اليرموك.. اليوم الأول
منقوول
يوم الجهاد يوم عظيم من أيام الله I، وكل أيام الجهاد أيام عظيمة وكل ساعات الجهاد ساعات عظيمة، ولكن الله I يفضل أيامًا على أيام ويفضل أمكنة على أمكنة، و هذا اليوم يوم اليرموك من أعظم الأيام في تاريخ الإسلام على الإطلاق، فإن الله I شاء في ذلك اليوم أن يغير من خريطة التاريخ، حيث من الممكن أن ينتصر المسلمون في موقعة والثانية والثالثة ولكن تأتي موقعة بعينها فتغير التاريخ وتغير معها معالم الدولة الإسلامية ومعالم الدولة الرومية أو الدولة الفارسية، وقد مرَّ المسلمون في فتح الشام بمعارك كثيرة ذكرناها بالتفصيل منها: أجنادين ومنها موقعة بيسان وفتح دمشق وفتح بعلبك وحمص ومنها معركة مَرْج الصُّفَّر الأولى والثانية والآن يصل المسلمون إلى موقعة فصل الخطاب وهي من المواقع التاريخية الكبيرة.والحقيقة أن مقدمات هذه الموقعة كانت ضخمة وقد يعلم البعض أن فتح الشام قد جاء عن طريق موقعة اليرموك فقط، ولكننا ما زِلْنا نتحدث في تاريخ فتح الشام منذ ثلاث سنوات من سنة 12هـ إلى 15هـ حتى أتت موقعة اليرموك فالتاريخ طويل وصعب وعسير قبل موقعة اليرموك والدماء كانت كثيرة..والآن يلتقي الجيش الإسلامي مع الجيش الرومي في موقعة اليرموك في أرضٍ شمال نهر اليرموك كما تحدثنا من قبل، واضطر الروم إلى قبول الحرب ورفضوا دفع الجزية وقبل المسلمون الحرب أيضًا والتقت الصفوف وهي على أهبة الاستعداد كما ذكرنا من قبل.وقد مرت الأيام في صف الصفوف والتجهيز للجيشين: الإسلامي والرومي حتى استغرقت من 25 جمادى الآخرة سنة 15هـ إلى 4 رجب سنة 15هـ أى تسعة أيام يصف المسلمون صفوفهم ويصف الروم صفوفهم، ثم أتى يوم 4 رجب فخرج الفريقان ووجد المسلمون أن الجيوش الرومية تتقدم ناحيتهم رغم أن هذا اليوم كان يومًا شديد المطر، ومع ذلك تقدمت الجيوش الرومية فتشاور المسلمون فى الأمر واجتمع مجلس شورى المسلمين وقرروا عدم بدء الحرب لأن الجو غير مناسب، ولم يكن الجيش الإسلامي معتادًا على هذا المطر في أرض الصحراء بالجزيرة العربية؛ فلذلك قرروا الانتظار ولكن إذا بدأهم الروم بالقتال ردوا عليهم وإذا لم يبدأوهم لم يقاتلوهم في هذا الجو الصعب وهذه حكمة من الجيش الإسلامي وحكمة من مجلس الشورى فليس الغرض إلقاء الجيش فى التهلكة ولكن الغرض السعي بقدر الإمكان إلى تحقيق النصر فإن لم يكن النصر فالشهادة.إسلام جورجه :
منقوول
يوم الجهاد يوم عظيم من أيام الله I، وكل أيام الجهاد أيام عظيمة وكل ساعات الجهاد ساعات عظيمة، ولكن الله I يفضل أيامًا على أيام ويفضل أمكنة على أمكنة، و هذا اليوم يوم اليرموك من أعظم الأيام في تاريخ الإسلام على الإطلاق، فإن الله I شاء في ذلك اليوم أن يغير من خريطة التاريخ، حيث من الممكن أن ينتصر المسلمون في موقعة والثانية والثالثة ولكن تأتي موقعة بعينها فتغير التاريخ وتغير معها معالم الدولة الإسلامية ومعالم الدولة الرومية أو الدولة الفارسية، وقد مرَّ المسلمون في فتح الشام بمعارك كثيرة ذكرناها بالتفصيل منها: أجنادين ومنها موقعة بيسان وفتح دمشق وفتح بعلبك وحمص ومنها معركة مَرْج الصُّفَّر الأولى والثانية والآن يصل المسلمون إلى موقعة فصل الخطاب وهي من المواقع التاريخية الكبيرة.والحقيقة أن مقدمات هذه الموقعة كانت ضخمة وقد يعلم البعض أن فتح الشام قد جاء عن طريق موقعة اليرموك فقط، ولكننا ما زِلْنا نتحدث في تاريخ فتح الشام منذ ثلاث سنوات من سنة 12هـ إلى 15هـ حتى أتت موقعة اليرموك فالتاريخ طويل وصعب وعسير قبل موقعة اليرموك والدماء كانت كثيرة..والآن يلتقي الجيش الإسلامي مع الجيش الرومي في موقعة اليرموك في أرضٍ شمال نهر اليرموك كما تحدثنا من قبل، واضطر الروم إلى قبول الحرب ورفضوا دفع الجزية وقبل المسلمون الحرب أيضًا والتقت الصفوف وهي على أهبة الاستعداد كما ذكرنا من قبل.وقد مرت الأيام في صف الصفوف والتجهيز للجيشين: الإسلامي والرومي حتى استغرقت من 25 جمادى الآخرة سنة 15هـ إلى 4 رجب سنة 15هـ أى تسعة أيام يصف المسلمون صفوفهم ويصف الروم صفوفهم، ثم أتى يوم 4 رجب فخرج الفريقان ووجد المسلمون أن الجيوش الرومية تتقدم ناحيتهم رغم أن هذا اليوم كان يومًا شديد المطر، ومع ذلك تقدمت الجيوش الرومية فتشاور المسلمون فى الأمر واجتمع مجلس شورى المسلمين وقرروا عدم بدء الحرب لأن الجو غير مناسب، ولم يكن الجيش الإسلامي معتادًا على هذا المطر في أرض الصحراء بالجزيرة العربية؛ فلذلك قرروا الانتظار ولكن إذا بدأهم الروم بالقتال ردوا عليهم وإذا لم يبدأوهم لم يقاتلوهم في هذا الجو الصعب وهذه حكمة من الجيش الإسلامي وحكمة من مجلس الشورى فليس الغرض إلقاء الجيش فى التهلكة ولكن الغرض السعي بقدر الإمكان إلى تحقيق النصر فإن لم يكن النصر فالشهادة.
ثم خرج من عند الروم قائد عظيم من قوادهم وهو (جورجه) وفي روايات اسمه (جرجه) وقيل: إن اسمه (جورج)، ولكن هذا الرجل العظيم المشهور في التاريخ الإسلامي خرج وطلب خالد بن الوليد، فخرج له خالد أمير الجيوش كلها؛ فلما اقتربا، وكل منهما رافع سيفه وماسك درعه، طلب جورجه الأمان من سيدنا خالد بن الوليد؛ فأمنه خالد وخفض سيفه، فخفض الآخر سيفه ولكن احتمى كل منهما بدرعه يخشى الخيانة من الآخر، واقترب جورجه وخالد بن الوليد في وسط الأرض، بين الجيش المسلم وبين الجيش الرومي ودار بينهما حوار عجيب:قال جورجه: يا خالد اصدقني؛ فإن الحرَّ لا يكذب، ولا تخدعني؛ فإن الكريم لا يخدع، هل أنزل الله على نبيكم سيفًا من السماء فأعطاكه فلا تسُلَّه على أحد إلا هزمته؟فقال خالد: لا لم ينزل الله علينا سيفًا من السماء.فقال جورجه: فبم سُمِّيت سيف الله؟فقال خالد: إن الله بعث فينا نبيه فدعانا؛ فنفرنا عنه، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه، وبعضنا باعده وقاتله وكذبه، فكنت ممن باعده وقاتله وكذبه، ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به فتابعناه؛ فقال لي رسول الله : أنت سيف من سيوف الله سلَّه على المشركين، ودعا لي بالنصر فسميت سيف الله بذلك؛ فأنا من أشد المسلمين على المشركين بدعوة رسول الله لي بالنصر، وبتسميته لي أنني سيف من سيوف الله.. (سيف الله المسلول).فقال جورجه: صدقتني.. ثم قال: يا خالد إلام تدعوني؟فقال خالد: أدعوك إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند الله.فقال جورجه: فمن لم يجبكم إلى ذلك؟قال خالد: فعليه الجزية ونمنعه.فقال جورجه: فإن لم يعطِها؟قال خالد: نؤذنه بحرب ثم نقاتله.فقال جورجه: فما منزلة الذي يدخل فيكم ويجيبكم على هذا الأمر اليوم؟قال خالد: منزلتنا واحدة، فيما افترض الله علينا: شريفنا ووضيعنا، وأولنا وآخرنا.فقال جورجه: هل لمن دخل فيكم اليوم يا خالد مثل ما لكم من الأجر والذُّخْر؟فقال خالد: نعم وأفضل..فتعجب جورجه وقال: كيف يساويكم وقد سبقتموه؟فقال خالد: إنا دخلنا في هذا الأمر وبايعنا نبينا وهو حيّ بين أظهرنا تأتيه أخبار السماء، ويخبرنا بالكتب ويرينا الآيات، وحُقَّ لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع، وأنكم وأنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج فمن دخل منكم في هذا الأمر بحقيقة ونية كان أفضل منا عند الله..(وهكذا يبين الرسول في الحديث أن الذى يتمسك بدينه في هذا الزمان: زمان الصَّدِّ عن سبيل الله كالقابض على الجمر، وأجره كأجر خمسين؛ فسأله الصحابة: يا رسول الله خمسين منا أم منهم؟ (أى أجر خمسين من الصحابة أم أجر خمسين من زمانهم) فقال: "بل منكم"، فالقابض على دينه في هذا الزمان والذي يجاهد في سبيل الله ويتقي الله في هذا العصر المليء بالفتن ولا نحسب أن هناك عصرًا أشد فتنة على المسلمين منه حتى هذه اللحظة، والله أعلم بالمستقبل وبالطبع ستكون الفتنة أشدُّ، فالقابض على دينه في ذلك العصر له أجر خمسين من صحابة الرسول بنص الحديث).فيقول جورجه: بالله لقد صدقتني ولم تخدعني؟فقال خالد: بالله لقد صدقتك.. وما بي إليك ولا لأحد منكم من حاجة وإن الله لوليُّ ما سألت عنه.فقال جورجه: صدقتني..ثم قلب ترسه وقال: يا خالد علِّمني الإسلام..فأخذه خالد بن الوليد وأسرع به إلى خيمته وشنَّ عليه الماء من قِرْبَة (أي تخفف الرجل من لباسه بعض الشيء وصبَّ عليه الماء ليغتسل من كفره) فعلمه الصلاة.كل ذلك والجيشان مصطفَّان أمام بعضهما لم يحدث بينهما قتال؛ فعلمه الصلاة فصلَّى ركعتين دخل بهما الإسلام ثم انطلق بعد ذلك يقاتل يوم اليرموك بجوار خالد طوال المعركة، حتى منَّ الله عليه بالشهادة في نهاية المعركة.. فاستشهد في هذه المعركة في آخرها وكان في أولها كافرًا, فقال خالد: سبحان الله عَمِلَ قليلاً وأُجِرَ كثيرًا، هذا فضل الله يؤتيه من يشاء..كل الخير الذى فعله في حياته يوم واحد فقط كان يوم جهاد في سبيل الله فسَبَقَ عليه الكتاب فعمل بعمل أهل الجنة فدخلها، سبحان الله!!و لا نظن أن ذلك كان بسبب الكلمتين اللتين قالهما له سيدنا خالد فى البداية فقط بل كانت سيرة المسلمين في الشام محمِّسة لكثير من الناس للدخول فى الإسلام، فهذا الرجل كانت تحادثه نفسه من قبل ذلك: يدخل في الإسلام أو لا يدخل, حتى حانت له فرصة وخاطب خالد بن الوليد وثَبَتَ على الإيمان، حتى إن هناك بعض الروايات تقول: إن هذا الرجل (جورجه) هو الذي أتى المسلمين قبل موقعة اليرموك إلى سيدنا أبي عبيدة يقول له: أرسل رجلاً إلى باهان يفاوضه، فذهب خالد بن الوليد بعد ذلك.
غلمان المسلمين يطلبون الشهادة في سبيل الله:ثم خرج رجل من الروم يطلب المبارزة من المسلمين، ونحن نعلم أنه توجد مجموعة من صناديد المسلمين واقفة تنتظر الأمر بالمبارزة، وأثناء وقوف هؤلاء الأبطال خرج هذا الرجل يطلب المبارزة؛ فوجد المسلمون غلامًا من الأزد لا يعرفه أحد وهو دون العشرين، يجري ناحية سيدنا أبي عبيدة بن الجراح ويقول له: يا أبا عبيدة إني أردت أن أشفي قلبي، وأجاهد عدوي وعدو الإسلام، وأبذل نفسي في سبيل الله تعالى لعلي أرزق بالشهادة فهل تأذن لي؟لم يكن من هؤلاء الرجال الذين نادى عليهم سيدنا خالد بن الوليد، وهو غلام دون العشرين، ولا يعرف اسمه أحد، ولكن الله I يعرفه، فقال: هل تأذن لي أن أخرج فأقاتل هذا الرجل؟فهزت الكلمات قلب سيدنا أبا عبيدة بن الجراح، وقال له: اخرج فخرج، وعندما همَّ بالخروج التفت إلى سيدنا أبى عبيدة بن الجراح، وقال له كلمة بكى منها أبو عبيدة بن الجراح قال له: يا أبا عبيدة هل لك إلى رسول الله من حاجة؟ (فهو ذاهب للشهادة فبكى سيدنا أبو عبيدة بن الجراح حتى اخْضَلَّت لحيته).فقال أبو عبيدة: أَقْرِأ رسول الله مني السلام وأخبره أنَّا وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا.فانطلق الغلام المجهول الذي لا يعرفه أحد ولكن الله I يعرفه، كما قال عمر من قبل عندما ذكروا له فتح فارس ومن قتل من المسلمين فقالوا: قُتِلَ فلان وفلان وفلان وأخذوا يَعُدُّون له عظماء الصحابة، ثم قالوا له: وخلق كثير لا تعلمهم، فقال: وما ضرهم ألا يعلمهم عمر يكفيهم أن الله يعلمهم..وخرج هذا الغلام لهذا الرجل البطل من أبطال الروم فخرج وهو يقول:لابد من طعن وضرب صائب *** بكل لدن وحسام قابضعسى أن أفوز بالمواهب *** في جنة الفـردوس والمراتـب(اللدن: الرمح اللين الذي لا ينكسر، أي فيمسك بالرمح ويضرب به وبالسيف)وانطلق وقاتل هذا الرجل الرومي حتى قتله، وأخذ فرسه وسلاحه وسلمهما إلى المسلمين وعاد من جديد وقال: هل من مبارز؟فخرج له ثاني فقتله، والثالث فقتله، ثم الرابع فقتله، فخرج له خامس فحقق له أمنيته، لقاء الرسول فقطع رقبته؛ فطارت رقبة الغلام على الأرض، واستُشهِد في سبيل الله وطارت روحه الطاهرة إلى السماء في حواصل طير خضر تبلغ رسول الله سلام أبي عبيدة ورسالته..ثم قام أبو عبيدة؛ فقال: أليس لهذا الرجل من رجل؟ فتحمس معاذ بن جبل وقال: أنا له (ونحن نعلم أن معاذ بن جبل هو قائد الميمنة) فأمسك به سيدنا أبو عبيدة بن الجراح وقال له: الزم مكانك، سألتك بحق رسول الله أن تثبت، وأن تلزم الراية فلزومك الراية أحب إليَّ من قتالك هذا الرجل؛ فيتحمس سيدنا معاذ بن جبل ويقول: إذن أنزل من على فرسي، وقال: ألا يريد هذا الفرس وهذا السلاح رجل من المسلمين يقاتل به هذا الفارس؟ فتقدم له عبد الرحمن بن معاذ بن جبل، ابنه، وكان حدثًا، قيل: لم يحتلم وقيل: في أول احتلامه كان عمره 13 أو 14 سنة، وكان عُمْر سيدنا معاذ بن جبل 30 سنة في هذه الموقعة، وهذا أكبر أبنائه عنده 13 سنة؛ فقام عبد الرحمن بن معاذ بن جبل وقال: يا أبت إني لأرجو أن أكون فارسًا أعظم غناء عن المسلمين منِّي راجلاً -ومع أن أباه كان قائد الميمنة إلا أنه كان من المشاة- فأعطني الفرس؛ فأعطاه الفرس والسلاح، وقال: وفقني الله وإياك يا بُني، فقال عبد الرحمن: يا أبتِ إنْ أنا صبرت فلله المنّة عليَّ، وإن أنا قُتِلت فالسلام عليك، ثم همَّ بالخروج، ولكنه عاد يسأل أباه كما سأل الغلام الأزدي، فقال: يا أبتِ أليست لك حاجة عند رسول الله ؟فقال له سيدنا معاذ بن جبل وأرضاه: يا بني أقرأه منِّي السلام، وقل له: جزاك الله عن أمتك خيرًا..وألقى بابنه في أحضان الموت ثم خرج عبد الرحمن بن معاذ بن جبل واقتتل مع الرومي فاختلفا ضربتين فمال الرومي؛ فطاشت ضربة عبد الرحمن وأصابت ضربة الرومي، ونزلت على رأس عبد الرحمن بن معاذ بن جبل فشجتها شجًّا عميقًا، فغطَّى الدم وجهه وظنَّ أنه يموت، وظن الرومي كذلك أنه يموت فعاد إلى أبيه وقال: يا أبتِ قتلني الرومي، فقال معاذ بن جبل والدموع في عينيه: يا بُنيَّ وماذا تريد من الدنيا؟!! فعاد ابنه مرة أخرى بالفرس إلى الرجل ولكن سبحان الله لم تمهله ساعات أجله فسقط شهيدًا من على فرسه، وكان ثاني شهداء المسلمين عبد الرحمن بن معاذ بن جبل وعمره 13 سنة، وذهب إلى رسول الله يبلغه تحية أبيه معاذ بن جبل؛ فقال أبو عبيدة: فمن له منكم؟ فخرج عامر بن الطفيل الدوسي (عامر الذي تنبأ له أبوه بالشهادة في يوم ما) فخرج عمرو بن الطفيل وما هي إلا لحظات حتى كانت أمعاء الرومي مبعثرة في الأرض، وانتقم من هذا الرومي وكبَّر المسلمون في ساحة المعركة.
الاستعدادات النهائية للمعركة:بعد صلاة الفجر يقترب الجيش الرومي من الجيش الإسلامي ويبدأ الاستعداد للقتال في اليوم الثاني 5 من رجب سنة 15هـ, وكان هذا اليوم صحوًا ليس فيه مطر؛ فعَلِمَ المسلمون أن القتال سيدور في هذا اليوم، وأتى الروم في جموع كالسَّيْل والليل كما يقول الرواة، وهذا تشبيه صائب ودقيق؛ لأننا ذكرنا أن الجيش الرومي اصطف في أرض مساحتها حوالى 10 كيلومترات، وقد صفَّه قادته صفوفًا؛ فصفوف المشاة عشرون، وعددهم كان 120 ألف جنديٍّ من المشاة، إذًا عرض الجيش الرومي 6000 فرد في عشرين في العمق, ولو حسبنا أن لكل واحد من الجنود مترًا ونصفا يتحرك فيه فمعنى ذلك أن عرض الجيش الرومي 9 كيلومترات، أي 9000 متر؛ فأقبلوا على المسلمين كالسيل لا يُرَى أوله من آخره، وفرسان الروم كانوا 80 ألف فارس، هذا في أصح الروايات، ولكن بعض الروايات تذكر أن الجيش الرومى كان 240 ألف وليس 200 ألف فقط، وروايات أخرى تذكر أنهم 400 ألف, وهذه الروايات جاءت على لسان باهان قائد الروم نفسه عندما كان يخاطب جيشه فيقول لهم: أنتم 400 ألف, أنتم عشرة أضعافهم، ويبدو -والله أعلم- أنه كان يحمِّس جيشه، ولكن الصحيح -والله أعلم- أن عدد الجيش الرومي كان 200 ألف مقاتل: 80 ألف فارس و120 ألفًا من المشاة؛ منهم 30 ألف جنديٍّ من المشاة مسلسلين في القيود: كل عشرة في قيد وذلك ليمنعوا هروبهم وفرارهم من المعركة، ويبدو أن هؤلاء الـ 30 ألفًا هم من جُمِعُوا بالقوة والإجبار والإكراه وليسوا ممن تطوع لمحاربة المسلمين فى هذه المعركة.وأقبل الروم ولهم دويٌّ كدوي الرعد وأثاروا غبارًا شديدًا، وجاءوا بأعداد ضخمة رافعين الصلبان وواضعين على مقدمتهم القساوسة والرهبان الذين جعلوا يحمسون الجنود، ويقولون لهم: إن هذه معركة بين الإسلام والمسيحية؛ لِيُلقوا في قلوبهم الحمية لقتال المسلمين، وهم يعلمون أن هؤلاء الرهبان ذاتهم قد فرُّوا من المسلمين من قبل في كثير من المواقع وليس في موقعة واحدة، ويتقدم الجيش الرومي ناحية الجيش المسلم في وقع يهز أشد القلوب جسارة، وأشد النفوس قوة، ولكن يبدو -وسبحان الله- أن الجيش الإسلامي ليس من البشر، فما حوله لا يهزه ولا يحرِّك له ساكنًا؛ فثبت المسلمون ولم يلتفتوا إلى هذه الأعداد الضخمة الرهيبة القادمة من ناحية الروم بل زادتهم إيمانًا {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ *إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[آل عمران 173: 175].
غرس الحماسة في قلوب المسلمين:يسمع خالد بن الوليد وهو على رأس الجيش مقولة من أحد الجنود لم تعجبه (ويبدو أنه كان مضطربًا ولا يعرف كيف يزن الأمور)؛ فقال الجندى: ما أَكثر الرومَ، وما أقلَّ المسلمين! 200 ألف ضد 33 ألف, 1:6 أي لا بد للمسلم أن يهزم ستة من أجل أن يحقق النصر فى المعركة، فغضب خالد غضبًا شديدًا، واحمرَّ وجهه، واهتز وهو يقول له: بل ما أقلَّ الروم، وأكثر المسلمين!! لا يُنصَرُ الناسُ بالعدد، وإنما يُنصَرون بنصر الله I لهم، ويُخذَلون بخذلان الله I لهم، واللهِ لوددتُ أن الأشقرَ بَرَاءٌ (الأشقر هذا هو فرس سيدنا خالد بن الوليد، وهو الذي حارب عليه في كل فتوح العراق، وكان مريضًا فى هذه الموقعة فلم يحارب عليه فيها) وأنهم ضوعفوا في العدد -يعني أصبحوا 400 ألف بدلاً من 200 ألف فى سبيل أن يكون الأشقر سليمًا، فهو يَعُدُّ الأشقر بـ 200 ألف رومي- أتخوفونني بالروم, وكانوا عنده كالذباب لا يمثلون أي شيء، وأشار سيدنا خالد إلى الدعاة أن انطلقوا وحَمِّسوا الناس؛ لأنه شعر أن بعض الأفراد قد هزتهم هذه الكثرة، فانطلق الدعاة يحمسون الناس ويرغبونهم في الجنة فقام سيدنا أبو عبيدة بن الجراح وأرضاه أمين هذه الأمة؛ فقال: يا عباد الله، انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم فإنَّ وعد الله حق، يا معشر المسلمين اصبروا فإن الصبر منجاة من الكفر، ومرضاة للرب، ومدحضة للعار، فلا تبرحوا مصافَّكم، ولا تخطوا إليهم خطوة، ولا تبدأوهم بقتال، واشرعوا الرماح واستتروا بالدرق -أي الدروع- والزموا الصمت، إلا من ذكر الله، وسبحان الله كان هذا الصمت له فعل شديد على القلوب الرومية فقد هزهم هذا الصمت، فهذا الجيش يقف ساكنًا لا ينادي بكلمات الجزع، ولا يهرب ولا يفكر في الهرب وهو صامت، وكأن شيئًا لا يعنيه، وكأنهم لا يرون هذه الجموع الرومية كلها إلا كالذباب، كانت هذه خطبة سيدنا أبي عبيدة في اليرموك، وانتقل بها من مكان إلى مكان ينشرها بين الناس، ثم قام سيدنا معاذ بن جبل وأرضاه أعلم أمة محمد بالحلال والحرام وإمام العلماء يوم القيامة يقول: يا قُرَّاءَ القرآنِ، ومستحفظي الكتاب، وأنصار الهدى، وأولياء الحق، إنَّ رحمة الله -والله- لا تُنال، وجنته لا تُدخَل بالأماني، ولا يؤتي اللهُ المغفرةَ، والرحمة الواسعة إلا الصادقين المصدقين بما وعدهم الله عزَّ وجلَّ، ألم تسمعوا قول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]، أنتم إن شاء الله منصورون فأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين، واستحيوا من ربكم أن يراكم فرارًا من عدوكم وأنتم في قبضته ورحمته، وليس لأحد منكم ملجأ من دونه وليس فيكم متعزِّز بغير الله، كانت هذه خطبة معاذ بن جبل قالها فى ميمنته ودار بها على الجيش يقولها ويحمس الناس، ثم قام سيدنا عمرو بن العاص؛ فقال: يا أيها الناس، اشرعوا الرماح والزموا مراكزكم ومصافكم, فإذا حمل عليكم عدوكم فأمهلوهم حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فَثِبُوا في وجوههم وُثُوبَ الأسد.. (يعني لا تبدأوا بالهجوم إلا إذا اقتربوا منكم وصاروا قريبين جدًّا من أسنة الرماح) فوالذي يرضَى الصدقَ ويُثيب عليه، ويمقت الكذبَ ويعاقب عليه، ويجازِي بالإحسان، لقد بلغني أن المسلمين سيفتحونها كَفْرًا كَفْرًا (يعني بلدًا بلدًا) وقصرًا قصرًا، سمع ذلك من رسول الله ، وبشرهم الله I بفتح هذه البلاد في غزوة الأحزاب، والمسلمون محصورون في المدينة، سبحان الله فلا يهولنَّكم جمعُهم ولا عددُهم فإنكم لو صدقتموهم الشدة لتطايروا تطاير أولاد الحجر -بعض الطيور الصغيرة عندما تهش تطير أي وهم كذلك يطيرون، ولا يقفوا لكم ولا يثبتوا أمامكم- ثم قام القاص (والقاص هو الذي يحمس الناس) وهو سيدنا أبو سفيان صخر بن حرب فيقول: يا معشر المسلمين لا ينجيكم اللهُ منهم اليوم وتبلغون رضوانه إلا بصدق اللقاء والصبر في المواطن المكروهة، ألا إنها سُنَّةٌ لازمة، سنة لازمة أن يحارب المسلمون الكفار وأن يثبت المسلمون في المواطن المكروهة فيحقق الله I لهم النصر، وإن الأرض وراءكم بينكم وبين أمير المؤمنين وجماعة المسلمين صحاري وبَرارٍ (بينكم وبين أمير المؤمنين والمدد مسافات بعيدة جدًّا فلا تطمعوا فى مدد) ليس لأحد فيها معقل إلا الصبر، ورجاء ما عند الله فهوخير معوَّل، فيقول: فاحتفظوا بسيوفكم وتقرَّبوا بها إلى خالقكم ولتكن هي الحصون التي تلجأون إليها وبها تمتنعون، الله الله إنكم أنصار الإسلام وهم أنصار الشرك.
عودة إلى اليرموك:جاءت الجيوش الرومية وعلى مقدمتها جبلة بن الأيهم الغساني، وتقترب من الجيش الإسلامي والمطر لا يتوقف، فتقف الجيوش ساعة منتظرين القتال ولكن الجيش الرومي يفكر في الانسحاب وعدم القتال؛ فيطمئن المسلمون لذلك ولا يبدأون بالقتال حتى ينسحب الجيش الرومي مرة أخرى ويعود إلى معسكره في انتظار توقف المطر..سيمر هذا اليوم دون قتال، يوم 4 من رجب سنة 15هـ، و هذه الليلة ليلة 5 من رجب سنة 15هـ يقضي كل الجيش الإسلامي النصف الأول من الليل في قيام الليل وسبحان الله في هذا الجو العصيب, وفي هذه الأخطار المحدقة بالمسلمين وفي الترصد من الروم للجيش الإسلامي, وعلى الرغم من ذلك كل الجيش الإسلامي يقف ويصلي قيامًا لله I..والحقيقة أننا لا نستطيع أن نفهم ذلك إلا إذا فهمنا أن قيام الليل هذا لبنة من اللبنات المكونة للمجاهد، فتركيب المجاهد تركيب صعب، بناء المجاهد بناء صعب، فليس من السهل أن يصبح المرء مجاهدًا، فقيام الليل لهذا المجاهد لبنة من اللبنات التي تقيم ذلك البناء الصعب، وصلاة الفجر، و قراءة القرآن لبنة من لبنات المجاهد، وحب الخير للناس والسعي لنشر هذا الخير، والجهاد في سبيله لبنة من لبنات المجاهد، وعدم الخوف من أحد غير الله I وعدم الخوف على الرزق وعدم الخوف على الأجل كل هذا لبنة من لبنات المجاهد, وهذه الأمور جميعًا إذا اجتمعت تكوِّن المجاهد، لذلك تستطيع أن تجد فقيهًا ولكنه ليس مجاهدًا وتستطيع أن تجد قارئًا للقرآن ولكنه ليس مجاهدًا، قد تستطيع أن تجد عالمًا أو ناسكًا أو داعيًا لله ولكنه ليس مجاهدًا، ولكن من الصعب أن تجد مجاهدًا في سبيل الله ليس فيه هذه الصفات، فالمجاهد جمع كل هذه الصفات؛ ولذلك جعل الرسول الجهاد ذروة سنام الإسلام، لأنه جمع كل خصال الخير، فإذا كنت تريد أن تكون مجاهدًا فاعلم أن الطريق طويل وأن البذل كثير وأن الأجر إن شاء الله تعالى على قدر المشقة وعلى قدر الجهد..
بُشْرَى بنصر المسلمين وتشاؤم عند الروم:تعالوا نعش مع الجيش الإسلامي في هذا اليوم أو هذه الليلة العظيمة، فبعد انقضاء النصف الأول من الليل في صلاة القيام، كان النصف الثاني كله تجهيزًا للجيش الإسلامي، فقد وقف القادة أمام الصفوف يرتبونها ويشجعون الجنود حتى حان موعد صلاة الفجر فاصطفَّ المسلمون لصلاة الفجر، وصلى بهم سيدنا أبو عبيدة بن الجراح لأنه هو الأمير العام للجيوش الإسلامية، فوقف سيدنا أبو عبيدة وقرأ في الركعة الأولى سورة (الفجر): {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ *فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر 1: 14], وأكمل أبو عبيدة الآيات إلى آخر السورة واستمع إلى الآيات راشد بن عبد الرحمن الأزدى أحد المجاهدين من قبيلة الأزد وعندما وصل سيدنا أبو عبيدة إلى هذه الآيات قال: والله لقد ظهرنا على القوم، لَلَّذي أجرى على لسانه هذه الآيات هو الذي ينصرنا إن شاء الله رب العالمين، وعلمت أن الله I سوف يصب عليهم سوط عذاب، فهؤلاء كعاد مثلهم كمثلهم، يعني نفس الروم مثل قوم عاد بالضبط أكثروا في الأرض الفساد وأن الله I سيصب عليهم سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد، واطمأن لذلك راشد بن عبد الرحمن، ثم بدأ الركعة الثانية فقرأ سورة (الشمس) حتى وصل إلى هذه الآيات: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس 11: 15], فقال راشد في نفسه: والله هذه أخرى إن الله I سوف يدمدم عليهم بذنبهم فيسويها على أيدينا؛ لأنهم فعلوا مثلما فعل قوم ثمود من قبل، وهكذا سبحان الله انظروا إلى معايشة المسلم للقرآن فالمسلم الذي يقرأ القرآن باستمرار, ويحاول أن يطبق القرآن في كل مواقف حياته سيجد دائمًا في كل موقف من مواقف حياته آية توجهه توجيهًا معينًا، وتنصحه نصيحة معينة، وتثبته تثبيتًا معينًا، ولذلك لا يصح لأحد المسلمين أن يكون لا يدري معاني كلمات القرآن الكريم، حتى لا يضيع الهدف من قراءة القرآن الكريم وهو أخذ الحكمة وأخذ العبرة وأخذ المنهاج الذي يسير عليه في الدنيا حتى يصل في الأخرة إن شاء الله إلى رضوان الله وجنته.وتنتهي الصلاة وبعد الصلاة يلتفت سيدنا أبو عبيدة بن الجراح إلى المسلمين ويقول لهم: أيها الناس أبشروا فإني رأيت في ليلتي هذه فيما يرى النائم، وبدأ يقص عليهم هذه الرؤيا؛ ففي صحيح البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ يَقُولُ: "إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا يُحِبُّهَا فَإِنَّمَا هِيَ مِن اللَّهِ فَلْيَحْمَد اللَّهَ عَلَيْهَا وَلْيُحَدِّثْ بِهَا, وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ فَإِنَّمَا هِيَ مِن الشَّيْطَانِ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا وَلا يَذْكُرْهَا لأَحَدٍ فَإِنَّهَا لا تَضُرُّهُ".فلقد رأى سيدنا أبو عبيدة بن الجراح رؤيا فيها بشرى؛ وأراد أن يبشر المسلمين بها؛ فقال لهم: "رأيت فيما يرى النائم كأن رجالاً أتوني فحفوا بي، وعلي ثياب بيض ثم دعوا لي رجالاً منكم أعرفهم، ثم قالوا لنا: أقدموا على عدوكم ولا تهابوهم فإنكم أنتم الأعلون، ثم مضينا إلى عسكر عدونا فلما رأونا قاصدين إليهم انفرجوا لنا وجئنا حتى دخلنا عسكرهم فوَلَّوا مدبرين"؛ ففرح المسلمون بذلك وقالوا: بشرك الله إن هذه بشرى من الله، واطمأن المسلمون لهذه البشرى وتفاءلوا بها، فقال أبو مرثد الخولاني بعد أن سمع هذه الرؤيا من سيدنا أبى عبيدة بن الجراح: والله إني رأيت أنا الآخر رؤيا؛ فقال أبو عبيدة: فحدِّثْ بها؛ فقال: "إني قد رأيت كأنا خرجنا إلى عدونا فلما توقفنا صَبَّ الله عليهم طيرًا بِيضًا عظامًا لها مخالب كمخالب الأسد وهي تنقضُّ من السماء انقضاض العُقْبَان؛ فإذا حازت بالرجل من المشركين ضربته ضربة يخِرُّ منها منقطعًا، وكان الناس يقولون: أبشروا معاشر المسلمين فقد أيَّدكُمُ الله عليهم بالملائكة "؛ فقال أبو عبيدة بن الجراح: بشَّرَك الله بالخير، هذه والله بشرى من الله..و على الفور أمر سيدنا أبو عبيدة أن تصل هاتين الرؤيتين.
الأعراب على مقدمة الجيش الرومي:تتقدم الجيوش الرومية نحو المسلمين، واللافت للنظر فى ترتيب الجيش الرومي أن الميمنة عليها رجل يسمى (جورجير)، والميسرة عليها رجل يسمى (درنجر) وكان هذا الرجل ناسكًا من الزهاد العباد ومع ذلك فهو فارس مغوار, فلذلك أجبره هرقل على الخروج على ميسرة الجيش الرومي وكان يكره قتال المسلمين وكان يرى أن الحق معهم، ومع ذلك أُجبر على الخروج فخرج على رأس ميسرة الجيش الرومي.ومما يلفت النظر أيضًا في تركيبة الجيش الرومي أن الميمنة والميسرة كانتا من الروم، أما القلب ومقدمة الجيش الرومي فكانتا من الأعراب، وكان على مقدمة الأعراب جبلة بن الأيهم الغساني من قبيلة غسان، والحقيقة أن هذا الموقف لا يجوز أن يمر علينا دون أن نقف أمامه لحظة حيث نلاحظ أن الجيش الرومي قد وضع الأعراب أو العرب الموجودين في منطقة الشام في مقدمة الجيوش ليفتدوا الجيش الرومي بأرواحهم وتضيع بذلك دنياهم وآخرتهم، وكان هذا ديدن الجيش الرومي في أرض اليرموك وفي المواقع التى خاضها مع المسلمين، وكان هذا أيضًا ديدن الجيش الفارسي مع المسلمين وعندما تحدثنا عن موقعة (عين التمر) ذكرنا أنه كان فيها خليط من الفرس والأعراب أو من القبائل العربية الموالية للفرس، وقد جعل الفرس الأعراب في مقدمة الجيوش للتضحية بهم، حتى إذا التقت الجيوش الرومية أو الفارسية مع أعدائها كانت الجيوش العربية أو الموالية لهما فى المقدمة فتسقط صريعة فداءً للجيش الرومي أو الفارسي..الحقيقة أن هذه ليست أمورا تاريخية فحسب، ولكنها أحداث تتكرر في كل وقت وزمان، وهذه سنة الله I..ومن والى العدو فعليه ذنبه ومصيبته، فقد تكرر هذا من قريب كما نذكر جميعًا منذ خمس سنوات فقط، وفي حرب الخليج الثانية أثناء عملية تحرير الكويت فقد كانت الجيوش العربية في مقدمة الجيش الأمريكي وكانت القوات البرية العربية بأكملها فى المقدمة فى أكثر المواقع خطورة، أما الجيوش الأمريكية والإنجليزية والفرنسية فقد كانت فى الخلف تحارب بالريموت كنترول عن طريق الطائرات أو الصواريخ بعيدة المدى ولا يوجد أي اختلاط بين القوات العربية البرية والجيوش الأجنبية المعادية.وهذه عبرة من التاريخ تتكرر كثيرًا فيجب علينا أن نتعظ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].ثم نجد الله I في الآية التالية يقول: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 52].أي إنهم عندما يوالون هؤلاء الكفار وهؤلاء اليهود والنصارى فإنهم لا يوالونهم حبًّا لهم وإنما لأنهم يرون أن لهم الغلبة، فهؤلاء يرون أنه ليس من المعقول أن نحارب الروم أو الفرس، وليس من المعقول أيضًا أن نحارب أمريكا، فهذا إهلاك للنفوس، وتخريب للبلاد في نظرتهم السقيمة.ولكن بإذن الله سيأتى الفتح من عند الله I كما قال في سورة المائدة وفى كثير من الآيات..
تعليق