إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

مباحثات ما قبل اليرموك * فتوح الشام *

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مباحثات ما قبل اليرموك * فتوح الشام *



    مباحثات ما قبل اليرموك










    منقوول

    انتقل المسلمون من الجابية إلى أذرعات، وانتقل جيش الروم فورًا من الجابية إلى منطقة تسمى دير أيوب على الضفة الأخرى من نهر اليرموك، فأصبح يفصل بين الجيشين نهر اليرموك أو فرع من فروعه يسمى: نهر الحرير، ومكث الجيشان في هذا المكان في انتظار القتال، وبدأ كل جيش يُعِدُّ العُدَّة للقاء الجيش الآخر.
    وقد كانت إمدادات الجيشين سهلة: فإمدادات الجيش الرومي كانت سهلة لأنها كانت تأتيه من الشمال حيث لم يَعُد المسلمون يقيمون في شمال الشام نهائيًّا، بالإضافة إلى أن البحر قريب منه؛ فكانت الإمدادات تأتيه عن طريق البحر الأبيض المتوسط أيضًا، والمسلمون -من ناحية أخرى- كانت إمداداتهم سهلة؛ لأن كل الأردن وفلسطين في أيديهم، وهذه المنطقة كانت ذات خيرات كثيرة، والطريق إلى الجيش آمنة؛ فلم تكن هناك مشكلة من المطاولة والانتظار، وحينما وجد الجيش الرومي الوضع على هذه الحال، حاول أن يقصر الفترة بإجبار الجيش الإسلامي على القتال؛ فدفع بفرقة من الفرسان خلف الجيش الإسلامي لقطع الإمدادات، ولكن كانت عيون الجيش الإسلامي منتبهة ومتيقظة؛ فقام سيدنا خالد بن الوليد بنفسه على رأس ألفين من الفرسان، وقاتل هؤلاء الفرسان الروم مقاتلة شديدة، وقتل منهم الكثير؛ ففروا مرةً أخرى إلى دير أيوب وبقي المسلمون في أذرعات.
    باهان يعرض الصلح والمسلمون يرفضون:

    لما رأى باهان رئيس الروم هذا الوضع بدأ يفكر في صلح جديد (الروم عددهم مائتا ألف أو يزيد، وعدد المسلمين حتى الآن 33 ألفًا فقط، ومع ذلك فالروم يُلقِي اللهُ في قلوبهم الرعب، ويريدون أن يصالحوا المسلمين، ويعقدوا معاهدة معهم حتى بعد أن اصطفَّ الجيشان للقتال)، فأرسل باهان إلى سيدنا خالد بن الوليد يعرض عليه عرضًا جديدًا (لقد كان آخر عرض عرضوه للصلح أيام موقعة بيسان، وقد عرضوا على سيدنا معاذ بن جبل وقتها أن يعطوا الأمير ألف دينار، ويعطوا الرئيس الأعلى منه ألفي دينار، وكل جندي دينارًا، ولو حسبنا المبلغ سنجده سبعين ألف دينارٍ أو يزيد، وهذا مبلغ ضخم في ذلك الوقت، وكان الروم على استعداد لدفع هذا المبلغ للمسلمين) أما هذه المرة فعندما أصرَّ المسلمون على القتال أرسل باهان خطابًا إلى سيدنا خالد بن الوليد الأمير الجديد على الجيش يقول فيه: "قد علمنا أن الذي أخرجكم من دياركم غلاء السعر وضيق الأمر بكم، وإني قد رأيت أن أعطي كل رجل منكم عشرة دنانير, ضاعف المبلغ بنسبة500% من دينارين لعشرة مرة واحدة، عشرة دنانير في 33 ألفًا, أي: 330 ألف دينار وهذا مبلغ ضخم جدًّا في ذلك الوقت، ليس هذا فقط، بل بالإضافة إلى ذلك (وراحلة تحمل حملها من الطعام والكسوة والأدم لكل جنديٍّ) أي أنه سيعطي كل جنديٍّ جملاً، أو أي دابة عليها طعام وكسوة وجلود فترجعون بها إلى بلدكم، وتُعيِّشون بها أهاليكم سنتكم هذه (وكأن ما أخرج المسلمين-في ظنه- أنهم لا يجدون الطعام فخرجوا يبحثون عنه في الشام) فإن كان قابل (العام القادم) أرسلتم إليَّ؛ فأرسل لكم مثلها", إنه تنازل كبير جدًّا، ولو كان المسلمون يريدون الدنيا فقد أتتهم فهذه العروض بالنسبة للعرب مبالغ ضخمة، ولكن سيدنا خالد بن الوليد لم يردَّ إلا ردًّا قصيرًا جدًّا؛ فقد قال لهم: "الإسلام أو الجزية أو القتال", وهي العروض الثلاثة التي يعرضها المسلمون في كل موقعة من المواقع، ولكن الروم لا يفهمون هذا العرض فأخذوا يكررون عروضهم كل مرة، والمسلمون يرفضون؛ فعرف أن القتال واقع لا محالة.
    الروم يخشون القتال ويعرضون الصلح:

    فعاد الروم إلى جيشهم، وأخذوا يتلاومون على الهرب من المسلمين رغم قلة أعدادهم؛ فقال باهان: والله إني عندي الرأي؛ فقالوا له: قل؛ فقال: أرى أن هؤلاء القوم وقد طعموا من طعامكم ولبسوا من لباسكم ورأوا عيشتكم؛ الموت عندهم أحب من ترك هذه الأشياء (لم يفهم بعدُ أن المسلمين إنما خرجوا لنشر دعوة الإسلام، ولقتال من ناوأها وعاداها، ولم يخرجوا لمغنم)، وقد رأيت أن نسألهم أن يبعثوا إلينا رجلاً فنتفاوض معه ونُطمعهم في شيء يرجعون به إلى أهلهم فلعلنا ندفع خطر الوقعة، ونقي أنفسنا القتال؛ فقالوا له: نِعْمَ الرأي ما رأيت؛ فأرسل الروم رجلاً يطلب أحد المسلمين للمفاوضات؛ فأرسل المسلمون خالد بن الوليد نفسه ليفاوض باهان، وقبل أن يذهب خالد بن الوليد أخبرهم أنه هو القادم للقائهم، وأخذ خيمته معه (وكانت خيمة حمراء ذات شكل مميز) وأمر مجموعة من الحرس أن يذهبوا وينصبوا هذه الخيمة في معسكر الروم ويقولوا لهم: إن خالدًا سينتظر في هذه الخيمة؛ فذهب العسكر المسلمون وأقاموا الخيمة داخل المعسكر الرومي، هذا الأمر وإن كان ظاهره بسيطًا إلا أنه معناه أن الأرض أرض المسلمين نتصرف فيها كيف نشاء، ونضع خيامنا حيث نشاء، لكي لا ننتظر ملككم، ولا نكون رهنًا لمشيئته، وانتقل خالد بن الوليد ومعه الحارث بن عبد الله فقط وسط كل الجيش الضخم: مائتي الألف جنديٍّ فيهم أعظم قواد الروم؛ فلما ذهبا جلس خالد في خيمته، ومكث فيها ساعة حتى جاءه بعض الجنود من جيش الروم يقولون له: إن الأمير مستعد للقائك فخرج خالد بن الوليد من خيمته فوجدهم قد أعدوا له طريقًا يمشى به: على ميمنة الطريق عشرة صفوف من الفرسان، وعلى الميسرة عشرة صفوف أخرى شاهرين السيوف لا يُرَى من الفرسان إلا الحِدَق من كثرة الدروع، ووراء هذه الصفوف العشرة ما لا يحُصى من الخيل، يحاولون إلقاء الرهبة والرعب في قلب هذا الذي جاء يحادثهم، وهيهات فهم عنده أهون من الذباب، وبالفعل مشى سيدنا خالد بن الوليد في هذا الطريق حتى أقبل على باهان.
    مفاوضات خالد وباهان:

    كان باهان قائد الروم يُكِنُّ في نفسه إعجابًا عميقًا بخالد بن الوليد، ولا يخفي هذا الإعجاب عن جيشه، بل لا يخفيه عن خالد نفسه، فهو يقدِّر هذه العبقرية التي فعلت الأفاعيل في أرض الفرس ثم عادت وفعلتها في أرض الروم، وفي نفس الوقت كان باهان يريد أن يؤثر على سيدنا خالد بن الوليد ويضمه إلى صفه ويُلِين قناته ليترك أمر الجهاد والحرب، ويخدم به أهدافه؛ لذا حاول بقدر الإمكان أن يُكرمه ويتخذه صديقًا؛ فقام له، ورحب به ترحيبًا شديدًا، وقال له: اجلس معي هنا إني علمت أنك من أحساب العرب ومن شجعانهم، ونحن نحب ذا الحسب الشجاع، ولكن سيدنا خالد بن الوليد لم تنطلِ عليه تلك المحاولات، فقد كان فاهمًا لمقصود باهان ولكنه جلس يستمع منه؛ فقال باهان لخالد: قد ذُكِرَ لي أن لك عقلاً ووفاءً، والعاقل ينفعك كلامه، وذو الوفاء يصدق قولُه ويُوثق بعهده؛ فقال خالد بن الوليد: إن كنتُ أوتيتُ العقل, فالله تعالى المحمود على ذلك, والوفاء لا يكون إلا بالعقل, فمن لم يكن له عقل فليس له وفاء, ومن لا وفاء له لا عقل له؛ فقال باهان: أنت أعقل من في الأرض (يحاول تملقه ليكسبه في صفه) وما يتكلم بكلامك ولا يبصره ولا يفطن إليه إلا الفائق من الرجال، ثم أراد باهان أن يستوثق من أن خالدًا بيده مقاليد الأمور في الجيش وأنه إذا اتفق معه على أمر فسيخضع له بقية القادة والجنود؛ فقال له: أتحتاج إلى مشورة هذا الذي معك (يقصد الحارث بن عبد الله؟) فقال خالد بن الوليد بتعجب: إن في عسكرنا هذا أكثر من ألفي رجل لا أستغني عن مشورتهم فكيف بهذا الذي معي؟!!فارتبك باهان وعلم أنه يتعامل مع عقليات كثيرة وليس مع عقلية نادرة في قومها كما كان يظن؛ فقال لخالد بن الوليد: ما كنا نظن أن عندكم ذلك؛ فقال له سيدنا خالد بن الوليد: ما كل ما تظنون وما نظن يكون صوابًا؛ فقال باهان: صدقت, فقال باهان: أول ما أدعوك إليه، وأكلمك به أن أدعوك إلى خُلَّتي (صداقتي)، وطبعًا هذا عرض يتمناه أهل الأرض جميعًا في ذلك الوقت, فباهان هذا قائد أعظم دولة في العالم، ويقول لواحد من العرب -الذين هم في ظن الرومان رعاة أغنام: أريد أن أكون صديقك من وسط الناس، فقال له سيدنا خالد بن الوليد: كيف ذلك وقد جمعتني وإياك بلدة لا أريد أنا ولا تريد أنت نفترق عنها إلا أخذناها؟!! فقال باهان: فلعل الله أن يصلح بيننا دون قتال أو دون أن يراق دم, فقال خالد بن الوليد: إن شاء الله فعل ذلك. فقال باهان: إني أريد أن ألقي الحشمة بيني وبينك (سأفعل شيئًا يزيل الحرج والتكليف) فإني قد أعجبتني قبتك (الخيمة الحمراء) ووالله إني ما رأيت أحسن منها, فإن شئت أن تهبها لي وتأخذ ما شئت من أموالنا ومن حاجاتنا فعلت.وطبعًا هذه رشوة مقنعة؛ فالخيمة لا تساوي شيئًا أمام ما يجلسون هم عليه من السُّرُر والبُسُط والحرائر، وهو منتظر أن يطلب منه خالد بن الوليد مبلغًا طائلاً ولن يرفض فهو يريد أن يرشيه رشوة في صورة مهذبة؛ فقال سيدنا خالد بن الوليد: هي لك. خذها ولا أريد شيئًا من متاعك، وأعطاها له؛ فأخذها باهان، ولم يحزن لفشل مسعاه بل ظل يحاول أن ينجح مع سيدنا خالد؛ فقال له: إن شئت بدأناك بالكلام وإن شئت أنت فتكلم؛ فيرد خالد بن الوليد ردًّا في منتهى الحكمة ومنتهى العقل, ويطعن هذا الرومي طعنًا شديدًا في قلبه: فيقول له: ما أبالي أي ذلك كان، ولكني أعلم أنك تعرف ما ندعو إليه وقد جاءك بذلك أصحابك من أجنادين ومن بيسان ومن فِحْل ومن دمشق ومن حمص ومن بعلبك وجاءك ذلك من كل مدائنكم وحصونكم (وذكره بكل هزائم الرومان أمام المسلمين) فلا فائدة أن أبدأ الكلام؛ فاصفرَّ وجهُ باهان وشعر أنه يتحدث مع رجل متمكن، فبدأ باهان يتحدث؛ فقال في بداية الكلام: الحمد لله الذي جعل نبينا أفضل الأنبياء، وملكنا أفضل الملوك وأمتنا خير الأمم,لم يعجب هذا الكلام سيدنا خالدًا فقاطعه وقال: الحمد لله الذي جعلنا نؤمن بنبينا ونبيكم وجميع الأنبياء وجعل الأمير الذي ولَّيْناه أمورنا كرجل منا, فلو زعم أنه ملك علينا لعزلناه عنَّا, ولسنا نرى أن له على رجل من المسلمين فضلاً إلا أن يكون أتقى منه عند الله وأبرَّ، والحمد لله الذي جعل أمتنا أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتُقِرُّ بالذنب وتستغفر الله وتعبد الله وحده ولا تشرك به شيئًا (يلمح له سيدنا خالد بما حدث في معسكرهم من انتهاك للحرمات وقتل للنفس ظلمًا وعدوانًا، وقد عَلِمَه سيدنا خالد من عيونه في جيش الروم)؛ قل الآن ما بدا لك؛ فسكت باهان برهة وكأنه نسِي ما يريد أن يقول، ثم بدأ يتكلم من جديد ليمجد أمته؛ فبدأ بحمد الله ولكن بطريقة أخرى؛ فقال: الحمد لله الذي أبلانا فأحسن البلاء عندنا، وأغنانا من الفقر، ونصرنا على الأمم، وأعزنا فلا نذل، ومنعنا من الضيم ولسنا فيما أعزنا الله به وأعطانا من ديننا ببطرين ولا باغين على الناس. (طبعا هذا كله كذب فكيف يكون الروم غير بطرين بما أنعم الله عليهم ولا باغين على الناس وقد فعلت جيوشهم الفواحش في كل الأمم حتى في أمتهم نفسها)، ثم يقول في الجزئية الثانية التي تخص المسلمين.
    خالد والتقسيم المبتكر للجيش:

    كان هذا الموقف في 25 من جُمَادى الآخرة سنة 15هـ، والجيش الإسلامي الآن مواجه للجيش الرومي، والمسافة بينهما إلى حد ما بعيدة بعرض هذه المنطقة التي يحاربون فيها، وهي على الأقل عشرة كيلومترات، أما طولها فيزيد عن 15 كيلو مترًا، فالمسافة بينهما -إذن- إلى حد ما بعيدة، والجيوش في حرية حركة إلى حد ما أيضًا.وعندما أراد سيدنا خالد بن الوليد أن يضع خطة المعركة وترتيب الجيوش استحدث في هذا اليوم استحداثًا جديدًا على المعارك الإسلامية، وعلى المعارك بصفة عامة في هذا الوقت، فكان من المعروف أن الجيوش تقاتل على شكل ميمنة وقلب وميسرة، وكان هذا ما خطط له سيدنا خالد بن الوليد في البداية، لكن كان المعتاد أن الميمنة عبارة عن جيش من الجيوش، والميسرة جيش والقلب جيش، جيش سيدنا يزيد في منطقة، وجيش سيدنا شرحبيل في منطقة، وجيش سيدنا عمرو في منطقة، ولكن سيدنا خالد بن الوليد رأى أن مساحة الأرض واسعة، وأعداد الروم كبيرة، وهو يريد أن يعطي الجيش مرونة في الحركة، لكي لا يبقى مقيدًا في مكان واحد وعليه قائد واحد فتصعب الأوامر من هذا القائد على هذا الجيش الضخم من المسلمين 33 ألف جنديٍّ، وليس هناك في هذا الزمن وسائل اتصال تمكِّن القادة من تبليغ الأوامر للجنود بسهولة ويسر؛ فيجمع سيدنا خالد الجنود جميعًا، ويقول لهم: إن هذا اليوم لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي (يعني القتال من أجل القبلية والعصبية)؛ ولذلك فإني سأفرقكم حيث يريد الله ويريد رسوله (يعني ما فيه الخير)..وقد كان معتادًا أن تمثل كل مجموعه قبيلة، أو تتشكل فرقة كاملة من قبيلة واحدة فتقاتل حتى لا يقال: إن الجيش أُتِي من قِبَلِ قبيلة كذا أو كذا، فيقول: إن هذا قد يرجع مرجع الفخر، لكننا لا نريد ذلك هذه المرة، وسنفرق الناس، ولن يعتمد التشكيل الحربي على القبلية، وبدأ بالفعل يقسم الجيش الإسلامي إلى 38 جزءًا (هناك روايات تقول 36، وروايات أخرى تقول 40، والأغلب أنها 38 جزءًا)، وسمَّى كل جزء: كردوسًا، والكردوس هو القطعة العظيمة من الجيش فقسم الجيش إلى 38 جزءًا تقريبا، الجزء يعني 800 أو 900 أو 1000 حسب الجيش، وجعل على رأس كل وحدة منها واحدًا فتصبح الصورة النهائية للجيش كالآتى:خالد بن الوليد القائد العام للجيوش، والجيش مُقَسَّم إلى أربعة أرباع: وهناك إدارة عليا هم سيدنا عمرو بن العاصوسيدنا شرحبيل بن حسنة وسيدنا أبو عبيدة وسيدنا يزيد بن أبي سفيان، هؤلاء يعتبرون إدارة عليا يتسلمون الأوامر من سيدنا خالد بن الوليد، ويبلغونها للجيش ويتناقشون سويًّا في الخطة، فهم ليسوا مشتركين فعليًّا في القتال، وإنما يرتبون الخطة، وينقلون الأوامر، وهم بهذا الترتيب سيدنا عمرو في اليمين وسيدنا شرحبيل بن حسنة وسيدنا أبو عبيدة في القلب وسيدنا يزيد في الميسرة، ثم جعل قائد جنود الميمنة سيدنا معاذ بن جبل وتحته عشرة كراديس.
    أبطال في صفوف المسلمين:

    ومن الأسماء المشهورة تحت قيادة سيدنا معاذ بن جبل: الصمت بن الأسود وذو القلاع الحميري وقد مرَّ ذكرهما قبل ذلك: فالصمت بن الأسود هو الذي لاحَقَ الجيوش الرومية في اتجاه حمص بعد فتح دمشق، وذو القلاع الحِمْيرَِي هو أول مسلم من اليمن تطوع لدخول الحرب في الشام، أما سيدنا هاشم بن عتبة بن أبي وقاص فهو قائد القلب وتحته 18 كردوسًا على كل كردوس قائد مستقل تمامًا بهذا الكردوس، لا يتلقى أوامره إلا من سيدنا هاشم مباشرة، وبعد ذلك من سيدنا خالد بن الوليد، وكان من ضمن الأسماء تحت قيادته: القعقاع بن عمرو التميمي ومذعور بن عدي، وعياض بن غنم كان هؤلاء الثلاثة مع سيدنا خالد بن الوليد في العراق، وجاءوا معه عندما جاء من العراق إلى أرض الشام، وكان من القواد أيضا: عكرمة بن أبى جهل، وسهيل بن عمرو الذي حادث الرسول في صلح الحديبية وكان في صفوف المشركين وقتها، ها هو الآن في صفوف المسلمين يقاتل لإعلاء كلمة الله، عبد الرحمن بن خالد بن الوليد على رأس كردوس من الكراديس وكان يبلغ 18 سنة، وصفوان بن أمية وكان من أشد المشركين -قبل إسلامه- عنادًا وسطوة على المسلمين، ومع ذلك مَنَّ الله سبحانه وتعالى عليه بالإسلام وها هو الآن يقف على رأس كردوس من الكراديس، سعيد بن خالد بن سعيد وكان أبوه من أوائل الناس الذين تطوعوا للخروج إلى الشام، وأصبح ابنه الآن قائد كردوس من الكراديس، الميسرة عليها قباث بن أشيم وتحته عشرة كراديس أخرى، ومن الأسماء التي تحت قيادة قباث اسم كبير جدًّا هو الزبير بن العوام، الزبير بن العوام على رأس كردوس من الكراديس، وضرار بن الأزور وعصمة بن عبد الله ممن كانوا في جيش سيدنا خالد بن الوليد في العراق، وعتبة بن ربيعة من أهل بدر، وبعدما قسم الجيش 38 كردوسًا وجعل القيادة بهذه الصورة أعطى قدرًا كبيرًا من الصلاحية لكل كردوس؛ فأصبح عنده شيء من المرونة في إطار الخطة العامة التي سينفذها سيدنا خالد بن الوليد، ثم جعل القاضي فيما يحدث بين الناس من خلافات في هذه المعركة أو في هذه الأيامأبو الدرداء ، والقاص (وهو الذي يحمس الناس للقتال) هو أبو سفيان بن حرب، وسبحان الله فالإسلام يعز أهله ويذل الكفار، هذا أبو سفيان بعد الإسلام. انظروا إلى موقف أبي سفيان -قبل إسلامه- مع هرقل وهو يحاول أن يطعن في رسول الله ولا يستطيع، وهرقل يستجوبه بعدما ألقى جنوده القبض عليه، وأتوا به إليه وهو يحاول أن يستعطفه في الكلمات، وكما رأينا ذلته في حواره مع هرقل, ها هو الآن بعد أن أسلم يتولى تحميس الجيوش الإسلامية لقتال الجيش الرومي الذي كانت العرب تعظمه تعظيمًا لا حدَّ له، الآن هو الذي يحمس الناس للقيام بالجهاد، وتقسيم الغنائم بعد أن تأتى الغنائم إن شاء الله رب العالمين وهذا من التفاؤل الشديد للمسلمين فالموضوع بسيط جدًّا: إن شاء الله سيكون هناك نصر وستوجد غنائم. فمن سيقسمها؟ وإن لم يأتِ النصر فستكون هناك شهادة ويصير المسلمون إلى الجنة، إذن في حالة وجود نصر وغنيمة من سيقسمها؟ سيدنا عبد الله بن مسعود وأرضاه، إنها أسماء ضخمة جدًّا عظيمة جدًّا في أرض اليرموك، فالقارئ الذي سيقرأ سورة الجهاد على المسلمين هو سيدنا المقداد بن عمرو الذي كان عمر بن الخطابيقول عنه: رجل بألف رجل، والزبير بن العوام أيضا قال عنه عمر بن الخطاب: رجل بألف رجل؛ فالمقداد بن عمرو كان يمر على الكراديس: واحد تلو الآخر، ويقرأ عليهم سورة الجهاد التي هي سورة الأنفال وهذا ما كان يحدث في أرض القادسية (وسنجري مقارنة بين موقعة القادسية وموقعة اليرموك بعد الانتهاء منها بإذن الله وسنرى حجم التشابه مع أن المسافة بعيدة بين الفريقين، لكن الإيمانيات في الجيشين واحدة؛ فنتج هذا التشابه) جيش المسلمين كان قوامه 33 ألفًا في أصحِّ الروايات منهم ألف صحابي من بينهم مائة بدري، وكل من شهد بدرًا كانوا 313 أو 314 منهم مائة شهدوا اليرموك وسبعون كانوا موجودين في القادسية في نفس الوقت، وطبعًا هناك كثير من أهل بدر استشهدوا في موقعة اليمامة التي كانت مع مرتدِّي بني حنيفة.بعد أن رتَّب خالد بن الوليد هذه الجيوش مرَّ بنفسه على كل الكراديس يقول لهم: "يا أهل الإسلام إن الصبر عِزٌّ، وإن الفشل عبس، وإن مع الصبر تنصرون فإن الصابرين هم الأعلون، وإن المُحِقَّ لا يفشل, يعلم أن الله معه يذب عنه ويقاتل، وإنه إن قدم على الله أكرم منزلته وشكر سعيه إنه شاكر يحب الشاكرين".يمر سيدنا خالد بن الوليد على كل كردوس يقول لهم هذه المقالة؛ ليحمس الناس ويشجعهم على القتال فازدادت حمية الجيش، وبدأت النفوس تتشوف إلى الجنة وإلى الجهاد في سبيل الله وأصبح الجنود مستعدين للقتال الآن.
    المبارزة مفتاح النصر:

    من المتعارف عليه في ذلك الوقت من الزمان أن تبدأ المعارك بالمبارزة بين بعض أفراد الجيشين المتحاربين، ثم يبدأ القتال، وهنا اختار سيدنا خالد أربع مجموعات من الفرسان للمبارزة.
    إن الله لا يصلح عمل المفسدين:

    في هذا الوقت تحدث قصة في المعسكر الرومي -سنرويها لإظهار الفرق بين سيرة أمراء المسلمين مع الرعية والناس، وسيرة أمراء الروم مع رعيتهم- حيث عاث الجيش الرومي وهو قادم من أنطاكية حتى وصل نهر اليرموك فسادًا في أرض قومهم، فوقعوا على النساء ونهبوا الأموال وأخذوا الديار وسرقوا الماشية وذبحوها وأكلوها بغير حقها، كل هذا يفعلونه في قومهم، وفي أهل دينهم (وقد حدث مثل هذا تمامًا من الجيش الفارسي الذي جاء من المدائن إلى القادسية ليقاتل المسلمين؛ فعاثوا في قومهم الفُرس فسادًا وإجرامًا)، فالموقف يتكرر في كل عصر وكل مكان، فأي جيش من جيوش الطواغيت لا يدين بالإسلام ولا يلتزم به عندما يتملك السلطة لا يقف أمامه شيء؛ فما دامت لديه السلطة وهو مجرد من الإيمان فهو يفعل ما يشاء في العباد حتى لو كان هؤلاء العباد هم عامة الشعب التي يُفترَض أنه يحميها، فلما فعلوا ذلك جاء الناس، واشتكوا وضجُّوا بالشكوى إلى باهان، وباهان قائد الجيش كان معروفًا بالشرف والنُّبل والعظمة، وبكونه رجلاً كريمًا لا يقبل هذه الأمور بتاتًا، كما كان يشتهر بذلك رستم قائد الفرس، ونذكر أنه لما حدث ذلك في الطريق إلى القادسية قام رستم وخطب خطبة عظيمة عن أن هذا لا يجوز في حق المجاهدين والمقاتلين، مع أن الفُرْسَ يعبدون النار، فيقوم باهان أيضا ويخطب خطبة في الناس؛ فيقول: "يا معشر أهل هذا الدين إن حجة الله عليكم عظيمة، إنه قد بعث إليكم رسولاً، وأنزل إليكم كتابًا، وكان رسولكم لا يريد الدنيا وزهَّدَكم فيها، وأمركم ألا ترغبوا فيها، وألا تظلموا أحدًا، فإن الله لا يحب الظالمين، فأنتم الآن تظلمون فما عذركم غدًا عند الله وقد تركتم أمر نبيكم، وما آتاكم من كتاب ربكم؟ وهذا عدوكم قد نزل بكم يقتل مقاتلتكم، ويسبي ذراريكم، وأنتم تعملون بالمعاصي فلا تنزعون عنها خشية العقاب فإن نزع الله سلطانكم من أيديكم، وأظهر عليكم عدوكم فمن الظالم إلا أنتم؟ فاتقوا الله وانصرفوا عن ظلم الناس. طبعًا خطبة عظيمة ورجل جليل؛ فقال له واحد: ما دمت تقول هذا الكلام فإن لديَّ مظلمة؛ فانصرني فيها؛ فقال له: قل لي حاجتك، فقال: كانت لي غنم، وكانت ترعى هذه الغنم زوجتي وابني، فجاء جيش الروم وعليه عظيم من عظماء الروم (يعنى فرقة من فرق الروم، وعليها واحد من العظماء) فجاء هذا العظيم وأخذ حاجته من هذه الأغنام ثم أخذ الباقي ووزعه على أصحابه؛ فذهبت زوجة الرجل إلى هذا العظيم وقالت له: خذ حاجتك من الأغنام التي استوليت عليها ورُدَّ عليَّ ما أعطيت لأصحابك (فيصبح نصف الظلم بدلاً من الظلم كله) ورَضِيَتْ بذلك، فأَمر بها أن تُدخَل خيمته؛ فدخلت خيمته ودخل معها، وطال مكثهما؛ فاقترب ابنها من الخيمة؛ فوجد الرجل يراودها عن نفسها وهي تبكي؛ فصرخ الغلام, فأُمِر به (الغلام) فَقُتِل؛ فخُبرِّ بذلك أبو الغلام؛ فذهب إلى العظيم وقال له: قد سمعت أنك فعلت ذلك بزوجتي وقتلت ابني؛ فقام إليه أشراف من أصحاب هذا العظيم يريدون قتله؛ فقال الرجل: فاتقيتهم بيدي؛ فقطعوها بالسيف، وها هي مظلمتي أشكوها لك؛ فقال له باهان: هل تعرف هذا الرجل؟ فقال: نعم؛ وأشار إلى واحد من عظماء القوم الجالسين في حضرة باهان؛ فقال باهان للرجل العظيم: ما دعاك إلى أن تفعل ذلك؟ فقال: إنما هو عبدي، وهي أمتي, أتريد أن لا أقضي لذتي من أَمَتي، وأن تقتلني بعبدي؛ ثم قام مجموعة من الأشراف بعد أن قال هذه الكلمة وانطلقوا إلى الرجل الذي جاء بالمظلمة؛ وقتلوه أمام باهان نفسه وفي حضرته؛ فقام باهان بعد هذا الأمر، وخطب خطبة ثانية؛ فقال: أما أنتم فقد أتيتم أمرًا عظيمًا، وعصيتم ربكم، وأغضبتموه عليكم، وإذا غضب على قوم فهو ينتقم منهم، والعجب كل العجب كيف لا تُهَدُّ الجبالُ ولا تتفجر البحار ولا تزول الأرض ولا ترعد السماء لهذه الخطيئة التي عملتموها وأنا أنظر إلى أعمالكم العظام (أي تقومون بها أمام سمعي وبصري) إن كنتم تؤمنون بأن لهؤلاء المستضعفين المظلومين إلهًا ينتصر لهم، وينصف المظلوم على الظالم؛ فأَيْقِنوا بالقصاص ومن الآن يُعجَّل لكم بالهلاك، وإن كنتم لا تؤمنون بذلك فأنتم والله عندي شر من الكلاب وشر من الحمير، ولعمري إنكم لتعملون أعمال قومٍ لا يؤمنون، وأما أنا فأشهد أني بريء من أعمالكم، وسوف ترون عاقبة الظلم، ولأي مصير تصيرون، ثم نزل وكفَّ عنهم, ولم يعاقبهم).قد يظن البعض من هذه الخطب الرنانة التي يقوم بها القادة الرومان -وهم مشهورون بهذه الخطب ومولعون بها- أن أعمالهم على قدر ما تتضمنه هذه الخطب من عظائم الأعمال، لكن -في الحقيقة-كل هذه الخطب نظرية وليس فيها ما يُطَبَّق في أرض الواقع، فهذا الرجل الشريف الذي خطب كل هذه الخطب، وقال كل هذه المواعظ، ويبدو عليه التمسك بالدين لم يفعل شيئًا لهذا العظيم ولم يقتصَّ منه، رغم أنه يملك القوة فهذا الرجل (باهان) أمير كل الجيوش، وأعظم قائد في الدولة الرومية، وقد حدث هذا في حضرته، وحدث مثل ذلك الكثير في حضرة هرقل ذاته ولم يفعل شيئًا.
    خالد يختار القادة:

    إذن بعد هذه الحادثة بات (باهان) مقتنعًا بأن جيشه يستحق الهزيمة، ولكنه ليست له سيطرة عليه، وعظماء الروم يعيثون في الأرض فسادًا، والله سبحانه وتعالى لا ينصر أمثال هؤلاء بمعصيتهم، بل يُلقِي في قلوبهم الرعب، فجيش الرومان جيش مهزوز، جيش قابل للهروب في أية لحظة، بينما جيش المسلمين جيش ثابت ومؤيَّد بالإيمان وهذا الجيش كله يرغب في الموت أكثر منه رغبة في الحياة كما يقول سيدنا خالد بن الوليد، في هذا الوضع يبدأ سيدنا خالد بن الوليد في ترتيب الجيش بحيث يكون جاهزًا للقتال في أية لحظة؛ لأنه علم أن القتال قد يأتي في أية لحظة بعد توقف المفاوضات برد سيدنا خالد على باهان؛ فقام سيدنا خالد بن الوليد، وذهب إلى خيمة سيدنا أبي عبيدة بن الجراح يحدثه -رغم أنه قائد الجيوش كلها- ويقول له في منتهى الأدب ومنتهى اللطف: يا أبا عبيدة من كنت تجعل على ميمنتك؟ فقال: معاذ بن جبل (وكان سيدنا خالد بن الوليد يعلم هذا الأمر، ولكنه يريد أن يشرك أبا عبيدة في الأمر، ولا يشعره أنه انفرد بالإمارة وأصبح أمير الجيش، وأنه أهمل رأيه رغم أنه الأمير العام للجيوش الإسلامية كلها)؛ فيقول سيدنا خالد بن الوليد: أهل ذلك فوَلِّهِ؛ فجعل سيدنا معاذ بن جبل على الميمنة، ثم قال له: من كنت تجعل على الميسرة؟ قال: غير واحد (كل مرة شخصًا مختلفًا)؛ فقال سيدنا خالد: فولهِّا قباث بن أَشْيَم؛ فيقول أبو عبيدة: قد فعلت؛ فيقول خالد: وأنا على الخيل، وَوَلِّ مَن شئت على الرَّجَّالة (المشاة)؛ فقال أبو عبيدة: أُوَلِّيها إن شاء الله من لا يخُاف نكُوله ولا صدوره عند البأس (لا يهرب من المعركة أبدًا) سيدنا هاشم بن عتبة بن أبى وقَّاص (ابن أخي سيدنا سعد بن أبي وقاص الذي سميناه: المنقذ، عندما جاء مددًا لجيش الشام، وبعد ذلك سيذهب مددًا لجيش القادسية عندما سيحتاج المسلمون هناك إلى المدد)؛ فيولِّيها بالفعل سيدنا هاشم بن عتبة ابن أبي وقاص؛ فيقول سيدنا خالد لسيدنا أبي عبيدة بن الجراح: وُفِّقتَ ورَشدت، ثم يقول سيدنا خالد بن الوليد: أرسل إلى كل راية فَمُرْهم أن يطيعوني (لكي يعرف المسلمون أنه الأمير؛ فلا تتأخر الاستجابة لأوامره في أرض المعركة)؛ فيفعل سيدنا أبو عبيدة بن الجراح ويرسل سيدنا الضحاك بن قيس يمر على كل فرقة وكل كتيبة فيقول لهم: إن أميركم (أبا عبيدة بن الجراح) يأمركم أن تطيعوا خالد بن الوليد فكلما ذهب إلى فرقة قالوا له: سمعنا وأطعنا. سمعنا وأطعنا، ولا يهم الجنود هُوِيَّة القائد، ما دامت القيادة قد اتفقت على أنه قائد معين فكل الجنود يعملون تحت إمرة هذا القائد دون النظر إلى كونهم يحبون هذا القائد أكثر من غيره، فليس هناك جيوب ولا ولاءات داخلية داخل الجيش، فكل الجيش قال: سمعنا وأطعنا؛ فلما مرَّ الضحاك بن قيس بمعاذ بن جبل حدث بينهما حوار لطيف نذكره لدلالاته وعبره.
    الأُخُوَّة في الله :

    يقول الضحاك بن قيس: لما مررت بمعاذ بن جبل وقلت له: إن أميركم أبا عبيدة بن الجراح يأمركم أن تطيعوا خالد بن الوليد قال معاذ بن جبل: سمعنا وأطعنا ثم التفت إلى الكتيبة التي وراءه وقال لهم: إنكم إن أطعتموه (لو أطعتم خالد بن الوليد) لَتطيعون مبارك الأمر ميمون النقيبة عظيم الغَناء حسن الحسبة والنية.هذا رأى سيدنا معاذ بن جبل في سيدنا خالد بن الوليد؛ فلما سمع الضحاك بن قيس من معاذ بن جبل هذه الكلمات أعجبته فذهب إلى سيدنا خالد بن الوليد وقال له: لقد قلت قولاً أمام معاذ بن جبل: أن أطيعوا خالد بن الوليد فقال هذه الكلمات، فيقول سيدنا خالد بن الوليد في تواضع: رحم الله أخي معاذًا أما والله إن أحبني فإني لأحبه في الله، لقد سبقت له ولأصحابه سوابق لا ندركها ولا نبلغها ولا ننالها فهنيئًا لهم ما خصَّهم الله بذلك (كان سيدنا معاذ من أوائل من أسلم من الناس، وأسلم سيدنا خالد بن الوليد سنة 7هـ، ونحن الآن في سنة 15هـ)، فلما سمع الضحاك بن قيس هذه الكلمات رجع لمعاذ بن جبل وقال له: لقد قال خالد بن الوليد هذا الكلام؛ فقال معاذ بن جبل: أما إني لأرجو أن يكون الله قد أعطاه -بصبره على جهاد المشركين وشدته عليهم وجهاده إياهم مع حسن نيته بإعزاز دينه- أحسن الثواب، وأن يكون من أفضلنا بذلك عملاً.فهو يَعُدُّ خالد بن الوليد بفضل جهاده -مع أنه أسلم متأخرًا- من أفضل المسلمين عملاً؛ فذهب الضحاك بن قيس إلى خالد بن الوليد وقال له: إن معاذ بن جبل يقول: إنك من أفضل الناس عملاً؛ فقال خالد بن الوليد: ما شيء على الله بعزيز.فهناك نوع من الحب الشديد بين الجيش الإسلامي يجعل المطَّلِعَ يشعر أنهم عائلة واحدة، وليسوا مجموعات متشرذمة جُمِعت بالقهر والسطوة والغلبة كجنود الجيش الرومي وجِيءَ بهم عن طريق التجنيد الإجباري على كل الناس من البالغ حتى الشيخ الفاني كما يحدث في هذه العصور، فالجيوش التي تسمى جيوشًا إسلامية كلها تُجَنَّد تجنيدًا إجباريًّا ليس فيها من يذهب للجهاد برغبته، بل يحاول الشاب أن يدفع عدة آلاف من الجنيهات ليتجنب التجنيد، أو يبحث عن الواسطة التي تجنبه التجنيد وتصرفه عن أرض الجهاد.ولكن يختلف المفهوم هنا اختلافًا كليًّا، وهدف الجيش مختلف، وقائد الجيش مختلف، والمبادئ التي يقوم عليها الجيش مختلفة، ونفس الشخص الذاهب إلى المعركة مختلف، فهذه المواقف لا يمكن قياسها على حالة الجيش الإسلامي في اليرموك.إذن كان الحب منتشرًا بين أفراد الجيش الإسلامي، وهناك ترابط وأُخوَّة وثيقة نغبطهم عليها، كما نرى موقف الضحاك بن قيس الذي ما إن سمع كلمة طيبة من مسلم في حق أخٍ له إلا وأسرع بنقلها لذلك الأخ؛ لينشر المحبة بين المسلمين، وهذا من أصولنا الإسلامية أن ننقل الكلام الذي يزرع وينمي المحبة بين المسلمين. فهذا واقع الجيش الإسلامي مقارنة بالجيش الرومي.
    هرقل يحاول منع جيشه من الهروب:

    على الناحية الأخرى يقف قادة الجيش الرومي خائفين من هروب الجنود؛ لأن الجنود غير منسجمين مع القائد، ولا منسجمين مع أنفسهم ولا يوجد بينهم حب ولا في قلوبهم ولاء لجيشهم أو قادتهم أو دينهم، فالاحتمال قائم في هروب الجيش مع أن تعداده 200 ألف والجيش الإسلامي 33 ألفًا فقط، ولا توجد مقارنة.ومن أجل تفادي احتمال هروب الجيش أرسل هرقل-وهو في أنطاكية- رسالة إلى باهان الموجود في دير أيوب يقول له فيها: انزلوا بالروم منزلاً واسع العطن (العطن: هو مَبْرك الإبل في المكان الذي تشرب فيه) فهو يريد وضع الجيش في منطقة واسعة جدًّا يستطيع المناورة فيها، ومع ذلك ضيقة المهرب لكي يضطر جيشه للقتال ويمنعه من الهرب وهذا أمر قد نستغربه، لكن باهان يفكر في الرسالة فيجد أن تنفيذ هذا الأمر يتطلب أن ينتقل بجيشه من منطقة دير أيوب على ساحل اليرموك غربًا إلى المنطقة المحصورة بين نهر اليرموك ونهر الرِّقاد، وهذه المنطقة في شمال نهر اليرموك عبارة عن منطقة مربعة جنوبها نهر اليرموك الذي يسير من الغرب إلى الشرق، وشرقها وادي (عِلاَّن) وهو وادٍ منخفض، وغربها والشمال الغربي منها نهر اسمه (الرِّقاد)، وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه المنطقة المحصورة بين الأنهار هضبة عالية، والناحية الغربية منها منحدر عميق جدًّا وتسمى الواقوصة (والواقوصة هي التي توقص الرجال يعني تهلكهم) أي أن خلفية هذه المنطقه هاوية سحيقة، وليس لها مخرج غير الشمال الشرقي وهي منطقة ضيقة للغاية، فأمر باهان جيشه أن يتوجه من دير أيوب إلى هذه الهضبة الموجودة في شمال نهر اليرموك ويجعل وجهته ناحية الشمال الشرقي فيصبح على يمين الجيوش نهر اليرموك، وعلى شمالها نهر الرقاد وفي خلفها الهاوية (الواقوصة) بحيث لا يستطيع الجيش أن يهرب، ويضطر للوقوف والثبات أمام المسلمين للقتال، ليس هذا فقط, بل هناك أوامر من هرقل بتقييد كل عشرة من الجيش في سلسلة، كما فعل الفرس قبل ذلك في موقعة ذات السلاسل، وحدث مثل ذلك في موقعة القادسية.

  • #2
    رد: مباحثات ما قبل اليرموك * فتوح الشام *

    المصدر


    تعليق

    ما الذي يحدث

    تقليص

    المتواجدون الآن 1. الأعضاء 0 والزوار 1.

    أكبر تواجد بالمنتدى كان 182,482, 05-21-2024 الساعة 06:44.

    من نحن

    الامن الوطني العربي نافذة تطل على كل ما يتعلق بالعالم العربي من تطورات واحداث لها ارتباط مباشر بالمخاطر التي تتهددنا امنيا، ثقافيا، اجتماعيا واقتصاديا... 

    تواصلوا معنا

    للتواصل مع ادارة موقع الامن الوطني العربي

    editor@nsaforum.com

    لاعلاناتكم

    لاعلاناتكم على موقع الامن الوطني نرجو التواصل مع شركة كايلين ميديا الوكيل الحصري لموقعنا

    editor@nsaforum.com

    يعمل...
    X