منقووول
من الذي حمل الرسالة؟ إنه سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص، كان قائدًا من قُوَّاد المسلمين في الأردن، وهو من كان يخلف سيدنا عمرو بن العاص مباشرة في إمارة الأردن، وذلك بتولية من سيدنا أبي عبيدة بن الجراح. ومن يطالع سيرة سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص يتعجب من كونه من قواد المسلمين في هذا الجهاد مع سيرته هذه، فما وجه العجب في ذلك؟!!الأمر أن سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص كان مشهورًا بين الصحابة بالعبادة والزهد والركون إلى المسجد وكان لا يأكل إلا ما يكفيه فقط للعيش، ثم يذهب ويعبد الله I ويصلِّي ويتنسَّك ويذكر الله I كثيرًا حتى شقَّ على نفسه لدرجة أنه بلغ رسول الله هذا الأمر عنه؛ فاستدعاه وقال له: "ألم أُخْبرَ أنك تصوم النهار لا تفطر، وتصلى الليل لا تنام؟!! فحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام"؛ فقال عبد الله: والله يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك؛ فقال: "فحسبك أن تصوم من كل جمعة يومين", وفي رواية: "فحسبك أن تصوم الاثنين والخميس"؛ فقال عبد الله: إني أطيق أكثر من ذلك؛ فقال رسول الله : "فهل لك في خير الصيام؟! صيام داود: كان يصوم يومًا ويفطر يومًا"؛ فلبث عليه عبد الله بن عمرو بن العاص (أصبح يصوم يومًا، ويفطر يومًا طوال حياته), ثم عاد رسول الله يسأله: "علمت أنك تجمع القرآن في ليلة(يقرأ القرآن كله كل ليلة) وإني أخشى أن يطول بك العمر وأن تمَلَّ قراءته؛ اقرأه في كل شهر مرة", فقال: إني أطيق أكثر من ذلك؛ فقال: "اقرأه في كل عشرة أيام مرة"؛ فقال: إني أطيق أكثر من ذلك؛ فقال: "اقرأه في كل ثلاث مرة" (وهذا أقلُّ وقت للقراءة)؛ فلبث على ذلك؛ فقال رسول الله : "إني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتى فليس مني", ولقد عُمِّرَ عبدُ الله بن عمرو بن العاص طويلاً فكان من معمري الصحابة، حتى أصبح شيخًا كبيرًا وساعتها كان يشُقُّ عليه الصيام (كان يصوم يومًا ويفطر يومًا)، وقراءة القرآن كل ثلاثة أيام؛ فقال: ليتنى قبلت رخصة رسول الله (لا يريد أن يتنازل عما أخبر الرسول به). وهذا يؤكد أن أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قلَّ، لكن ليس معنى ذلك أن تقلِّل من قراءة القرآن فتقرأ سورة كل شهر أو شهرين مثلاً؛ لتضمن الاستمرار في الكِبر؛ فالله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].هذا الناسك العابد كان أبوه سيدنا عمرو بن العاص يذهب ويشتكيه لرسول الله من كثرة عبادته لله I، يراه يصلي كثيرًا، ويصوم كثيرًا، فكان قلب عمرو بن العاص يشفق على ابنه من كثرة العبادة؛ فذهب إلى رسول الله يشكو إليه ابنه؛ فقال رسول الله لسيدنا عبد الله: "افعل ما أمَرتُك, (أي صيام داود، وقراءة القرآن كل ثلاثة أيام)، وأطَعْ أباك". (أي في هذا الأمر). وقد انبنى على هذه الكلمة (أطع أباك) من رسول الله لعبد الله بن عمرو بن العاص أشياء كثيرة أخرى في التاريخ الإسلامي سنأتي لها -إن شاء الله- في حينها.هذا الناسك العابد عندما جاء الجهاد كان في طليعة المجاهدين، وكان قائدًا من قواد المسلمين في الأردن، وكان أشد المحمسين للناس على القتال وترك المسجد وترك أجر ألف صلاة للصلاة الواحدة في المسجد النبوي كما تحدثنا من قبل عن أبي الدرداء، وكما تحدثنا من قبل عن كثير من الصحابة اشتُهِروا بالعبادة، واشتهروا بالذكر، واشتهروا بالصيام والصلاة والصدقة ومع ذلك عندما يأتي وقت الجهاد كانوا يتركون كل هذا ويذهبون إلى الجهاد، ويذكرون الله I في أرض المعركة في أشرف الأماكن، وهذا يوضح لنا مفهوم الإسلام الشامل، وأن الإسلام ليس مجرد عبادات أو طقوس تُنفَّذ، ولكنه يحتوي أشياء كثيرة: منها العبادة ومنها العقيدة ومنها المعاملات ومنها الجهاد في سبيل الله.
وأثناء هذا الحوار وهم جالسون في خيمة يزيد بن أبي سفيان، كان أبو سفيان بن حرب مارًّا أمام الخيمة, وهو طبعًا مشهور في الجاهلية، إذ كان من قادة قريش في الحروب، وهو الذي قاد الجيش المشرك في أُحُد والأحزاب، وكان من القادة المفكرين، وقد أسلم بعد عام الفتح وحَسُنَ إسلامه، وخرج للجهاد في أرض الشام في هذه المعركة، وكان من الذين يحمسون المسلمين للقتال، وكما سنرى بعد ذلك في موقعة اليرموك هو الذي كان معينًا لحثِّ المسلمين على القتال؛ فيدور على القبائل ويحمسها..فعرف أن داخل الخيمة قادة المسلمين يتفاهمون في الأمر، فمن قادة المسلمين؟ إنهم (خالد بن الوليد ويزيد بن أبى سفيان, كلهم في سن أبنائه، بل فيهم ابنه بالفعل) فيقول: ما كنت أظن أني أبقى حتى أرى غِلْمَةً من قريش يذكرون أمر حربهم، ويكيدون عدوهم في حضرتي ولا يُحْضِرونني!! فسمعه سيدنا أبو عبيدة وهو داخل الخيمة؛ فقال: ما رأيكم؟ فقالوا: فلْيدخلْ؛ فقال: دعه؛ فدخل عليهم أبو سفيان ؛ فقال: ما الخبر؟ فأخبروه بأمر الجيش الرومي وأنه على بُعد نصف ليلة، فكان أول ما نظر سيدنا أبو سفيان للأمر أن قال: إن معسكركم هذا ليس بمعسكر -أي أنكم إذا بقيتم في مكانكم؛ فسيكتسحكم الرومان- إني أخاف أن يأتيكم أهل فلسطين والأردن؛ فيَحُولُوا بينكم وبين مددكم من المدينة؛ فتكونوا بين عسكرهم (لأن الجيش الإسلامي موجود في الجابية وفيها بعض الرومان، والجيش الرومي قادم من الغرب إلى الشرق في اتجاه الجابية، وهو خائف من أن يلتف الجيش الرومي حولهم من جنوب الجابية؛ فيُحْصَرَ المسلمون في شمال الشام، ويمنع عنهم المدد) فيقول لهم: فارتحلوا حتى تجعلوا (أذرعات) خلف جيشكم، و(أذرعات) هذه مدينة في جنوب الجابية اسمها الآن (دِرْعة) في الأردن.فاستحسن المسلمون هذا الرأي؛ وقالوا: نِعْمَ الرأيُ أبا سفيان، وعلى الفور بدأوا يجهزون أنفسهم كي يأمروا الجيوش بالتحرك إلى (أذرعات)، وهذا ليس انسحابًا كما كان الكلام في المشاورة، بل هو اختيار لأرض المعركة كما كان يفعل المسلمون دائمًا في كل المعارك السابقة، حتى يرغموا عدوهم على القتال بها؛ فتكون لهم الغلبة.عندما وافق القادة على ذلك الرأي تحمس وتشجع، وقال لهم: إذا قبلتم هذا الرأي مني؛ فخذوا رأيًا آخر: فأمِّرُوا خالد بن الوليد على الخيول (وكان يعرف أن خالد بن الوليد أُمِّر على الجيوش كلها، لكن قال: أمِّروه على الخيول), ومُروه بالوقوف مما يلى نهر الرِّقاد -يعنى: اجعلوا خالد بن الوليد يقف بالخيول بينكم وبين الجيش الرومي- وأَمِّرُوا رجلاً على الرماة، (أيَّ رجلٍ آخر تختارونه، المهم أن يكون خالد على الخيل)؛ وأخرجوا إليه كل نابض بوتر –يعني كل من يجيد الرمي، ومروه بالوقوف بين العسكرين؛ ليحمي خالدًا, لماذا هذه الوقفة؟ فإنه سيكون لرحيل العسكر (المتحرك من الجابية إلى أذرعات) صوت عالٍ في السَّحَر (يريدهم أن يتحركوا وقت السحر قُبيل الفجر بقليل؛ حتى لا ينتبه الجيش الرومي لتحركاتهم)؛ فقال: "فإن أقبلوا يريدون ذلك طمعًا فيكم لقيتهم الخيول بخالد وكفَّتْ عنهم الرماة", فاستحسنوا هذا الرأي أيضًا، وجعلوا خالد بن الوليد يقف بالخيول، ومعه مجموعة من الرماة وقفوا بينه وبين الجيش، وبدأ الجيش الإسلامى يتحرك في السَّحَرِ بالفعل من الجابية إلى أذرعات، وعندما علم الرومان بهذا الأمر، وسمعوا ضجة تحرك الجيش الإسلامي خرجت الخيول الرومية مباشرةً؛ لتقطع الطريق على الجيش الإسلامي؛ فلقيها خالد والرماة وكفُّّوهم، تمامًا كما توقع أبو سفيان بن حرب ، فخشي الرومان الدخول في معركة أثناء الليل، وانسحبت جيوشهم دون حدوث أي اشتباك بين الطرفين، وبالفعل انتقل المسلمون من الجابية إلى منطقة أذرعات وعسكروا بها.
على ضفتي اليرموك :عندما وجد الجيش الرومي الجيش الإسلامي ينتقل إلى أذرعات، انتقل هو أيضًا إلى الجنوب، وعسكر في مكان يسمى (دير أيوب)، ويفصل بين دير أيوب (الذي يعسكر به الجيش الروماني)، وبين أذرعات (التي يعسكر بها الجيش الإسلامي) نهر اليرموك.وبدأنا نسمع كلمه اليرموك، إذن فقد اقتربنا من الموقعة الكبيرة بإذن الله، والكل مستعد للقتال، وقد قرر المسلمون الثبات والبقاء بعد أن وصل تعدادهم إلى 33 ألفًا: 32 ألفًا
النصر قادم بإذن الله :القصة والقضية كلها هي مَنِ الجيش الذي سينصر هذا الإسلام؟ ومَنِ الأفراد الذين سيقيمون هذه الدولة؟ الأستاذ سيد قطب في تعليقه على هذه الآية: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51], يوضح لنا أن النصر لا ينحصر في تحقيق نصر جيش على جيش في فترة من الزمان، ولكنه نصر الدعوة بصورة عامة. قد يكون هذا في عصرك وقد يكون في عصر آخر، ولا يُضيرُك أنت في عصر ما أن تجاهد في سبيل الله، وتسعى حق السعي إلى سيادة الدولة الإسلامية في العالم، ثم لا يتحقق لك ذلك، ولا يمكِّن الله لك ذلك في ذاك العصر، ولكن إن نَصَرَ الله Iالدعوة بعد موتك بسنين وسنين، وقرون وقرون، وكنت أنت سببًا في ذلك فهذا نصر لدعوتك، لقد نُصِرْتَ أنت مع أنك مِتَّ، ولم يمُكَّنْ لك، يقول سيد قطب في هذا المقال: "وكم من شهيد ماكان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام، كما نصرها باستشهاده", أي أن استشهاده نصر دعوته بأشد مما كان يستطيع أن يفعل خلال ألف عام من الدعوة المستمرة, وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة، ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة بخطبة مثل خطبته الأخيرة التى كتبها بدمه فتبقى حافزًا محركًا للأبناء والأحفاد وتُنصَرُ الدعوةُ ولو بعد حين, سبحان الله إن ما يجعل لهذا الكلام صدقًا وصدى وانتشارًا في العالم أنه سيكون آخر خطبة كتبها سيد قطب نفسه بدمه، وآخر كلماته في الحياة، وقد لقى الله I شهيدًا بسبب هذه الكلمات. صدق الله I فصدقه الله I وأعطاه الشهادة، وهذا هو المفهوم الذي يجب أن يرسخ في نفوسنا: أنه لابد أن نكافح من أجل إقامة خلافة الإسلام ودولة الإسلام في الأرض، ونثبت للعالم كله أن الإسلام هو الدين الذي يجب أن يسود، لكن نفهم أنه ليس ضروريًّا أن يتم هذا في عصرنا.
بشارات نبوية:يجب ألا نستبعد النصر ونقول: أين المسلمون من أمريكا وأوربا واليابان وغيرهم؟ كلهم سبقونا بعصوركثيرة وهم أقوى منا الآن بطبيعة الحال، بل علينا أن نقول: لو رجعنا وتمسكنا بديننا فسينصر الله I هذا الدين لا محالة، وعْدٌ من الله I أنه سيستخلف المؤمنين لقيادة هذه الدنيا، لكن ليس مهمًّا أن تكون واحدًا من هؤلاء الخلفاء أو أن نكون نحن بعض أفراد هذا الجيش المنتصر، وإنما من الممكن أن نكون نواة لنصر هذا الجيش، نقول: إن الذي عنده شك في هذا النصر وأنه سيتحقق لا محالة، وأنه إن شاء الله رب العالمين سيأتي اليوم الذي يدفع فيه الغرب والشرق الجزية للمسلمين، أو يدخلون في الإسلام، أو يقاتلهم المسلمون فينتصرون عليهم، من لديه شك في هذا الأمر فليراجع أحاديث رسول الله ؛ يقول الرسول : "ليبلغنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليل والنهار (أي أنَّ أي مكان يصله الليل والنهار سيصله الإسلام، أي سيبلغ كل الدنيا), ولا يترك الله بيت مدرٍ ولا وبرٍ (مدر هو الحجر، والوبر أي الشعر، يعني ما من بيت في البادية ولا بيت في المدينة يعني كل الدنيا) إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزًّا يعز الله به الاسلام، وذلاًّ يذل الله به الكفر". رواه ابن حبان وصححه الألباني.يقول الرسول : "إن الله زَوَى لي (يعني جمع وضمَّ) الأرض؛ فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوِيَ لي منها". رواه مسلم, (يعني: أن ملك المسلمين سيبلغ ما زُوِي للرسول وقد زوي له مشارق الأرض ومغاربها)، ويقول الرسول في الحديث اللطيف المبشِّر الذي رواه عبد الله بن عمرو بن العاص المقاتل في جيش المسلمين في الشام ضد جيش الرومان ولهذا معنى لطيف يقول أبو قُبَيْل: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص وسُئِل: أي المدينتين تفتح أولاً: القسطنطينية أم رومية, القسطنطينية عاصمة الدولة الرومانية الشرقية بيزنطة، ومكانها الآن إسطنبول ورومية هي عاصمه الدولة الرومية الغربية ومكانها الآن روما عاصمة إيطاليا؟ يقول: فدعا عبد الله بن عمرو بن العاص بصندوقٍ له حِلَق؛ فأخرج منه كتابًا؛ فقال: بينما نحن حول رسول الله نكتب إذْ سُئِل رسول الله : أي المدينتين تفتح أولا: القسطنطينية أم رومية؟ فقال رسول الله : "مدينة هرقل تُفتحُ أولاً". أي: القسطنطينية, وقد فُتِحَتْ بحمد الله في عصر الدولة العثمانية على يد محمد بن مراد الملقب بمحمد الفاتح، وتحققت نبوءة الرسول في الجزئية الأولى، وستتحقق -لا محالة في الجزئية الثانية- هذا أمر لا يقبل الشك، سيدخل المسلمون إن شاء الله رب العالمين روما عاصمة إيطاليا فاتحين.
من مآثر خالد بن الوليد t :وكان سيدنا أبو عبيدة حيران، يرى سيدنا خالد بن الوليد ساكتًا ولا يدلي بدلوه، وسيدنا خالد بن الوليد ساكت تتناوله الهموم مكتئبًا حزينًا، (حمص) وبعدها (بعلبك) وبعدها (الجابية)، إلى أين سنظل ننسحب هكذ؟ وكان سيدنا خالد بن الوليد -كما يقول الرواة- يرى الرومان أهون عليه من الذباب، ثم يرى الجيش الإسلامي ينسحب خطوة وراء خطوة من أمامهم، فهو معترض على ما يجري، ولا يقبل بأن تُطرح القضية للمناقشة أصلاً، ففي رأيه يجب أن يثبت المسلمون لقتال الرومان؛ فيقول له سيدنا أبو عبيدة: يا خالد ماذا ترى أنت؟ فقال: أرى -والله- إن كنا نقاتل بالكثرة والقوة فهم أكثر منا وأقوى علينا، ومالنا بهم إذن من طاقة، وإن كنا نقاتلهم بالله ولله فما إنَّ جماعتهم ولوكانوا أهل الأرض جميعًا أنها تغني عنهم من شيء (وليس مائتي ألف فقط)، ثم التفت إلى أبي عبيدة وأمسكه وهزه وصرخ فيه، وقال له: أتطيعني أنا إذا أمرتك (أي: أستسمع كلامي إذا أشرت عليك؟), فقال أبو عبيدة وكله ثقة في سيدنا خالد بن الوليد، يعلم أن الحق معه، وأن له نظرًا ثاقبًا في الأمور، ويعلم إخلاص نيته؛ فيقول له: نعم. والله أطيعك. ماذا تقول؟ فقال: فوَلِّني ما وراء بابك (أَمِّرني على الجيوش كلها) فولِّني ما وراء بابك، وخلِّني والقوم؛ فإني لأرجو أن ينصرني اللهُ عليهم؛ فقال أبوعبيدة: قد فعلتُ. (وافق مباشرة أن يولي سيدنا خالد بن الوليد؛ فأُمِّرَ خالد بن الوليد على الجيوش الإسلامية في الشام، وعادت له القيادة من جديد، طبعًا هذا الأمر كله من صلاحيات سيدنا أبي عبيدة بن الجراح فهو لم يؤمِّرْه على الشام، وإنما أَمَّرَه على قيادة الجيش الإسلامي في هذه المعركة، وهذا من صلاحياته؛ لأن أمر سيدنا عمر بن الخطاب أن يُعْزَل سيدنا خالد، ويُعين سيدنا أبو عبيدة ابن الجراح أميرًا على الشام، لكنَّ الجيش الإسلامي في هذه المعركة -كما يرى أبو عبيدة- يحتاج رجلاً مثل خالد بن الوليد ، وهو يثق فيه تمام الثقة؛ فقال له: قد فعلت، وأَمَّرَه على ذلك الجيش.يقول الرواة عن سيدنا خالد بن الوليد في هذا الأمر: وقد كان معلومًا أن خالد بن الوليد من أعظم الناس بلاءً، وأحسنِهم غَنَاءً، وأعظمِهم بركةً، وأيمنهم نقيبةً، وكان الرومان أهون عليه من الذباب، فكان هو الرجل المناسب في المكان المناسب.في هذا الوقت وهم جالسون يتشاورون وصلهم الخبر أن الجيش الرومي على بُعد أقل من نصف ليلة من الجيش الإسلامي في (الجابية)، ومن الممكن أن يحدث القتال بعد أقل من 12 ساعة. إذن ماذا يفعلون؟
رسالة من أبي عبيدة إلى أمير المؤمنين عمر :علم المسلمون بذلك أن الجيش الرومي على أبواب (الجابية) وأن الجيش الإسلامي لم يصلها بعدُ، فالجيشان يتسابقان عليها؛ فقال سيدنا معاذ بن جبل لسيدنا أبي عبيدة بن الجراح: اكتب رسالة إلى عمر بن الخطاب أخبره بالأمر، واطلب منه المدد؛ فأسرع سيدنا أبوعبيدة بن الجراح يكتب رسالة يقول فيها: " أما بعد.. أُخْبرُ أمير المؤمنين -أكرمه الله- أن الروم نفرت للمسلمين برًّا وبحرًا ولم يخلِّفوا وراءهم رجلاً يطيق حمل السلاح إلا جاشوا به علينا، وخرجوا معهم بالقسيسين ونزل إليهم الرهبان من الصوامع (حتى المنقطعين للعبادة نزلوا يقاتلون معهم) واستجاشوا بأهل أرمينيا وأهل الجزيرة (في العراق )، وجاءونا وهم نحو أربعمائة ألف رجل (ويبدو أن هذه كانت أخبارًا مبالغًا فيها نشرها باهان بين جنود الروم لكي يحمسهم بأنهم أربعمائة ألف، فيبدو أن هذه الأخبار جاءت من داخل الجيش الرومي، لكن في واقع الأمر كان الجيش 200 ألف فقط، وهذا عدد ضخم أيضًا)، وأنه لما بلغنى ذلك من أمرهم كرهت أن أغُرَّ المسلمين من أنفسهم، وأن أكتمهم ما بلغني عنهم؛ فكشفت لهم عن الخبر؛ فأخبرتهم بقدر حجم الجيش الرومي، وشرحت لهم الأمر، وسألتهم عن الرأي فرأى المسلمون أن يتنحوا إلى أرض من أرض الشام، ثم نضم إلينا أطرافنا وقواصينا، فالعَجَلَ العَجَلَ -يا أمير المؤمنين- بالرجال بعد الرجال، وإلا -وانتبهوا للاستثناء الذي سيستثنيه لو لم يأتِ المدد بسرعة- وإلا فاحتسب أنفس المؤمنين إن هم أقاموا (لو ظل المسلمون يقاتلونهم سيهلكون)، واحتسب دينهم إن هم فارقوا (لو فَرُّوا من أرض القتال خسروا دينهم لأنهم فرُّوا من المعركة، فلا تضع المسلمين في هذا الموقف: موقف أن يفقدوا أرواحهم كله، ويُبادُ الجيشُ الإسلاميُّ، أويَفرُّوا من المعركة ويفقدوا دينهم، فقد جاءهم ما لا قبل لهم به، ثم يضيف استثناءً آخر مهمًّا) إلا أن يمدهم الله بملائكته ويأتيهم بغياث من قِبَلِه، والسلام عليك".(أي أنه بالحسابات المادية لن ننتصر؛ لأن الجيش الذي أمامنا أقوى منا بكثير، فإما أن ترسل إلينا مددًا ننتصر به عليهم، أو تحتسب أنفس المسلمين، أو يُحتَمَل أن يَفِرَّ المسلمون من المعركة، ويخسروا دينهم، ولن ينتصر المسلمون في هذه المعركة بالأسباب المادية وحدها كما يقول إلا أن يأتيهم الله بغياث من عنده، أو يمدهم الله بالملائكة. وهذا الأمر ليس في أيدينا، فإذا فعله الله تعالى؛ فالنصر للمسلمين لا محالة)، أراد أبو عبيدة أن يحمس عمرَ بن الخطَّاب بهذا الخِطَاب، وأرسله مع عبد الله بن قِرْط ، وعندما يذهب عبد الله بن قرط، ويُعْلِم عمر بن الخطاب بالموقف يشتد الأمر على ابن الخطاب، ولما يعلم المسلمون في المدينة بهذا الأمر يزداد بكاؤهم حتى يُسْمَع صوتُ بكاء المسلمين من كل بيت من بيوتهم، يبكون على هذا الجيش الضخم من المسلمين 32 ألف مسلم موجودين في أرض الشام مُعرَّضين للهلكة تمامًا، وتشتد الشفقة عليهم، وتُرْفَع الأيدي بالدعاء إلى الله I أن يُنجِّي الجيش، ويكون أشد الناس خشية عبد الرحمن بن عوف ، ويقول لعمر بن الخطاب: سِرْ بنا يا أمير المؤمنين فإنك إن قدمت الشام فقد شدَّد الله قلوب المؤمنين وأرعب قلوب الكافرين، فكان يرى أن يخرج أمير المؤمنين عمر بنفسه على رأس الجيش إلى الروم.في نفس الوقت كان سعد بن أبي وقاص منتظرًا قتال الجيش الفارسي الضخم: مائتين وأربعين ألف جندي، والجيش المسلم المكون من 32 ألف جندي موجود على أبواب القادسية، وقبل أن يتحرك الجيش الإسلامي الذاهب إلى القادسية كان بعض المسلمين يريدون خروج عمر بن الخطاب على رأس الجيش؛ فاجتمع كبار الصحابة وأصروا على عدم خروج عمر؛ فأَمَّر بدلاً منه سيدنا سعد بن أبى وقاص.والآن يتكرر نفس الموقف في أرض الروم فيجتمع الصحابة، ويقولون: لا يخرج عمر، فإن هلك عمر هلك المسلمون (أي بفقدان الخليفة واضطراب الأوضاع)؛ فقالوا: يظل عمر في المدينة، ويرسل الجيوش بعد الجيوش، ويدير الأمور من المدينة، حتى لا يطمع الناس في المدينة نفسها. فما دامت الجيوش الإسلامية تقاتل على جبهتين فالموقف يحتاج شخصًا في المدينة المنورة كعمر بن الخطاب يوازن بين الأمور، ويرسل الجيوش هنا وهناك حسب ما يرى.
يقين ثابت وإيمان لا يتزعزع :ثم يعطي هذه الرسالة إلى عبد الله بن قرط ، ويقول له: "أسرع إلى أبي عبيدة، وقل له: إن عمر يُقْرِؤُكم السلام، ثم اذهب أنت بنفسك إلى الجيوش وقل لهم: إن عمر يقرؤكم السلام، ويقول لكم: يا أهل الإسلام اصدقوا اللقاء، وشدوا عليهم شد الليوث، واضربوا هامتهم بالسيوف، وليكونوا أهون عليكم من الذَّرِّ (النمل أو الحشرات الهوام) فإنا قد علمنا -انظر يقين سيدنا عمر- أنكم منصورون، فإنا قد علمنا أنكم منصورون، فلا تهولنكم كثرة عدوكم، ولا تستوحشوا بمن لم يلحق بكم منكم" هذا الكلام من سيدنا عمر بن الخطاب لا يجب أن يمر ببساطة، فقد قال جملتين بنفس المعنى: واحدة لسيدنا أبي عبيدة، وواحدة إلى سيدنا عبد الله بن قرط لا بد أن نقف عليها وهى: "وإنكم منصورون إن شاء الله على كل حال", ويقول لعبد الله بن قرط ليخبر الجيوش: "إنا قد علمنا أنكم منصورون", يقين كامل من سيدنا عمر بن الخطاب أن النصر سيكون للمسلمين، من أين أتاه هذا اليقين؟!! هذه حقيقة ثابتة في الكتاب والسنة. إن الله I سيكتب النصر للمسلمين في كل العصور، إن الله I سيكتب النصر للمسلمين على كل حال. إن هم آمنوا وأقاموا الإسلام سيُكتب لهم النصر حتى إذا كانت قوتهم أضعف كثيرًا من القوى المعادية لهم، هذا في عصر الرسول وفي عصر الصحابة وفي عصرنا وحتى يوم القيامة، هذا وعد الله تعالى. وعد ثابت لا يتغير، يقول الله I: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55], هذا هو الشرط:{يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55], متى تحققت العبادة لله I تحقق النصر والتمكين لله في الأرض، وتكون الخلافة الإسلامية إن شاء الله رب العالمين.
مفهوم العبادة الصحيح :لكن لابد أن نفهم العبادة فهمًا صحيحًا، لا بد أن نوسع مفهوم العبادة كما كان يفهمه سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص، وكما كان يفهمه سيدنا أبو الدرداء ، فالعبادة ليست مجرد خمس صلوات تُقام، وشهر يُصام، وبعض الصدقات، وبعض أمور الخير التى نفعلها لكن العبادة منهج حياة كامل، الإسلام دين شامل ينظم الحياة؛ فإنك تعبد الله I بصلاتك وزكاتك، وتعبد الله I بمعاملاتك مع الناس، وتعبد الله I بجهادك في أرض المعركة، وتعبد الله I بأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، وتعبد الله I بإتقانك في عملك وبراعتك فيه وإثبات أن المسلمين قادرون على أن يقوموا بأمورهم ولا يحتاجون إلى غيرهم. هذا الأمر كله داخل في مفهوم العبادة. ليست العبادة أن نصلي ونصوم فقط حتى نظن أن الله I لن ينزل علينا النصر إلا في الوقت الذي نصلي فيه، بل لابد أن نأخذ بكل الأسباب الدنيوية والمادية لتحقيق النصر، يقول اللهI في بدايات سورة القصص: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4], فبنو إسرائيل في أشد حالات الضعف، وأشد حالات الاستعباد من فرعون، ولكن يأتي مباشرة خلف هذه الآية التي تعلن استعلاء فرعون في الأرض قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5].إذن فالله I قادر على كل شيء، لكن لا بد أن تكون هذه الطائفة مستحقة لنصر الله I؛ فإذا آمنت بالله I، وعبدته كما ينبغي له أن يُعبد أتاها نصر الله لا محالة {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21]، والآية الأخرى في سورة غافر، يقول الله I: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51], لكي لا يظن أحد أن الرسل فقط هم المنصورون ولكن أيضًا {والذين آمنوا} وليس النصر في الآخرة فقط، بل {في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} لابد أن يأتي.
ذكاء عمرو بن العاص وحسن تدبيره :يأتي عبد الله بن عمرو بن العاص بالرسالة إلى أبي عبيدة، ويخبره أن أهل الأردن وفلسطين انتقضوا وبدأوا يفكرون في الهجوم على جيش عمرو بن العاص الموجود في الأردن، فماذا ترى يقول عمرو بن العاص في رسالته؟ إنه يقول: هل آتيك في أي مكان أنت فيه، أو أنتظرك وتأتينى بالمدد؟ فأرسل أبو عبيدة بن الجراح له رسالة: أن انتظر مكانك واصبرْ، فإنا إن شاء الله قادمون.الجيش الإسلامى مُتَّفَقٌ أنه سينزل إلى الجنوب، فليس هناك داعٍ لأنْ يصعد عمرو بن العاص وبعد ذلك يعود للنزول، ووصَّى أبو عبيدة بن الجراح سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص أن يكون في جانب من الجيش يحمس الناس، وأن يحمس أبوه الجانب الآخر، عندما أتت هذه الأوامر إلى سيدنا عمرو بن العاص بأن يظل في مكانه وينتظر جيش سيدنا أبي عبيدة بن الجراح، خاف سيدنا عمرو بن العاص أن يقوم أهل الأردن وفلسطين أو الجيوش الرومية بثورة عليه، خاصة أن جيش سيدنا عمرو بن العاص صغير جدًّا. فماذا يفعل سيدنا عمرو بن العاص؟ في الحقيقة كان لدى سيدنا عمرو حكمة وذكاء شديد وقد اشتُهِرَ بذلك في التاريخ الإسلامى في كل المواقع تقريبًا؛ لذا فالخطوة الأولى فيما صنعه أن جمع أهل الأردن جميعًا، وقال لهم: إنه بلغني أن أحدكم قد نقض عهده وخبَّأ جنودًا من الرومان؛ فأخرجوا لي هؤلاء الجنود وإلا نقضنا العهد الذي بيننا وبينكم، وجمع الناس كلهم وأخرجهم خارج البلد ووضعهم في مكان معين، وعيَّن عليهم سرية من السرايا، وأمَّر عليهم سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص ليحرسهم في هذا المكان، وهكذا جرَّد أهل الأردن من السلاح لكثرتهم؛ وذلك لأنهم يخبئون بعض جيوش الرومان، وقد كان هذا حقيقيًّا بالفعل، وكان هناك جنود ومقاتلون كثيرون قد تسربوا إلى الأردن وفلسطين، وقد فعل سيدنا عمرو بن العاص ذلك ليمنع وجود قوة متجمعة لهم في مكان واحد.الخطوة الثانية: أنه أعلن أنه سيذهب إلى قتال حصن ( إيلياء) الموجود فيه تجمُّع الرومان؛ فخاف أهل (إيلياء) من الخروج لقتال سيدنا عمرو بن العاص؛ لمِا رأوا من إقدامه على القتال والهجوم، وقالوا: نتحصن في حصننا، ولم يكن سيدنا عمرو بن العاص يفكر في قتال أهل ( إيلياء )، لكنه أعلن هذا الأمر وهو يعلم أن عيون أهل (إيلياء) سوف تصل بالخبر إليهم؛ حتى يضطروا إلى البقاء في حصونهم ولا يخرجوا للمسلمين، وهذا ما حدث بالفعل فقد وصلت الأخبار الى أهل (إيلياء) أن عمرو بن العاص يفكر في الهجوم عليهم؛ فقالوا: ما دام القتال واقعًا لا محالة، فنظل في حصوننا في انتظاره بدلاً من أن نقاتله في العراء.الخطوة الثالثة: لكي يؤكد نيته في الهجوم على إيلياء ولا يكتفي بالعيون كتب خطابًا شديد اللهجة موجهًا إلى أ هل إيلياء قال فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم من عمرو بن العاص إلى بطارقة إيلياء -البطارقة هم قواد الجيش، ومفردها: بطريق-، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله العظيم الذي لا إله إلا هو ومحمد رسول الله , وكأنه يعني بذلك: لا سلام عليكم فلو اكتفي بقوله: "السلام على من اتبع الهدى" قد يدعي كل واحد أنه على الهدى والصواب، ولكنه يكمل: وآمن بالله العظيم الذي لا إله إلا هو وآمن بمحمد فهذا هو السلام عليه أما غير ذلك فليس ثَمَّ سلامٌ, فإننا نُثْني على ربنا خيرًا، ونحمده حمدًا كثيرًا كما رحمنا بنبيه، وشرفنا برسالته، وأكرمنا بدينه، وأعزنا بطاعته، وأكرمنا بتوحيده والإخلاص بمعرفته، فلسنا -والحمد لله- نجعل له ندًّا، ولا نتخذ من دون الله إلهًا، لقد قلنا إذًا شططًا. سبحانه وبحمده جلَّ ثناؤه..وكل هذه الأمور على خلاف العقيدة النصرانية، فهو يطعنهم في هذه العقيدة وفي نفسياتهم بتبيان ضلالهم، وهداية المسلمين, ثم يقول: الحمد لله الذي جعلكم شيعًا، وجعلكم في دينكم أحزابًا بكفركم بربكم فكل حزب فرحون: فمنكم من يزعم أن لله ولدًا، ومنكم من يزعم أن الله ثانى اثنين، ومنكم من يزعم أن الله ثالث ثلاثة؛ فبُعدًا لمن أشرك بالله وسُحقًا, يفتُّ في عضد الجيش الرومي بتذكيرهم باختلاف عقائدهم ومللهم رغم أنهم في جيش واحد، ثم يذكرهم بالتاريخ الإسلامى في هذه المنطقة؛ فيقول: والحمد لله الذي قتل بطارقتكم، وأذل عزكم، وطردكم من هذه البلاد، وأورثنا أرضكم ودياركم وأموالكم وأذلكم بكفركم بالله، وتركِكُم ما دعوناكم إليه من الإيمان بالله ورسوله؛ فأعقبكم الله الخوف والجوع بما كنتم تصنعون، فإذا أتاكم كتابي هذا فأسلموا تسلموا، وإلا فأقبلوا إلينا حتى أكتب لكم كتابًا أمانًا على دمائكم وأموالكم وأعقد لكم عقدًا تؤدُّون إليَّ الجزية عن يد وأنتم صاغرون, وهذه منتهى الشدة في الكلام, ثم وإلا فوالله الذي لا إله الا هو لأرمينَّكم بالخيل بعد الخيل، وبالرجال بعد الرجال، ثم لأقلعنكم حتى أقتل المقاتلة، وأسبي الذرية، وتكونون كأمة كانت ثم لم تكن", أي أصبحت غير موجودة. سبحان الله العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فعمرو بن العاص في منتهى العزة، وفي منتهى القوة، وفي منتهى رباطة الجأش.
تعليق