطلب من شرطة التشيك أن تكتب على أيدي اللاجئين (كما الحيوانات!) أرقاماً بعد احتجازهم على متن قطار لكنها تفعل، كما لم تجبر الاتفاقية – على جورها – السويد على إعادة لاجئين منها رغم عدم تسجيلهم بدول الاستقبال لكنها فعلت. وما قالت للمجررين والرومان واجهوا اللاجئين بالجيش لكنهم "تطوعوا"!
أوروبا بكل تأكيد، تقاعست عن إنقاذ آلاف – لم يتم حصرهم بعد – عن الغرق، ثم لم تحسن من بعد وفادة لاجئين اتهمتم بأنهم "غير شرعيين" كمثل ذلك الطفل البرئ الذي قطع نياط قلوبنا بمشهد موته المبكي (الذي أحجمت وسائل إعلام غربية عديدة عن نشر صوره كاملاً "حفاظاً على مشاعر مشاهديها" على حد زيفها).
أأنتم نسيتم؟ لكن أوروبا لم تنس يوماً، إلى هاهنا خرجنا، وهناك انهزمنا، وأعادنا صلاح الدين نجر أذيال الخيبة، وحين عادوا داس قائد الجيوش الفرنسية الجنرال هنري غورو على قبر صلاح الدين بعد يوم من معركة ميلسون وسقوط دمشق (1920) قائلاً: "ها نحن عدنا يا صلاح الدين"، وحين استتب لهم الأمر في بلاد الشام، شرعوا بتمكين طائفة النصيرية شيئاً فشيئاً حتى دانت لهم سوريا، حؤولاً بينها والعودة إلى سابق مجدها، قاهرة لحملات الصليب.
لم تنس أوروبا، لذا تتحمل كل شيء ولا أن ترى سوريا تعود لصلاح الدين، وصلاح الدين يعود إليها، ولو كانت تدفع لذلك ثمناً باهظاً من استقبال مهين لمئات الآلاف من اللاجئين جاءوها رغماً عن إرادتها، وها هي تسعى لتقليل آثار هذه "الفوضى" على حد تعبير صحفها الآثمة، بالتوزيع والإبعاد، ثم من يدري كيف سيكون فريق من اللاجئين ضحايا أكبر بالتنصير تارة لأطفال أيتام (عرض موقع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين مقطعا صغيرا لقس يوناني يدعى ستارتيس يقدم مساعدة للاجئين مشفوعة بـ"موعظة دينية")، أو تجارة بشر في بعض البلدان الشرقية، أو حتى تجارة أعضاء إن تيسر الأمر.. ولا مبالغة؛ فما البلقان عنا ببعيد.
وإذا كانت أوروبا لم تنس؛ فإن علينا أن نتذكر دوماً، على اللاجئين أنفسهم أن يتذكروا بعد استقرارهم أن عليهم دوراً يتوجب أن يفعلوه، ورسالة يتعين أن يحملوها.. "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".