منقوول
بعد أن خرج جيش يزيد إلى الشام في 23 من رجب عام 12هـ أرسل الصديق المدد له حتى بلغ قوام الجيش في علياء نحو 7500 مقاتل, وواكب ذلك سقوط "دومة الجندل" في يد خالد بن الوليد 24 من رجب, وبذلك تم تأمين طريق المسلمين إلى الشام, وبقيت القوة التي يرأسها خالد بن سعيد في تيماء, وبعد خروج يزيد بثلاثة أيام فقط أمر الصديق بخروج الجيش الثالث لفتح الشام, والذي كان بقيادة شرحبيل بن حسنة .فأحضره الصديق, وأخذ يوصيه للقتال فقال له: أسمعت وصيتي إلى يزيد بن أبي سفيان. قال له: نعم. قال: فإني أوصيك بمثلها, غير أني قد سهوت عن بعض الأمور فإني أحدثك إياها, ويبلغها من يبلغها بعد ذلك إلى يزيد, فقال له: أوصيك بالصلاة على وقتها ويظهر من هذا الموقف أن المسلمين كانوا يحرصون على الصلاة على وقتها, حتى في أحلك المواقف, فإنهم كانوا يجمعون الظهر بالعصر. والمغرب مع العشاء. بحيث لا يفوتهم وقت الصلاة, ويصلون الصبح قبل طلوع الشمس دائمًا, حتى أنهم عندما فاتتهم صلاة الصبح في فتح تستر, وكانوا آنذاك على أبواب الفتح, وكان أمامهم إما حرب الفرس والفتح, وإما صلاة الصبح, فاختار أبو موسى الأشعري الدخول في الفتح, ثم ندم على ذلك ندمًا عظيمًا. وقال: لقد أضعت اليوم صلاة ما أود أن لي الدنيا جميعًا بهذه الصلاة, وهذا على الرغم من أن المسلمين كانوا مضطرين لفعل ذلك, وإلا لهاجمهم الفرس وقتلوهم..ثم قال له: وبالصبر يوم البأس حتى تظفر أو تقتل (فالمسلم دائمًا بين إحدى هاتين الحسنيين. إما النصر وإما الشهادة, فليس لديه الهزيمة ولا الفرار, وحتى إن فرَّ المسلم فإنما يفرُّ متحفزًا لقتال) ثم يوصيه بثلاث وصايا أخرى. وهي وصايا قد لا يتوقع أحد أن يُوصَى بها قائد معركة. يقول له: وبعيادة المرضى. وبحضور الجنائز (وللصديق مغزى من ذكر ذلك الأمر؛ لأن هذا الجيش الكبير الذي سيخرج لملاقاة عدو خطير كالروم لا بد أنه سيكون فيه جرحى وقتلى كثيرون؛ فينبهه بوجوب عيادة هؤلاء المرضى وحضور جنائز من يُتَوفىَّ من الشهداء, وإذا كان هذا الأمر للمحارب, فلا شك أننا أولى به في أمور السلم) ثم الوصية الأخيرة: وذكر الله كثيرًا في كل حال (وقد علمنا من الحروب السابقة أن القائد كان يجعل لهم شعارًا يرددونه طوال الحرب, ويكون عادةً نوعًا من الذكر, يتواصى المسلمون به دائمًا).وكان أبو سفيان (والد يزيد ) حاضرًا تلك الوصية, فقال: رحمك الله يا أبا بكر, لقد كان يزيد بهذه الأمور مستوصيًا, وبها عاملاً قبل أن يسير إلى الشام, وهو الآن لها ألزم إن شاء الله. (فيطمئن الصديق على أن يزيدَ كان ينفذ ما في الوصية وهو في المدينة, ويطمئنه أنه لا شك سيأخذ بها أثناء حربه).ويخرج جيش شرحبيل بن حسنة يوم 27 من المروة إلى مكان يسمى بصرى في شمال عمان, ويمر بنفس طريق يزيد ويتجاوز جيش يزيد في علياء, ويعسكر في منطقة بصرى كما وصف له الصديق تمامًا, ويمكث في انتظار أوامر الصديق .الروم يستعدون لمواجهة المسلمين :
توجه خالد بن سعيد إلى منطقة الجابية وانضم إلى جيش أبي عبيدة, وسمع الروم عن استعدادات المسلمين لقتالهم, وأن هناك ثلاثة جيوش بدأت تحاصر الشام من الشرق والجنوب, وكان هرقل -قيصر الروم آنذاك- موجودًا في فلسطين. (وكان هرقل عندما وصلته رسالة رسول الله قد أخبرهم أن هـذا الرجل -أي رسول الله - على الحق, وأنه يجب أن نتبعه, ولكن البطاركة وأهل السطوة والنفوذ في الجيش رفضوا ذلك, وثاروا عليه, فتراجع عما قاله, وزعم أنه كان يختبر مدى ولائهم لدولة الروم), ولم يستجب لرسول الله, ففي قلبه منذ ذلك الحين شعور أن هذا الجيش الإسلامي القادم جيش منصور؛ لأنه على الحق, فكان يخشى ملاقاته..ولذا قرر أنه لن يقاتل المسلمين, وقال لهم: إني أرى أنه لو قاتلنا هؤلاء القوم لغلبونا على الشام, ولقاتلونا على جبال الروم. (أي أنه يخشى أن ينتصر المسلمون عليهم فيأخذوا الشام, ويصلوا إلى حدود دولة الروم) قال: فأرى أن نقسم معهم الشام, فنصف الأرض أحسن من ضياعها, لكن حاشيته وقادته ثارت عليه, ورفض أخوه ذلك الأمر, وطالبوه بالحرب.فلما لم يجد هرقل أي استجابة منهم لرأيه وافق على الحرب, وبدأ يحمس الناس على حرب المسلمين, على الرغم من يقينه بأن هذه المعارك خاسرة.قام قيصر الروم بإلقاء خطبة فيهم في بيت المقدس فقال: "يا أهل هذا الدين (أي النصرانية, وهو يخاطبهم من منطلق ديني) إن الله قد كان إليكم محسنًا, وكان لدينكم معزًّا وله ناصرًا على الأمم الخالية وعلى كسرى والمجوس والترك الذين لا يعلمون, وعلى من سواهم من الأمم كلها, وذلك أنكم كنتم تعملون بكتاب ربكم, فلما بدلتم وغيرتم أطمع ذلك فيكم قومًا ما كنا نعتدهم, ولا نخاف أن نُبتلى بهم, وقد ساروا إلينا حفاة عراة جياعًا, أخرجهم إلى بلادكم قحط المطر, وجدوبة الأرض, وسوء الحال, فسيروا إليهم فقاتلوهم عن دينكم وعن بلادكم وعن نسائكم وأولادكم", فهذه خطبة قيصر الروم, نلاحظ أنه يغلب على أكثر ما قال الصحة, وخاصة ما يتعلق بـ "كنتم تعملون بكتاب ربكم فلما بدلتم وغيرتم أطمع فيكم أقوامًا", إذ يرى قيصر الروم أن القوم إذا عملوا بكتاب الله نصرهم الله, وهذا صحيح تمام الصحة, وإذا بدلوا وغيروا فإن الله سبحانه يمكن منهم أي قوم آخرين, حتى وإن كانوا أضعف منهم وأقل عدة, وحتى إن كانوا من قبلُ أذلاء لا يُعتد بهم مطلقًا..ونجد هذا الأصل باقيًا عندنا في الإسلام, وقد حضَّ عليه رسول الله كثيرًا, إذ قال: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم, كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها", قالوا: أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: "بل أنتم يومئذٍ كثير, ولكنكم غثاء كغثاء السيل, ولينزعن الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم, وليقذفن في قلوبكم الوهن", قالوا: وما الوهن يا رسول الله: قال: "حب الدنيا وكراهية الموت". رواه الترمذي من حديث ثوبان .فها هو رسول الله يقول أننا إذا اتبعنا كتاب الله وسنة رسوله كتبت لنا الغلبة على كل الشعوب, أما إذا بدلنا وغيرنا واتبعنا هوى أنفسنا, فإن ذاك سينزع المهابة من قلوب أعداء الله, ويضع فينا حب الدنيا وكراهية الموت (أي في سبيل الله), فليس المقصود أن نتمنى الموت, وإنما أن نكون زاهدين في الدنيا ومحبين للشهادة في سبيل الله, فإذا عظمت عندنا الدنيا عن الشهادة في سبيل الله, فهذا هو الوهن وهذا ما يمكن الأعداء مهما كانت قلتهم منا, (كما نرى عدد اليهود بالمقارنة بعدد المسلمين اليوم!) فهذا من ضعف المسلمين, وليس من قوة اليهود!!ولكن لديه جزء واحد فقط أخطأ في تقديره, وهو قوله عن المسلمين أنهم ساروا (حفاة عراة جياعًا, أخرجهم قحط المطر, وجدوبة الأرض, وسوء الحال!), فلم يكن هذا هو ما أخرج المسلمين قطعًا.فلم يخرج المسلمون أبدًا رغبة في رغد العيش في الشام أو رغبة في ثمار الشام, وإنما خرجوا لنصر الله ونشر دينه في الأرض, وتعبيد الناس لرب العالمين, وكان خلفاء المسلمين دائمًا يوصون قادتهم بألا يجعلوا الدنيا أبدًا في أعينهم, وأن يجعلوا الآخرة هي همهم الدائم.بعد تلك الخطبة ترك هرقل بيت المقدس فورًا وانطلق إلى دمشق, فألقى خطابًا مثل ذلك الخطاب في أهل دمشق يحمسهم على القتال, ثم خرج إلى حمص فخطب نفس الخطبة, ثم خرج من حمص إلى أقصى شمال الشام في أنطاكية وخطب فيها نفس الخطبة, وعسكر هناك, وجعلها مقره, فأتته جموع شتى.يقول الرواة (جموع لا يعلم عددها إلا الله) من كثرتها, ثم يقول القيصر بعد ذلك: وإني أعلم أن جيوش المسلمين إذا جمعت بكاملها تكون أقل من مدينة من مدن الروم (أي أنه يستقل بجيش المسلمين), ومع ذلك -يقول لهم- فإني ممدكم بالرجال حتى لا تستطيع أرض الشام أن تتحملهم. كل ذلكم كي يلقي الحمية في قلوب جيشه, ويجعلهم واثقين من النصر.( صورة لمواقع الروم، ومواقع المسلمين ).الصِّدِّيق يرسل المدد :
بدأ الصديق في إنفاذ وعده, فاستحث المسلمين على الخروج مرة أخرى, واستحضر اثنين من القادة العظماء هما: هاشم بن عتبة بن أبي وقاص[1], وسعيد بن عامر.فيخرج مع هاشم ألف مقاتل يرسلهم أبو بكر إلى جيش أبي عبيدة بن الجراح ويوصيه أبو بكر , فيقول له: يا هاشم, إنه من حظك, ومن كرم الله عليك أن يجعل المسلمين يستعينون بك, فعش مجاهدًا في سبيل الله.ثم يوصيه سعد بن أبي وقاص , فيقول: يا ابن أخي, لا تضرب ضربة بسيف ولا طعنة برمح إلا في سبيل الله, (أي يحثه على أن تكون نيته خالصة, وأن ينبذ الدنيا من أمامه), فيقول هاشم: وكيف أجعل يا عمي الدنيا في عيني, وقد علمت أني عائدٌ إلى ربي.ويخرج مع سعيد بن عامر سبعمائة ويرسله الصديق إلى جيش يزيد بن أبي سفيان ويخرج في جيش سعيد بن عامر مؤذن رسول الله الصحابي الجليل بلال بن رباح يريد أن يخرج للجهاد في سبيل الله, إلا أن أبا بكر الصديق يسترجعه في أمر خروجه, إذ كان يريده أن يبقى معه في المدينة, فيقول له بلال: يا أبا بكر إن كنت قد أعتقتني[2] لأقعد معك بجانبك, فإني سأفعل, وإن كنت قد أعتقتني لله, فخلِّ بيني وبين الجهاد في سبيل الله.فيقول له الصديق : والله إني ما أعتقتك إلا لله, ولكني أريدك أن تؤذن للمسلمين, وإني أستأنس برأيك ومشورتك, فيقول بلال: فإن هواي في الجهاد. فيقول له أبو بكر: إذًا اخرج للجهاد في سبيل الله, فيخشى بلال أن يكون قد أجبر خليفة رسول الله على رأي لا يريده, فيقول: إن شئت بقيت معك, فيقول له أبو بكر: لا. بل اخرج للجهاد في سبيل الله, ولكني أودعك وداعًا, فلعلي لا ألقاك بعده إلا في يوم البعث! ويودعه. (ويحدث ما توقعه الصديق, إذ لا يرى بلالاً بعد ذلك في الدنيا رضي الله عنهما).فيخرج سعيد بن عامر بقيادة الجيش, ويخرج معه بلال وأرضاه يجاهد في أرض الشام.خرج أيضًا من المسلمين حمزة بن مالك على رأس ألفي مقاتل من المسلمين جاءوا من همذان, وخرجت جموع أخرى كثيرة مددًا للمسلمين كما وعد أبو بكر الصديق.استكمل الجيش الإسلامي عدته في أرض الشام, وجمُِعت بعضُ القوات الرومية في غزة, وتقدمت هذه القوات بقيادة سرجيوس أحد كبار القادة الرومان, وتوجهت خلف الجيش الإسلامي, حتى تقاتل المسلمين من الخلف!!!فماذا كان ردُّ فعل المسلمين على هذا الالتفاف الرومي؟ هذا ما سنعرفه في المقال القادم إن شاء الله.خروج جيش أبي عبيدة :
بعد نحو 10 أيام من خروج جيش شرحبيل يأمر الصديق بخروج جيش أبي عبيدة, وكان فيهم قيس بن مكشوح أحد الذين ارتدوا مرتين: في حياة الرسول ثم عاد، وبعد وفاته مرة أخرى ثم عاد إلى الإسلام.وقبل الصديق أن يخرج في جيش المسلمين إلى الشام, لما رأى له من المكانة والرأي والبأس, وكان قد اطمئن لمكانته وإسلامه, وكان يخشى أن يكون في صدر أبا عبيدة مأخذًا عليه, أو ألا يستعين به في القتال, فذهب إلى أبي عبيدة, وقال له: إنه قد صحبك رجل عظيم الشرف, فارس من فرسان العرب, ليس للمسلمين غناء عن رأيه ومشورته وبأسه في الحرب, فأدنه, وأره أنك غير مستغنٍ عن رأيه ولا مستهين بأمره, فإنك تستخرج بذلك نصيحته لك وجهده وجده على عدوك.ثم يقول لقيس: إني بعثتك مع أبي عبيدة بن الجراح الأمين الذي إذا ظُلِم لم يظلم, وإذا أُسِيءَ إليه غفر, وإذا قُطِعَ وصل (وهو هنا يعظم له من شأن أبي عبيدة بما فيه من خصائل حميدة, وذلك حتى لا يعلو على أمره, ولكي يستجيب لتعليماته؛ لأن قيسًا كان من كبار الناس في الجاهلية, وخشي الصديق أن يختلف مع أبي عبيدة.. وجدير بالذكر أن تلك الصفات يجب أن يتحلى بها كل مسلم. ولكن الأجدر بها هو من يملك زمام الأمور؛ لأنه إذا كانت عنده القدرة على الظلم فظلم فإن لذلك مضار كثيرة على المسلمين, أما من لا يملك السلطة فإن قدرته على الظلم ستكون ضعيفة) رحيم بالمؤمنين, شديدٌ على الكافرين، فلا تَعْصينَّ له أمرًا ولا تخالفنَّ له رأيًا, فإنه لن يأمرك إلا بخير, وقد أمرته أن يسمع منك. (يشير له أنه لم يغفل مكانته عند أبي عبيدة, وأنه عظَّم من شأنه) فلا تأمره إلا بتقوى الله, فإنا كنا نسمع أنك شريفٌ ذو بأس, سيد مجرب في زمان الجاهلية, فلا تنصحه إلا بخير فإنه سيسمع لك, فاجعل بأسك وشدتك ونجدتك في الإسلام على المشركين, وعلى من كفر بالله وعبد معه غيره, فقد جعل الله في ذلك الأجر العظيم والثواب الجزيل.فيقول قيس بن مكشوح وقد انشرح صدره من هذه الكلمات: إن بقيت وأبقاك الله, فسيبلغك عني من حيطتي للمسلمين, وجهدي على الكافرين ما تحب, وتُسَرُّ إن شاء الله رب العالمين.وقد كان على عهده وأبلى بلاءً حسنًا في حروب الشام, وقال أبو بكر بعد أن رأى له بعض المواقف المشهودة في فتح الشام, قال: صدق قيس بن مكشوح.ثم يقول أبو بكر لأبي عبيدة: إنك تخرج في أشراف الناس, وبيوتات العرب, وصلحاء المسلمين وفرسان الجاهلية, كانوا يقاتلون قبل ذلك على الحمية, وهم يقاتلون اليوم على النية الحسنة, أَحْسِنْ صحبة من صحبك, وليكن الناس عندك في الحق سواء.ثم يوصيه وصية أخرى بعد أن ولىَّ بكلمات كأنها الوداع الأخير له (لأن أبا بكر قد توفاه الله قبل أن يعود أبو عبيدة بجيشه) يقول له: "يا أبا عبيدة, اعمل صالحًا, وعش مجاهدًا, وتوفَّ شهيدًا, يعطك الله كتابك بيمينك, وتقر عينك في دنياك وآخرتك, فوالله إني لأرجو أن تكون من التوابين الأوابين المخشعين الزاهدين في الدنيا, والراغبين في الآخرة, إن الله قد صنع بك خيرًا, وساقه إليك إذ جعلك في جيش من المسلمين إلى عدوه من المشركين, فقاتل من كفر بالله وأشرك معه غيره".وهي وصية جامعة من أبي بكر الصديق إلى أبي عبيدة الجراح رضي الله عنهما يجب أن نحفظها جيدًا ونتذكرها جيدًا ,ونتوقف هنا عندها قليلاً:يقول له: "اعمل صالحًا" وهذا جُمَّاع كل خير, أن يعمل المرء الأعمال الصالحة في حياته, ولن يقبل الله سبحانه منا مجرد النيات, وإنما يقبل العمل الصالح الموافق لسنة رسول الله , وأفضل هذا العمل الجهاد في سبيل الله؛ لذلك يقول له: "عش مجاهدًا".فضل الجهاد والشهادة:
وفي فضل الجهاد والشهادة في سبيل الله يروى عن التابعيِّ الجليل عبد الله بن المبارك رحمه الله أنه عندما كان يجاهد في بلاد الشام أتته رسالة من الفضيل بن عياض -وكان مجاورًا بالحرمين الشريفين، ويلقب بعابد الحرمين- يدعوه فيها إلى المجاورة معه؛ فأراد أن يعرفه أن الاعتكاف -على عظم أجره- لا يُقارن بالجهاد في سبيل الله؛ فأرسل إليه قائلاً:يا عابد الحرمين لو أبصرتنا *** لعلمت أنك بالعبادة تلعبمن كان يخضب خده بدموعه *** فنحورنا بدماءنا تتخضبأو كان يتعب خيله في باطل *** فخيولنا يوم الصبيحة تتعبريح العبير لكم ونحن عبيرنا *** وهج السنابك والغبار الأطيبولقد أتانا من مقال نبـينا *** قول صحيح صادق لا يكـذبلا يستوي غبار خيل الله في *** أنف امرئ ودخان نار تلهبهـذا كتاب الله ينطق بيننا *** ليس الشهيد بميـت لا يكذبويسمع الفضيل ذلك فتذرف عيناه, ويقول: صدق أبو عبد الرحمن. ثم قال لمن جاءه بالرسالة: أأنت ممن يكتب الحديث؟ قال: نعم. قال له: فاكتب هذا الحديث.
تعليق