الرياض وقطار الشرق السريع: إلى اليميييييين دُر !
على افتراض أنك تقبع في منتصف المملكة العربية السعودية وعيناك متجهتان شمالاً مثل إبرة البوصلة فإن الوجهة السياسية المثلى هي أن تولي وجهك شطر الشرق يميناً حيث الثورات الاقتصادية والصناعية فائقة النمو، بدلاً عن الالتفات يساراً نحو الثورات العسكرية وحكم العسكر والديكتاتوريات السافرة والمقنعة، والشعارات العربية التي لا تغني ولا تسمن. هذا ما توصلت إليه منطقياً حين كنت في حديث عابر مع الصديق الكبير الكاتب السعودي محمد آل الشيخ في إحدى الصالات الدولية قبل رحلة جوية مشتركة..
وبعدها أخذت الرياح تعصف وتجول في رأسي حول هذا المحور تحديداً، وحول هذه الالتفاتة السياسية المطلوبة نحو الشرق بعيداً عن العاطفة القومية التي كانت تشد البوصلة السياسية السعودية طوال عقود وأثبتت – في بعض الأحيان - مدى عدم فعاليتها بشكل كبير، ذلك أن العاطفة مبدأ سديمي لا يمكن وضعه تحت مسطرة ضبط أو يمكن تبيان ماهيته، أما السياسة فإنها على النقيض من ذلك تماما، إذ هي نُظم وأطر وخطوط واضحة تمام الوضوح لا مجال للعواطف فيها، ولا للنوايا الحسنة كذلك..
وعلى إثر ذلك بدأت الأسئلة تتصاعد وتتفاعل وتصبح ذات فوران أكبر مني....
وأحدها- أي الأسئلة - سؤال ينمو بشراهة في مخيلتي وأوراقي، وكان على الهيئة التالية: أما آن للرياض أن تركب في قطار الشرق السريع بشكل فعلي؟..
كل المؤشرات والدلائل تنحو إلى هذا النحو وإلى السكة الجديدة التي أجزم أنها تشغلُ حيزاً كبيراً من الخطة السياسية السعودية التي ينتهجها الملك السعودي عبدالله بن عبدالعزيز، والتي بدأت أشم رائحتها منذ رحلته الشرق آسيوية الشهيرة وقت أن كان ولياً للعهد في العام 2003، وهي التوجه المستقبلي الأكبر في قابل الأيام الذي سيغلف السياسة الخارجية السعودية كما تشير المصادر والأحاديث التي سمعتها شخصياً من مسؤولين ومحللين ومراقبين.
كما أنها ستكون تحركاً إستراتيجياً واقعياً للتملص من قضية القطب الأوحد الأميركي وانتفاء الخيارات الأخرى بشكل تام، في عالم يموج بالتحولات السياسية المتسارعة التي لا يمكن فيه ضمان بقاء حياد هذا القطب واتساقه مع الميتدولوجيا السياسية السعودية في طريقة تعاملها مع التحولات والملفات المشتعلة التي تتميز بها المنطقة الشرق أوسطية دون سواها.
وكل الدلائل تشير إلى أن هذا القطب الجديد إن وجد فإنه سيولد من رحم القارة الصفراء ومن رحم شرقها الأقصى تحديداً، وسيكون قطباً أصفراً على وزن "الخطر الأصفر" الذي حذر منه سياسيون غربيون في اتساق أيديولوجي مع الحملة ضد القوى الآسيوية في منتصف الأربعينات..
من ناحية اقتصادية فإن الشرق بدأ في الاكتساح العالمي دون هوادة وأصبح مزاحماً مقلقاً للكثير من شاغري الكراسي الكبرى في العالم الصناعي. لكن المعضلة الأكبر تظل في الفعل السياسي لهذه الكتلة ومدى تأثيرها على مجريات الأمور في المسرح العالمي، ذلك أن السياسة الشرق آسيوية لم تصبح بتلك الفعالية المرجوة من قطب جديد - قيد التبلور - حتى الآن، وهو أمر يمكن الوصول إليه لاحقاً مع الوقت، فلا أحد سيكون بمأمن من دورة التاريخ وتقلبات العروش خلال السنوات المقبلة، ولنا في الأقطاب المُحالة إلى التقاعد أسوة حسنة...فأين الإتحاد السوفيتي والدولة العثمانية وألمانيا الهتلرية وفرنسا النابليونية وبريطانيا العظمى التي لا تغيب عنها الشمس؟..
وحين التطرق إلي الحكاية الشرق آسيوية – وهي حكاية ممتعة تشبه أسطورة الانبعاث الفينيقي – لا بد من التعريج على المراجع العربية المتخصصة، وأهمها ما يكتبه الدكتور الصديق عبدالله المدني، الذي أزعم أنه من أهم الأكاديميين العرب المتخصصين في شؤون الشرق الأقصى وأكثرهم سحراً، وقد وصلت إلى بحاره وأوراقه ودراساته بعد إرشاد من السيد الأكبر الأستاذ عثمان العمير في تزامن مع الجولة الملكية الآسيوية.
وفي محاولة لتشريح النهج السياسي السعودي المرتقب في الحقبة الملكية الجديدة، والتي يبدو فيها أن الملك عبد الله بن عبد العزيز أكثر حماساً إلى دول الشرق بعيداً عن الحلف التقليدي مع أميركا وشقيقاتها، فإنني سآتي على الكثير مما اقتبسته عن الدكتور المدني ومصادر متفرقة أخرى خلال الأسطر المقبلة..
وتعود قصة الشرق والغرب إلى الأشهر الأولى التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. بعد تلك الحرب التي خلفت الكثير من الدماء بدأ الخريطة السياسية في العالم تتحول إلى كتلتين فاعلتين:معسكر شرقي يضم الاتحاد السوفييتي ومخلفاته، ومعسكر الغرب الذي يضم القوى الإمبراطورية، وبضع دول رأت أن لا ناقة لها ولا جمل في أتون الحرب الجليدية بين المعسكرين فاحتمت بموقد " دول عدم الانحياز"، وكانت الهند أبرز مؤسسيها.
ونستون تشرشل قال وقتها " إن ستاراً حديدياً قد ضرب بين الشرق والغرب".
امتدت فترة التجاذب بين أطراف الصراع في المعسكرين حتى بدايات تسعينيات القرن الماضي قبل أن تعمل معاول "البيروستريكا الغورباتشوفية" عملها وتتسبب في تفتيت الاتحاد السوفيتي السابق، لتنهار إثر ذلك كامل المنظومة الشرقية التي كانت تستظل بالقطب المخلوع، وأدى ذلك تلقائياً إلى زوال سياسة الاستقطاب من المنهجية السياسية العالمية، واتجاه أقطاب السياسة الدولية نحو قطب أوحد يتمثل في أميركا التي أعلنت أن هناك نظاماً عالمياً جديداً يتشكل، وأنها هي صورته وأيقونته المضيئة.
وهذا ما حدث..
...( لم يسجل التاريخ العالمي الحديث مدىً إمبراطورياً فائق القوة كالذي وصلت إليه الإمبراطورية الأميركية حالياً: لا يوجد بحر في العالم إلا ولأميركا أسطول فيه، ولا سماء إلا ولأميركا طائرات وأقمار فيها، ولا بقعة برية على سائر أنحاء الرقعة الجغرافية إلا وكان للآلة العسكرية أو الصناعية الأميركية يدٌ فيها، حتى الملابس الداخلية وعمليات الإنجاب الليلية والنهارية قد تكون مستقبلا تحت مظلة أميركا .. أميركا الجديدة التي لا تغيب عنها الشمس).
وكانت الحكومة السعودية - ولا تزال - تنظر إلى الصراعات العالمية من وجهة نظر إسلامية وأخلاقية .. هذا فقط ما يحكم العلاقات السعودية مع الآخر وهو معلوم بالطبع للجميع، وكان هذا هو الموجه الرئيسي لنظرة المملكة للصراع المستقل في شبه القارة الهندية بين باكستان والهند، فباكستان تمثل طرفاً إسلامياً تدعمه المملكة بثقلها السياسي في كافة المحافل الدولية..
وإن لم يمنع ذلك من كون الهند بلد صديق أيضاً..
ذلك ما عبر عنه الملك عبدالله في قوله "الباكستان بلد شقيق وصديق والهند بلد صديق. وتلك العلاقات لا تحول بيننا وبين الهند من أجل باكستان أبداً، توجد مصالح كلاهما بلدان صديقان وما نتمناه نحن ويتمناه كل إنسان أن تعود الصداقة الحقيقية بين الهند وباكستان وهذا إن شاء الله سيكون"..
هي ليست مجرد أمنية ملكية لكنها "رؤية" تتسم بها سياسة المملكة السعودية الداعية للسلام، وعدم وضع البيض كله في سلة واحدة ابتغاءً لمصالحها القومية. العلاقة مع باكستان علاقة تاريخية وثيقة تستمد متانتها من الرباط الديني بين الدولتين، لكن هذا لا يعني تجاهل النمو الهندي اللافت للنظر.
ذلك كان آخر ما قاله الملك السعودي قبل توجهه للهند لكن دعونا نذهب إليها أولاً لنعرف عنها بعض الأشياء، وهي حصيلة من مصادر سبق وأن ذكرتها في مقدمة الفصل، مع الكثير من الإضافة والتحديث..
الهند ذات التنوع العرقي والديني والثقافي تحتضن 150 مليوناً من المسلمين وهي بذلك تمثل ثاني أكبر دولة من حيث عدد المسلمين في العالم كما تقول مصادر متفرقة.
هنا تبرز المسئولية السعودية تجاه هؤلاء باعتبارها الراعي الأول لمصالح المسلمين في العالم، وكونها المرجعية الروحية لهم لأنها تحتضن مقدساتهم ومثوى قبر نبيهم الأخير. ومن صحاريها ووديانها وسهوبها تفوح روائح بدايات الإسلام الأول ومعارك تثبيت شوكته ودماء شهداء معاركه.
وهنا أيضاً يتداخل السياسي بالاقتصادي بالأخلاقي بالديني.أقانيم متفرقة تلك التي تجعل من نيودلهي مرفأ جديداً لسياسيي السعودية بعد إحجام طويل من الرسو عليها. (إحجام بلغ عمره أكثر من نصف قرن).
في الهند يمارس المسلون دورهم الطبيعي داخل الدولة ويتمتعون بكافة حقوقهم المدنية والدينية.. لم يكن هذا الأمر لافتاً بالنسبة للمسلمين فقط، إنما للعالم بأسره الذي ينظر إلى تجربة الهند الديمقراطية بشيء من الاحترام الممزوج بالدهشة لمقدرة هذه الدولة على المحافظة على وحدة كيانها ويرى بعض المراقبين أن ذلك نابع من تمسك الهند منذ استقلالها بالليبرالية السياسية والديمقراطية كخيار حاسم لا يعلوه خيار آخر، ما أدى إلى تراجع الأهواء والخيارات المتعددة وتوفر المناخ الملائم للإبداع والتنمية فصارت الهند على ما نراها عليه اليوم.
فقد تم تداول السلطة سلمياً بين الأحزاب حتى وصل الأمر إلى تنصيب رجل من الأقلية السيخية رئيساً للوزراء وتولي رئاسة الجمهورية رجل مسلم.
وأخيراً أجمعت النخب السياسية الهندية الأولى وقوى المجتمع المدني على أن الهند بتراثها الحضاري والفلسفي الغني وموقعها الاستراتيجي المتميز على تقاطع طرق الملاحة العالمية ما بين الغرب والشرق الأقصى لا يمكنها إلا أن تلعب دوراً مؤثراً وإيجابياً في شئون العالم، وبالتالي فإن عليها اعتماد سياسة خارجية متوازنة إزاء اللاعبين الكبار على الساحة الدولية وبشكل يحمي أولاً وأخيراً حرية القرار الخارجي وأمن البلاد وسلامتها.
ولعل أهم الأدلة على قدرة السياسة الخارجية الهندية على التكيف السريع مع المتغيرات الدولية هو قدرتها الفائقة في مطلع التسعينات على مواجهة المتغيرات التي صاحبت انتهاء الحرب الباردة تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار المنظومة الاشتراكية وبروز الولايات المتحدة كقطب عالمي أوحد، في وقت كانت فيه دول كثيرة عاجزة عن قراءة تلك المتغيرات بطريقة صحيحة أو ساكنة بانتظار حدوث معجزة تعيد عقارب الساعة إلى الوراء.
حمل الملك عبدالله كل هذه الخلفيات في طريقه للهند.. حط رحاله وهو مليء بالآمال الاقتصادية للمملكة ومارس الأدوار المهمة اقتصادياً في الدولتين أمراء ومؤسسات وشركات وآمال المهتمين بالسلام في شرق القارة الهندية للدور المتوقع أن يلعبه الملك عبدالله في كل تلك الاتجاهات.
من جانبها فإن الهند أعطت الزيارة ما تستحقه من اهتمام، ولاحظ مراقبون مخضرمون لشؤون العلاقات السعودية مع الهند ذلك "الخرق التاريخي" الذي قام به رئيس الوزراء الهندي حيث خرج على البروتوكول المعتاد للحكومة الهندية، واستقبل الملك السعودي في أرض المطار، وهي إشارة لافتة حول الرغبة الهندية في أن تكون الزيارة تاريخية بكل المقاييس؛ إذ هي فعلاً أول زيارة لمسئول سعودي كبير منذ عهد الملك فيصل الذي كان مهتماً بتعزيز العلاقات أكثر مع الجمهورية الباكستانية، على اعتبار رابط الديانة الواحدة الذي يجمع البلدين.
حققت زيارة الملك السعودي إلى الهند - وكما كان متوقعاً منها- عديداً من الأهداف الداعمة لمصالح الدولتين الاقتصادية والسياسية.. منها ما تعلق بمكافحة الإرهاب ومنع الازدواج الضريبي وتنشيط وحماية الاستثمارات.. كل ذلك في إطار ما عرف بإعلان نيودلهي الذي أعاد للعلاقات الدبلوماسية بين البلدين الانتعاش بعد فتور دام حوالي النصف قرن.
وأهم ما نص عليه الاتفاق قيام السعودية بمد الهند بحجم كاف ومستقر ومتزايد من النفط إيماناً من السعودية بأهمية استقرار الإمداد النفطي وثبات الأسعار وانخفاضها من أجل استقرار الاقتصاد العالمي.
إثر ذلك صرح عدد من المسئولين الهنود بأن نيودلهي حريصة على علاقات وثيقة مع الرياض باستمرار حيث العمل المشترك نحو خلق إمكانيات وفرص توثيق العلاقات الاقتصادية بين البلدين لا سيما من خلال توحيد القدرات والمهارات الهندية في مجال الموارد البشرية واحتياطيات النفط والغاز السعودية.
واستطاع الملك عبدالله بذلك إعادة النهر إلى مجراه مدخلاً إحدى أهم الدول من حيث معدلات النمو الاقتصادي في شرق العالم كشريك أساسي في رفد الاقتصاد السعودي، كل ذلك دون أن يصطدم بالإرث الضخم من المساعدات السعودية للباكستان والذي تجلى في أبرز صوره في رفض عضوية الهند في منظمة المؤتمر الإسلامي تأييداً للموقف الباكستاني.
تنفس الجميع الصعداء بعد نجاح الزيارة التي كانت محفوفة بكثير من مصاعب التاريخ.
- تستضيف المملكة العربية السعودية عمالة هندية تقدر بحوالي مليون ونصف المليون شخص، ومثل هذا العدد تقريبا من العمالة الباكستانية، كما أن شركة الخطوط الجوية السعودية ذات الأسطول الضخم من الطائرات العملاقة لها خمس محطات رئيسة في مدن هندية كبيرة هي مومباي ودلهي ومدراس وكوشن وحيدر أباد. ولـ "السعودية 58 محطة في مختلف أرجاء العالم" - .
وخلال الفترة ما بين مارس (آذار) من العام الماضي شهدت العلاقات بين البلدين تطورا ملحوظا طال جوانب اقتصادية وسياسية وثقافية وذلك بدأب متواصل من اللجنة السعودية الهندية المشتركة، وهي كان تأخر عملها ثماني سنوات منذ 1997 ، ولكن زار وزراء هنود عديدون المملكة ما بين مارس ومايو من بينهم وزير المال بي تشيدمبرام، ووزير النفط والغاز الطبيعي ماني شانكر ووزير الشؤون الخارجية ناتورا سينغ.
وصرح مسؤولون هنود لمرات كثيرة أن نيودلهي حريصة على علاقات وثيقة مع الرياض باستمرار حيث العمل المشترك نحو خلق إمكانيات وفرص توثيق العلاقات الاقتصادية بين البلدين، لاسيما من خلال توحيد القدرات والمهارات الهندية في مجال الموارد البشرية واحتياطات النفط والغاز السعودية
وحين سألت السفير السعودي النشط لدى الهند صالح الغامدي في خضم الزيارة الملكية لنيودلهي قائلاً "سيدي..هل تأخرتم في الوصول إلى الهند؟" قال لي:"طبعاً هذه الزيارة تأتي بعد 50 عاماً من زيارة الملك سعود. كان هناك فتور في العلاقات بين البلدين لكن الأمور الآن أصبحت جيدةً جداً، وزيارة الملك عبدلله صححت مسار العلاقات، وستكون هناك انطلاقة جديدة للعلاقات".
وقال لي السفير تعليقاً على انتقاد بعض الصحف الهندية المملكة العربية السعودية التي بذريعة أنها أقفلت الباب في وجه بلادهم إلى أن اكتشفت أهميتها، قال السفير الغامدي أنه "كلامُ إعلام قد يصيب وقد يخطئ". وأضاف موضحاً إن"الاتصالات كانت مستمرة بين البلدين والزيارات كذلك، إلا أنها لم تكن في مستوى رؤساء الدول. وبالتأكيد تبحث الصحف عن أي شيء مثير لكي تزيد إثارته".
وقال متابعا حديثه معي: "كان هناك فتور ولكن ليس قطيعة. من سبقوني في تولي السفارة هنا (في الهند) قاموا بجهود حثيثة لتطوير العلاقات، وبدوري قمت بمحاولات لتنمية العلاقات المتبادلة".
ومن طرائف تلك الزيارة أن رئيس الوزراء الهندي حادث الزميل طارق الحميد رئيس تحرير صحيفة الشرق الأوسط اللندنية بإعجاب منقطع النظير عن الملك الزائر، وذلك ظناً منه أن الحميد أحد الرعايا الهنود، فما كان من الملك عبدالله إلا أن قال له موضحاً "هذا معي".
***
على افتراض أنك تقبع في منتصف المملكة العربية السعودية وعيناك متجهتان شمالاً مثل إبرة البوصلة فإن الوجهة السياسية المثلى هي أن تولي وجهك شطر الشرق يميناً حيث الثورات الاقتصادية والصناعية فائقة النمو، بدلاً عن الالتفات يساراً نحو الثورات العسكرية وحكم العسكر والديكتاتوريات السافرة والمقنعة، والشعارات العربية التي لا تغني ولا تسمن. هذا ما توصلت إليه منطقياً حين كنت في حديث عابر مع الصديق الكبير الكاتب السعودي محمد آل الشيخ في إحدى الصالات الدولية قبل رحلة جوية مشتركة..
وبعدها أخذت الرياح تعصف وتجول في رأسي حول هذا المحور تحديداً، وحول هذه الالتفاتة السياسية المطلوبة نحو الشرق بعيداً عن العاطفة القومية التي كانت تشد البوصلة السياسية السعودية طوال عقود وأثبتت – في بعض الأحيان - مدى عدم فعاليتها بشكل كبير، ذلك أن العاطفة مبدأ سديمي لا يمكن وضعه تحت مسطرة ضبط أو يمكن تبيان ماهيته، أما السياسة فإنها على النقيض من ذلك تماما، إذ هي نُظم وأطر وخطوط واضحة تمام الوضوح لا مجال للعواطف فيها، ولا للنوايا الحسنة كذلك..
وعلى إثر ذلك بدأت الأسئلة تتصاعد وتتفاعل وتصبح ذات فوران أكبر مني....
وأحدها- أي الأسئلة - سؤال ينمو بشراهة في مخيلتي وأوراقي، وكان على الهيئة التالية: أما آن للرياض أن تركب في قطار الشرق السريع بشكل فعلي؟..
كل المؤشرات والدلائل تنحو إلى هذا النحو وإلى السكة الجديدة التي أجزم أنها تشغلُ حيزاً كبيراً من الخطة السياسية السعودية التي ينتهجها الملك السعودي عبدالله بن عبدالعزيز، والتي بدأت أشم رائحتها منذ رحلته الشرق آسيوية الشهيرة وقت أن كان ولياً للعهد في العام 2003، وهي التوجه المستقبلي الأكبر في قابل الأيام الذي سيغلف السياسة الخارجية السعودية كما تشير المصادر والأحاديث التي سمعتها شخصياً من مسؤولين ومحللين ومراقبين.
كما أنها ستكون تحركاً إستراتيجياً واقعياً للتملص من قضية القطب الأوحد الأميركي وانتفاء الخيارات الأخرى بشكل تام، في عالم يموج بالتحولات السياسية المتسارعة التي لا يمكن فيه ضمان بقاء حياد هذا القطب واتساقه مع الميتدولوجيا السياسية السعودية في طريقة تعاملها مع التحولات والملفات المشتعلة التي تتميز بها المنطقة الشرق أوسطية دون سواها.
وكل الدلائل تشير إلى أن هذا القطب الجديد إن وجد فإنه سيولد من رحم القارة الصفراء ومن رحم شرقها الأقصى تحديداً، وسيكون قطباً أصفراً على وزن "الخطر الأصفر" الذي حذر منه سياسيون غربيون في اتساق أيديولوجي مع الحملة ضد القوى الآسيوية في منتصف الأربعينات..
من ناحية اقتصادية فإن الشرق بدأ في الاكتساح العالمي دون هوادة وأصبح مزاحماً مقلقاً للكثير من شاغري الكراسي الكبرى في العالم الصناعي. لكن المعضلة الأكبر تظل في الفعل السياسي لهذه الكتلة ومدى تأثيرها على مجريات الأمور في المسرح العالمي، ذلك أن السياسة الشرق آسيوية لم تصبح بتلك الفعالية المرجوة من قطب جديد - قيد التبلور - حتى الآن، وهو أمر يمكن الوصول إليه لاحقاً مع الوقت، فلا أحد سيكون بمأمن من دورة التاريخ وتقلبات العروش خلال السنوات المقبلة، ولنا في الأقطاب المُحالة إلى التقاعد أسوة حسنة...فأين الإتحاد السوفيتي والدولة العثمانية وألمانيا الهتلرية وفرنسا النابليونية وبريطانيا العظمى التي لا تغيب عنها الشمس؟..
وحين التطرق إلي الحكاية الشرق آسيوية – وهي حكاية ممتعة تشبه أسطورة الانبعاث الفينيقي – لا بد من التعريج على المراجع العربية المتخصصة، وأهمها ما يكتبه الدكتور الصديق عبدالله المدني، الذي أزعم أنه من أهم الأكاديميين العرب المتخصصين في شؤون الشرق الأقصى وأكثرهم سحراً، وقد وصلت إلى بحاره وأوراقه ودراساته بعد إرشاد من السيد الأكبر الأستاذ عثمان العمير في تزامن مع الجولة الملكية الآسيوية.
وفي محاولة لتشريح النهج السياسي السعودي المرتقب في الحقبة الملكية الجديدة، والتي يبدو فيها أن الملك عبد الله بن عبد العزيز أكثر حماساً إلى دول الشرق بعيداً عن الحلف التقليدي مع أميركا وشقيقاتها، فإنني سآتي على الكثير مما اقتبسته عن الدكتور المدني ومصادر متفرقة أخرى خلال الأسطر المقبلة..
وتعود قصة الشرق والغرب إلى الأشهر الأولى التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. بعد تلك الحرب التي خلفت الكثير من الدماء بدأ الخريطة السياسية في العالم تتحول إلى كتلتين فاعلتين:معسكر شرقي يضم الاتحاد السوفييتي ومخلفاته، ومعسكر الغرب الذي يضم القوى الإمبراطورية، وبضع دول رأت أن لا ناقة لها ولا جمل في أتون الحرب الجليدية بين المعسكرين فاحتمت بموقد " دول عدم الانحياز"، وكانت الهند أبرز مؤسسيها.
ونستون تشرشل قال وقتها " إن ستاراً حديدياً قد ضرب بين الشرق والغرب".
امتدت فترة التجاذب بين أطراف الصراع في المعسكرين حتى بدايات تسعينيات القرن الماضي قبل أن تعمل معاول "البيروستريكا الغورباتشوفية" عملها وتتسبب في تفتيت الاتحاد السوفيتي السابق، لتنهار إثر ذلك كامل المنظومة الشرقية التي كانت تستظل بالقطب المخلوع، وأدى ذلك تلقائياً إلى زوال سياسة الاستقطاب من المنهجية السياسية العالمية، واتجاه أقطاب السياسة الدولية نحو قطب أوحد يتمثل في أميركا التي أعلنت أن هناك نظاماً عالمياً جديداً يتشكل، وأنها هي صورته وأيقونته المضيئة.
وهذا ما حدث..
...( لم يسجل التاريخ العالمي الحديث مدىً إمبراطورياً فائق القوة كالذي وصلت إليه الإمبراطورية الأميركية حالياً: لا يوجد بحر في العالم إلا ولأميركا أسطول فيه، ولا سماء إلا ولأميركا طائرات وأقمار فيها، ولا بقعة برية على سائر أنحاء الرقعة الجغرافية إلا وكان للآلة العسكرية أو الصناعية الأميركية يدٌ فيها، حتى الملابس الداخلية وعمليات الإنجاب الليلية والنهارية قد تكون مستقبلا تحت مظلة أميركا .. أميركا الجديدة التي لا تغيب عنها الشمس).
وكانت الحكومة السعودية - ولا تزال - تنظر إلى الصراعات العالمية من وجهة نظر إسلامية وأخلاقية .. هذا فقط ما يحكم العلاقات السعودية مع الآخر وهو معلوم بالطبع للجميع، وكان هذا هو الموجه الرئيسي لنظرة المملكة للصراع المستقل في شبه القارة الهندية بين باكستان والهند، فباكستان تمثل طرفاً إسلامياً تدعمه المملكة بثقلها السياسي في كافة المحافل الدولية..
وإن لم يمنع ذلك من كون الهند بلد صديق أيضاً..
ذلك ما عبر عنه الملك عبدالله في قوله "الباكستان بلد شقيق وصديق والهند بلد صديق. وتلك العلاقات لا تحول بيننا وبين الهند من أجل باكستان أبداً، توجد مصالح كلاهما بلدان صديقان وما نتمناه نحن ويتمناه كل إنسان أن تعود الصداقة الحقيقية بين الهند وباكستان وهذا إن شاء الله سيكون"..
هي ليست مجرد أمنية ملكية لكنها "رؤية" تتسم بها سياسة المملكة السعودية الداعية للسلام، وعدم وضع البيض كله في سلة واحدة ابتغاءً لمصالحها القومية. العلاقة مع باكستان علاقة تاريخية وثيقة تستمد متانتها من الرباط الديني بين الدولتين، لكن هذا لا يعني تجاهل النمو الهندي اللافت للنظر.
ذلك كان آخر ما قاله الملك السعودي قبل توجهه للهند لكن دعونا نذهب إليها أولاً لنعرف عنها بعض الأشياء، وهي حصيلة من مصادر سبق وأن ذكرتها في مقدمة الفصل، مع الكثير من الإضافة والتحديث..
الهند ذات التنوع العرقي والديني والثقافي تحتضن 150 مليوناً من المسلمين وهي بذلك تمثل ثاني أكبر دولة من حيث عدد المسلمين في العالم كما تقول مصادر متفرقة.
هنا تبرز المسئولية السعودية تجاه هؤلاء باعتبارها الراعي الأول لمصالح المسلمين في العالم، وكونها المرجعية الروحية لهم لأنها تحتضن مقدساتهم ومثوى قبر نبيهم الأخير. ومن صحاريها ووديانها وسهوبها تفوح روائح بدايات الإسلام الأول ومعارك تثبيت شوكته ودماء شهداء معاركه.
وهنا أيضاً يتداخل السياسي بالاقتصادي بالأخلاقي بالديني.أقانيم متفرقة تلك التي تجعل من نيودلهي مرفأ جديداً لسياسيي السعودية بعد إحجام طويل من الرسو عليها. (إحجام بلغ عمره أكثر من نصف قرن).
في الهند يمارس المسلون دورهم الطبيعي داخل الدولة ويتمتعون بكافة حقوقهم المدنية والدينية.. لم يكن هذا الأمر لافتاً بالنسبة للمسلمين فقط، إنما للعالم بأسره الذي ينظر إلى تجربة الهند الديمقراطية بشيء من الاحترام الممزوج بالدهشة لمقدرة هذه الدولة على المحافظة على وحدة كيانها ويرى بعض المراقبين أن ذلك نابع من تمسك الهند منذ استقلالها بالليبرالية السياسية والديمقراطية كخيار حاسم لا يعلوه خيار آخر، ما أدى إلى تراجع الأهواء والخيارات المتعددة وتوفر المناخ الملائم للإبداع والتنمية فصارت الهند على ما نراها عليه اليوم.
فقد تم تداول السلطة سلمياً بين الأحزاب حتى وصل الأمر إلى تنصيب رجل من الأقلية السيخية رئيساً للوزراء وتولي رئاسة الجمهورية رجل مسلم.
وأخيراً أجمعت النخب السياسية الهندية الأولى وقوى المجتمع المدني على أن الهند بتراثها الحضاري والفلسفي الغني وموقعها الاستراتيجي المتميز على تقاطع طرق الملاحة العالمية ما بين الغرب والشرق الأقصى لا يمكنها إلا أن تلعب دوراً مؤثراً وإيجابياً في شئون العالم، وبالتالي فإن عليها اعتماد سياسة خارجية متوازنة إزاء اللاعبين الكبار على الساحة الدولية وبشكل يحمي أولاً وأخيراً حرية القرار الخارجي وأمن البلاد وسلامتها.
ولعل أهم الأدلة على قدرة السياسة الخارجية الهندية على التكيف السريع مع المتغيرات الدولية هو قدرتها الفائقة في مطلع التسعينات على مواجهة المتغيرات التي صاحبت انتهاء الحرب الباردة تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار المنظومة الاشتراكية وبروز الولايات المتحدة كقطب عالمي أوحد، في وقت كانت فيه دول كثيرة عاجزة عن قراءة تلك المتغيرات بطريقة صحيحة أو ساكنة بانتظار حدوث معجزة تعيد عقارب الساعة إلى الوراء.
حمل الملك عبدالله كل هذه الخلفيات في طريقه للهند.. حط رحاله وهو مليء بالآمال الاقتصادية للمملكة ومارس الأدوار المهمة اقتصادياً في الدولتين أمراء ومؤسسات وشركات وآمال المهتمين بالسلام في شرق القارة الهندية للدور المتوقع أن يلعبه الملك عبدالله في كل تلك الاتجاهات.
من جانبها فإن الهند أعطت الزيارة ما تستحقه من اهتمام، ولاحظ مراقبون مخضرمون لشؤون العلاقات السعودية مع الهند ذلك "الخرق التاريخي" الذي قام به رئيس الوزراء الهندي حيث خرج على البروتوكول المعتاد للحكومة الهندية، واستقبل الملك السعودي في أرض المطار، وهي إشارة لافتة حول الرغبة الهندية في أن تكون الزيارة تاريخية بكل المقاييس؛ إذ هي فعلاً أول زيارة لمسئول سعودي كبير منذ عهد الملك فيصل الذي كان مهتماً بتعزيز العلاقات أكثر مع الجمهورية الباكستانية، على اعتبار رابط الديانة الواحدة الذي يجمع البلدين.
حققت زيارة الملك السعودي إلى الهند - وكما كان متوقعاً منها- عديداً من الأهداف الداعمة لمصالح الدولتين الاقتصادية والسياسية.. منها ما تعلق بمكافحة الإرهاب ومنع الازدواج الضريبي وتنشيط وحماية الاستثمارات.. كل ذلك في إطار ما عرف بإعلان نيودلهي الذي أعاد للعلاقات الدبلوماسية بين البلدين الانتعاش بعد فتور دام حوالي النصف قرن.
وأهم ما نص عليه الاتفاق قيام السعودية بمد الهند بحجم كاف ومستقر ومتزايد من النفط إيماناً من السعودية بأهمية استقرار الإمداد النفطي وثبات الأسعار وانخفاضها من أجل استقرار الاقتصاد العالمي.
إثر ذلك صرح عدد من المسئولين الهنود بأن نيودلهي حريصة على علاقات وثيقة مع الرياض باستمرار حيث العمل المشترك نحو خلق إمكانيات وفرص توثيق العلاقات الاقتصادية بين البلدين لا سيما من خلال توحيد القدرات والمهارات الهندية في مجال الموارد البشرية واحتياطيات النفط والغاز السعودية.
واستطاع الملك عبدالله بذلك إعادة النهر إلى مجراه مدخلاً إحدى أهم الدول من حيث معدلات النمو الاقتصادي في شرق العالم كشريك أساسي في رفد الاقتصاد السعودي، كل ذلك دون أن يصطدم بالإرث الضخم من المساعدات السعودية للباكستان والذي تجلى في أبرز صوره في رفض عضوية الهند في منظمة المؤتمر الإسلامي تأييداً للموقف الباكستاني.
تنفس الجميع الصعداء بعد نجاح الزيارة التي كانت محفوفة بكثير من مصاعب التاريخ.
- تستضيف المملكة العربية السعودية عمالة هندية تقدر بحوالي مليون ونصف المليون شخص، ومثل هذا العدد تقريبا من العمالة الباكستانية، كما أن شركة الخطوط الجوية السعودية ذات الأسطول الضخم من الطائرات العملاقة لها خمس محطات رئيسة في مدن هندية كبيرة هي مومباي ودلهي ومدراس وكوشن وحيدر أباد. ولـ "السعودية 58 محطة في مختلف أرجاء العالم" - .
وخلال الفترة ما بين مارس (آذار) من العام الماضي شهدت العلاقات بين البلدين تطورا ملحوظا طال جوانب اقتصادية وسياسية وثقافية وذلك بدأب متواصل من اللجنة السعودية الهندية المشتركة، وهي كان تأخر عملها ثماني سنوات منذ 1997 ، ولكن زار وزراء هنود عديدون المملكة ما بين مارس ومايو من بينهم وزير المال بي تشيدمبرام، ووزير النفط والغاز الطبيعي ماني شانكر ووزير الشؤون الخارجية ناتورا سينغ.
وصرح مسؤولون هنود لمرات كثيرة أن نيودلهي حريصة على علاقات وثيقة مع الرياض باستمرار حيث العمل المشترك نحو خلق إمكانيات وفرص توثيق العلاقات الاقتصادية بين البلدين، لاسيما من خلال توحيد القدرات والمهارات الهندية في مجال الموارد البشرية واحتياطات النفط والغاز السعودية
وحين سألت السفير السعودي النشط لدى الهند صالح الغامدي في خضم الزيارة الملكية لنيودلهي قائلاً "سيدي..هل تأخرتم في الوصول إلى الهند؟" قال لي:"طبعاً هذه الزيارة تأتي بعد 50 عاماً من زيارة الملك سعود. كان هناك فتور في العلاقات بين البلدين لكن الأمور الآن أصبحت جيدةً جداً، وزيارة الملك عبدلله صححت مسار العلاقات، وستكون هناك انطلاقة جديدة للعلاقات".
وقال لي السفير تعليقاً على انتقاد بعض الصحف الهندية المملكة العربية السعودية التي بذريعة أنها أقفلت الباب في وجه بلادهم إلى أن اكتشفت أهميتها، قال السفير الغامدي أنه "كلامُ إعلام قد يصيب وقد يخطئ". وأضاف موضحاً إن"الاتصالات كانت مستمرة بين البلدين والزيارات كذلك، إلا أنها لم تكن في مستوى رؤساء الدول. وبالتأكيد تبحث الصحف عن أي شيء مثير لكي تزيد إثارته".
وقال متابعا حديثه معي: "كان هناك فتور ولكن ليس قطيعة. من سبقوني في تولي السفارة هنا (في الهند) قاموا بجهود حثيثة لتطوير العلاقات، وبدوري قمت بمحاولات لتنمية العلاقات المتبادلة".
ومن طرائف تلك الزيارة أن رئيس الوزراء الهندي حادث الزميل طارق الحميد رئيس تحرير صحيفة الشرق الأوسط اللندنية بإعجاب منقطع النظير عن الملك الزائر، وذلك ظناً منه أن الحميد أحد الرعايا الهنود، فما كان من الملك عبدالله إلا أن قال له موضحاً "هذا معي".
***
تعليق