هل هو إنكار لحرية الفرد، أو هو تسلُّط وفرض سيطرة، أو هو حماقة وطيش، أو هو شعيرة (قديمة) لا تناسب العصر. وقد قيل ذلك. أما ماذا؟!! أسئلة تحار بينها وفيها عقول، وتُغرق في الإجابة عنها أقلام، وتتفرق كلمات وآراء!! وهيهات لكاتب أو ناصح أو مجرِّب أن يُقنع الناس جميعاً أو يحسم القضية بينهم، ولكنّي سأحاول تناول الموضوع بعبارة يسيرة وعرض واضح وبُعْد عن الجَدَل، فقد بَعُدَت الشقة ودخل في الحوار من هبَّ ودبَّ، وقال من قال ما يخطر بباله دون ميزان أو إنصاف. وبئست الحياة مفصولة عن كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وبئس القوم يقولون أقنعنا بالعقل دون الشرع!! وبالحقائق المادية دون أدلة القرآن والسنة.
وأنَّى لعقولنا أن تعارض كتاب الله تعالى أو تبطل حقائقه، أو تعارض أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تبدع ما يفوق سنته وسيرته. وقد قال الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} [آل عمران:110]. فتشير هذه الآية إلى أن الله تعالى جعل المسلمين خير أمة، فهم خير الأمم كافة، ولا داعي أن نعدد الأمم التي نحن خير منها، وإن كانت الآية الأخرى ستذكرها صراحة، فلماذا نحن خير الأمم؟ هل لأننا عرب، قطعاً لا، وهل لأننا نمتاز عن الأمم بلون أو جنس أو لغة أو جغرافيا أو حتى تاريخ، قطعاً لا، وإنما جاء الجواب وفي الآية نفسها {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}؛ إذ إن تلك الأمم قديماً وحديثاً كلها لا تعرف شيئاً اسمه: أمر بمعروف أو نهي عن منكر، وليس في دينها أو أنظمتها، وإن قال من قال: إن عند بعضهم نهي عن بعض الفساد، فهو نهي مبتور مشروط، والقصد منه تنظيم الحياة المادية والمحافظة على العُرف في البلد فقط، والدليل أن الفساد الذي يُنهى عنه يُسمح به في أماكن أخرى وأزمنة أخرى، بل وينظم ويقنن إشباعاً للغرائز وتلبية للحرية المنفلتة!!
وتبقى الأمة التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر هي الأمة المسلمة فقط، تأمر بالمعروف إرضاء لله تعالى وطلباً لثوابه، وتنهى عن المنكر طاعة لله تعالى وخوفاً من عقابه، وهي تحقق بذلك مصالح عاجلة وآجلة، وتحفظ المجتمع من الفساد والانهيار والتفكك والصراع وضياع القيم والأخلاق، ولذلك فقدت الأمم التي لا تأمر بالمعروف ولا تنهى عن المنكر القيم والأخلاق، ولا أخص خُلُقاً واحداً وإنما كل الأخلاق، وإن كان بعضها أطهر من بعض.
والسؤال الذي أوجهه إلى أي كاتب يخالف في ذلك هو: هل لدى غيرنا من المِلَل والديانات خُلُقاً اسمه الحياء؟ وهل هو جزء من حياتهم كلهم؟ بكل اطمئنان نقول: كلا،وإن كنت سمعت أن بعض (المتدينين) من اليهود لا يسمحون ببعض الحركات الجنسية بين النساء والرجال (الاغتصاب) ولكن ذلك ليس حياء من الله تعالى، وإنما اجتهاد من بعضهم، لأننا وجدنا من رجال الكنيسة من يُزاول تلك المخالفات ويقول: إنه يتقرب بذلك، هو ومَن معه من النساء إلى الله!!
قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المائدة:78-79]. فلماذا حقت عليهم لعنة الله؟ والجواب في الآية: {بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ}، فسمَّى ترك النهي عن المنكر اعتداء، وهو اعتداء ليس على البشر، ولكن على شريعة الله ودينه، وهنا وقفة نفيسة من النص، فبعض المنافقين أو ضعفاء الإيمان يرمون بشبهة خطيرة وهي: أن الأمر بالمعروف يكفي؛ لأنه لن يُبقى منكر!! والنهي عن المنكر لا يناسب عصرنا!! ويكفي عنه الأمر بالمعروف هكذا قالوا وزعموا؛ والآية الكريمة تنص على أن اللعنة حقت على أولئك بسبب ترك النهي عن المنكر، وذلك لأهميته وضرورته، فهو الجناح الآخر للشعيرة، وبدونه لا تقوم ولا ينوب عنه شيء.
لقد شَرَّف الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلها سبباً لحفظ كرامتها وأعراض نسائها ورجالها وصيانة مجتمعها، وأوجب الله تعالى تلك الشعيرة على كل مسلم ومسلمة صغاراً أو كباراً، متعلمين أو جهالاً، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فقلبه وذلك أضعف الإيمان" رواه مسلم فليغيره وجوباً، فلا يُعقَل ولا يُقبل أن يبقى المنكر دون تغيير!! ولكن التغيير يكون على مراحل:
1 – المرحلة الأولى: (باليد) لمن يستطيع ذلك ويملكه، ويتمكن ويتيقن من جدوى تغييره، ولا يترتب على تغييره منكر آخر في النفس أو البلد أو غيرها، فإن عجز ينتقل للمرحلة الثانية.
2 – المرحلة الثانية: (باللسان) لمن يستطيع ذلك ويملكه، ويتمكن ويتيقن من جدوى تغييره، ولا يترتب على تغيير منكر آخر في النفس أو البلد أو غيرها. والإنكار باللسان يكون بالحديث الشفهي أو الكتابة إلى من يهمه الأمر. فإن عجز ينتقل للمرحلة الثالثة.
3 – المرحلة الثالثة: (بالقلب) وهنا يقع سوء الفهم وربما الخُبْث والحماقة، فما التغيير بالقلب وما مظاهره؟
إن التغيير بالقلب يعني:
أ – عدم الرضا بالمنكر.
ب – ظهور عدم الرضا على ملامح الإنسان وأقواله، وليس بالضرورة في صورة نهي، ولكن بالتعريض والتلميح.
ج – عدم المشاركة في المنكر والجلوس مع أهله إقراراً لهم.
د – البحث عن الفرصة والظروف المناسبة للإنكار باليد أو اللسان.
هـ - ألا يكون الإنسان شريكاً في المنكر أصلاً: فكيف يُعقل أو يليق أن يقول قائل: إنني أُنكر بقلبي على المدخن مثلاً وهو يدخن معه!! أو يقول: إني أنكر بقلبي على مشاهد العورات وهو شريك له، وعلى هذا يُقاس كل منكر، مثل الغش في الامتحانات، أو الغش في البيع والربا وأكل الحرام والغيبة، وأكرر كلمة الغيبة وغيرها.
ثم تأتي قضية أخرى إذا سَلَّمنا بوجوب النهي عن المنكر بمراحله الثلاث، وهي قضية الأسلوب باليد أو اللسان، فالرفق واللين وحسن انتقاء الألفاظ لوازم مهمة لمن يسر الله له التغيير أو كُلّف به، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، وقال تعالى لموسى وأخيه هارون عليهما السلام: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، قولا له قولاً لينا وهو كافر، بل مدع للألوهية، ومن باب أولى أن يكون الإنكار بقول لين مع المسلمين والرفق بهم، فالعاصي ضعيف، وقد هزمه الشيطان وغلبه، فهو مُحتاج لرفق وحكمة لعل الله أن يفتح صدره للحق ويقتنع به.
والمحتسب حينما يكون ليناً رفيقاً بمن ينكر عليهم فلن يكون مُعنفاً ولا مُنفراً ولا فاضحاً ولا مشهراً، بل هو حريص على الستر والإصلاح، وحفظ كرامات الناس وحرماتهم وأموالهم وأعراضهم، وحينما يعبر المحتسب عن حبه الصادق لمن يدعوهم إلى الخير سيكون مقبولاً مرحباً به، وسيشكر على موقفه ويزداد قَدْرُه ومكانته، ولا يحسبنَّ أحمق أو جاهل أن الرفق أو اللين تعني التخاذل أو التهاون في إنكار المنكر، أو التعاطف مع المجرمين والمفسدين؛ فالعاصي المجاهر بفسقه، والناشر للفساد والمتلاعب بأعراض الناس وبخاصة النساء، ونشر الرذيلة في المجتمع، هؤلاء يجب على الجهات المسؤولة من الشرطة ورجال الحسبة المكلفين الحزم معهم، وعدم التهاون أو قبول الشفاعات لتركهم والتغاضي عنهم، وإنما يجب أن يُقَدَّموا للقضاء يحكم فيهم شرع الله تعالى.
وهنا وقفات في الحسبة يجب أن نقف معها:
1 – التطرف يولد التطرف، فالشدة مع العاصي تنفره وتبعده عن الحق، وتسبب التعاطف معه من قبل غوغاء الناس، كما أن الشدة مع المحتسب وسوء الظن به والعنف في التعامل معه يسبب تطرفاً أكثر، ورغبة في الثأر والشكوك في الجهات التي تتعامل معه، ولذلك ندعو الجميع إلى اللين والحكمة وتقدير جهود العاملين المخلصين.
2 – يدعو بعض الناس إلى التدرج في إنكار المنكر، وهي كلمة حق يراد بها باطل أحياناً، فالتدرج يكون في الأمر بالسنن أو النهي عن المكروهات، أما الواجبات وبخاصة أركان الإسلام فلا تدرج في الأمر بها، والمحرمات من الكبائر لا تدرج في النهي عنها.
3 – حينما يتربى المجتمع كله على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ستختفي منكرات كثيرة، ويعالج فساد كبير دون عقوبات أو جزاءات، وبذلك تدرك إعجاز القرآن الكريم وبلاغته في استعمال كلمة {يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة:79]، فلم يقل ينهون إنما قال: {يَتَنَاهَوْنَ} ومعناها: ينهى بعضهم بعضاً، فالآمر بالمعروف لديه الاستعداد لقبول ذلك من غيره، فهو يأمر ويُؤمر، والناهي عن المنكر لديه الاستعداد لأن يقبل ذلك من غيره فهو يَنهى عن المنكر ويُنهى؛ لأن الكمال لله تعالى والعصمة لرسله، أما البشر فكلهم خَطَّاء، ولا يعني معرفة الواحد منّا أنه مقصر في أداء واجبات أو سنن أو مرتكب لمحرمات، أن يسقط عنه واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل يجب أن يأمر وينهى كل بحسب قدرته، ويستجيب لمن يأمره وينهاه، وبذلك تتحقق الخيرية لهذه الأمة، ويصلح شأنها وتستقيم حياتها، وتتجنب عقاب الله تعالى وانتقامه من المجرمين والمحاربين لدينه ورسله.
4 – الصبر: ما أجمل هذه الكلمة؛ ونحن نتحدث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا بد أن نشير إلى أن المحتسب يؤدي وظيفة الأنبياء، وكل قائم بهذه المهمة الشريفة الفاضلة لا بد أن يتعرض للأذى كما أوذي الرسل، يتعرض للأذى لأنه يصادم شهوات أصحاب الشهوات ويحول بينهم – بزعمهم – وبين شهواتهم، لذلك يؤذونه ويحتقرونه ويحرضون عليه ويشتمون به، فلا بد أن يصبر، وتلك حقيقة ذكرها القرآن الكريم في أكثر من موضع، قال تعالى في وصية لقمان لابنه: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17]، إذا لا بد بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الصبر على ما يُصيب المحتسب من أذى، ولد أكدت ذلك سورة العصر بعبارة صريحة واضحة، قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3]، {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ}: أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} على الأذى الذي يصيبهم في تواصيهم بالحق وأداء واجب الاحتساب.
وكما أسلفت جاءت العبارة {وَتَوَاصَوْا} أي أوصى بعضهم بعضاً، فكل آمر بالمعروف، وكل ناه عن المنكر سيؤذى باليد أو باللسان، فعليه أن يصير وله من الله الأجر العظيم والثواب الجزيل ونعم أجر الصابرين.
وأخيراً لا بد للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من التخلق بالحلم والحكمة، {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269]، جعلنا الله هداة مهتدين، وأصلح أحوال المسلمين، وأعاذنا الله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ورزقنا ذكره وشكره إنه جواد كريم.