من المسائل العقدية التي يؤمن بها أتباع الدين الخاتم أن الدنيا هي دار ابتلاء وامتحان واختبار , وأن الآخرة هي دار القرار , فقد يبتلي الله تعالى بعض الناس في الدنيا بالمرض أو الفقر أو الحرمان من الولد .......الخ , بينما يمتحن آخرين بالصحة والعافية وكثرة المال والأولاد , فمن صبر على بلاء الله واحتسب , وشكر نعمة الله تعالى عليه واستخدمها في طاعته كان له من الله يوم القيامة الثواب والأجر العظيم .
وانطلاقا مما سبق يستطيع القارئ فهم تلك القوة العجيبة التي مكنت الكثير من النماذج - التي رآها وشاهدها أو قرأ عنها - من الصبر والمصابرة والتكيف مع قضاء الله وقدره , وتحويل امتحان الله تعالى المتمثل بالإعاقة الجسدية إلى منحة , وعدم التوقف عن المثابرة والعمل والإنجاز رغم الصعوبات والمعوقات والتحديات .
وإذا كانت نماذج المتغلبين على صعوبات وتحديات الإعاقة الجسدية أكثر من أن تحصى , فإن النموذج الذي بين أيدينا قد يكون مختلفا , فقد تغلب الشاب السعودي طارق الوادعي على إعاقته الجسدية انطلاقا من إيمانه بقضاء الله تعالى وقدره , ويقينه بأن الله سيجزيه على صبره واحتسابه ما وعد به في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم , في الوقت الذي قد يتغلب غيره على إعاقته انطلاقا من مسلمات ومعتقدات أخرى لا صلة لها بالإيمان بالله وقضائه وقدره .
طارق الوادعي شاب سعودي في منتصف العقد الرابع من عمره , بعيش في قرية آل عائذ 11 كيلو عن محافظة سراة عبيدة جنوب المملكة السعودية , يعاني من إعاقة جسدية شديدة تتمثل في ضمور في العضلات وانحناء في العمود الفقري ، وقدماه قطعة واحدة ، ما يضطره للنوم على بطنه وصدره .
وعلى الرغم من تبعات الإعاقة وتحدياتها إلا أن "الوادعي" أصر بعزيمة وإرادة قوية مواصلة الحياة وصنع الإنجازات , فكان يتنقل زحفاً على بطنه وجنبيه ، و يشرب بأسنانه ويأكل بفمه في مكان مرتفع قليلاً عن الأرض ، ويستخدم الجوال ويستفيد من وسائل التواصل الاجتماعي بالضغط على الحروف بأنفه ولسانه ، ويتقن الحاسب الآلي ، ويتواصل مع علماء الشريعة بالإنترنت.... ما مكنه من نيل بعض الشهادات من بعض علماء المملكة .
لم يكتف "الوادعي بمجرد التكيف مع إعاقته للاستمرار في الحياة كأي إنسان عادي فحسب , بل دفعه إيمانه بالله وإرادته القوية إلى الإصرار على الإنجاز والعمل , فقرر حفظ كتاب الله تعالى كاملا رغم صعوبات ذلك ومعوقاته .
بدأ رحلة كفاحه للانضمام إلى قائمة حفاظ الوحي وحملة كتاب الله بتحسين أدائه الصوتي , وقد استغرق هذا الأمر وحده عاما كاملا , ثم بدأ بحفظ القرآن بالتلقين خلف معلم ليتم حفظه بعد 4 أعوام ، وقد حال قضاء الله وقدره من تحقيق حلمه في أن يصبح معلماً للقرآن الكريم , حيث توفي يوم الأحد الماضي في مسقط رأسه .
تحدث معلم الوداعي "خالد عدلان" عن الصعوبات التي واجهها الراحل لإتمام حفظ كتاب الله تعالى فقال : كان يعاني من صعوبة في مخارج الحروف لأنه يتحدث وهو مستلق على بطنه ، لكنه تمكن من التغلب على كل تلك المعوقات ، وأتقن حفظ القرآن بل ودرس أسباب النزول وأتقن قواعد اللغة العربية والمعاني الأدبية والبلاغية في القرآن الكريم .
وقد حظي الراحل في حياته باهتمام كبير من قبل جمعية تحفيظ القرآن الكريم (روح)، بمحافظة سراة عبيدة جنوبي المملكة , وفي يونيو/حزيران الماضي أنتجت الجمعية فيلما قصيرا عن الوادعي بعنوان "رحلة كفاح" ، احتفاء بحفظ القرآن الكريم كاملا بتقدير ممتاز رغم إعاقته الشديدة ...... وهو ما يؤكد على أهمية اهتمام الجمعيات والمنظمات الأهلية في الدول العربية والإسلامية بذوي الاحتياجات الخاصة , ودورها الكبير في استثمار الطاقات والإمكانيات الهائلة في نفوس أمثال "الوادعي" , وتحويل ذوي الإعاقة من عبء على المجتمع إلى منتج وفاعل , بل وملهم لغيره من الأصحاء .
حظي خبر وفاة "الوداعي" باهتمام واسع على الصعيد المحلي السعودي والعربي والإسلامي , ونعى الكثير من العلماء والدعاة والناشطين الراحل على مواقع التواصل الاجتماعي , داعين له بالرحمة والمغفرة ، وسائلين المولى لأسرته الصبر والسلوان .
وشارك الكثير على "تويتر" صورة "الوداعي" وهو يقرأ القرآن ويقلب صفحاته بأسنانه بسبب إعاقته ، مؤكدين أن الوادعي نموذج يحتذى به في الإصرار وقوة الإرادة وتحدي الظروف للوصل إلى الغاية والهدف في مرضاة الله تعالى , وذلك تحت وسم : #طارق_الوادعي و #وفاة_طارق_قاهر_الإعاقة .
إن الدرس الأهم من قصة كفاح "الوادعي" وأمثاله من ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة هو : الإيمان القوي والعقيدة الراسخة تصنع العجائب , حتى لو كان صاحبها من ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة .