جيولوجيون سعوديون يكملون مسيرة الرحالة الغربيين في محاولة قراءة أسراره
|
حمل رحالة غربيون في النصف الأول من القرن العشرين أشياءهم وارتحلوا، زادهم أحلام رومانسية باستكشاف سحر الشرق المدفون تحت كثبان الرمال المتحركة في قلب صحراء الربع الخالي، سائرين على دروب قوافل اللبان، متخذين من العرب البدو أدلاء في طريق بلا معالم واضحة، لكن أولئك البدو أكسبتهم قسوة الحياة مهارات استثنائية في قراءة دروب الصحراء.
ويقول الرحالة الإنجليزي توماس بيرترام، وهو أول من اجتاز بحر الربع الخالي الرملي من الرحالة الغربيين في عام 1930م «استطاعت صحراء الربع الخالي، تلك الصحراء العذراء الكبيرة في جنوب شبه جزيرة العرب، أن تستحوذ على انتباه كل رجل أبيض أقام في شبه جزيرة العرب، كما أغرتني أنا الآن.
منطقة الربع الخالي يمكن تشبيهها بسيدة وقور تومئ للإنسان أن يمتنع عنها، كان هذا هو انطباعي الأول بالنسبة لها، ولكني لم أتعلق بهذا الوهم».
ترك أولئك الرحالة إرثاً من القصص والحكايات، عن مدينة «عبر» أو كما أسموها «أتلانتيس الرمال» المفقودة، أو مدينة «إرم ذات العماد» كما يعرفها المسلمون، إذ ادعى عثوره على تلك المدينة خلال رحلته الشهيرة في عام 1930م.
كما تحدث بيرترام في روايته لتفاصيل الرحلة عن «موسيقى الرمال»، قائلا «كانت الحركة الأولى من ذلك «الكونشرتو» الغريب طويلة بما فيه الكفاية.
لقد كان الأمر أشبه ما يكون بقرع الطبول، وأحياناً يخيل إليك أنك تصغي إلى هدير محرك طائرة.
أما مرافقيّ فقد كانا منشغلين بتأدية بعض الحركات الطقوسية التي كانت فيما يبدو موجهة نحو الجن الذين يفترض أنهم مسؤولون عما حدث». !!!
واليوم يحمل خبراء جيولوجيون سعوديون مهمة البحث عن أحلام أكثر واقعية من رومانسية الرحالة الغربيين. وتقليب صفحات كتاب الصحراء الغامض، علهم يكتشفون بين صفحاتها أسرارها المخبوءة منذ آلاف السنين.
وعلى النسق نفسه، يجيء حديث رئيس هيئة المساحة الجيولوجية الدكتور زهير نواب، والذي أكد أخيراً «إن صحراء الربع الخالي تعتبر بالنسبة لنا كتاباً مغلقاً، لأن الجميع أحجموا عن عمل دراسات منتظمة فيها».
وينتظر أن يتحرك فريق سعودي علمي يضم خبراء دوليين قريباً لاستقصاء فرص اكتشاف مخزون من الموارد المائية الجوفية كاحتياط استراتيجي، وإيجاد التقنيات الحديثة للاستفادة منها، وتعميق الوعي وتركيز الجهود لتحقيق التنمية من الموارد المائية في منطقة الربع الخالي في مجالات الحياة المختلفة، بعد أن أظهرت الرحلات الاستكشافية العمق الاستراتيجي المائي لهذه المنطقة.
ويتحدى مدير معهد أبحاث الفضاء في جامعة بوسطن الأميركية الدكتور فاروق الباز، أي جيولوجي على سطح الأرض أن يقدم إجابات شافية عن أسئلة مثل: كيف تكوّن الربع الخالي؟ ولماذا تكوّنت الرمال؟ ولماذا هو ربع خالي؟.
وتمسك الدكتور الباز طوال السنوات الماضية بفرضية وجود مخزون هائل من المياه الجوفية تخبئه صحراء الربع الخالي في أعماقها البعيدة، ويقول «إن منطقة الربع الخالي تعد منطقة صحراوية لا تصلها أمطار إطلاقاً، ولكنها في الماضي كانت بحيرة تتجمع فيها المياه، وجزء من هذه المياه تسرب إلى أعماق الأرض، حيث لا تزال قابعة في الصخور على شكل مياه جوفية، وهي توجد بكميات كبيرة».
ويستدرك مدير معهد أبحاث الفضاء في جامعة بوسطن بالتنبيه إلى «أن تكلفة الوصول إليها واستخراجها ونقلها مرتفعة في الوقت الحالي، ولكن في المستقبل قد يكون استخراجها بوسائل تقنية حديثة متطورة أقل تكلفة».
ويسند رئيس قسم الجيولوجيا وأستاذ الاستشعار عن بعد بجامعة غرب متشيجان المشارك في كرسي الربع الخالي في جامعة الملك سعود الدكتور محمد سلطان، بتأكيده أخيراً على أن جميع القياسات المتطورة تؤكد على أن قرابة 27 في المائة من إجمالي مياه الأمطار الساقطة على منطقة الدرع العربي سنوياً تتجه نحو الربع الخالي، مؤكداً أن كمياتها بلغت في العام الماضي قرابة 150 مليار متر مكعب. هذا الإصرار من العلماء الجيولوجيين يجد قبولا كبيراً حتى من الناس البسطاء، لأنهم بكل بساطة يؤمنون بأمر من أنباء الغيب التي نقلها الرواة إليهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي قال «لا تقوم الساعة حتى تعود جزيرة العرب مروجاً وأنهارا».
وووفقاً لهيئة المساحة الجيولوجية السعودية، تعد صحراء الربع الخالي أكبر صحراء رملية متصلة في العالم، إذ تبلغ مساحتها نحو 600 ألف كيلو متر مربع، وتقع نحو80 في المائة من رمالها داخل حدود المملكة العربية السعودية، وتغطي نحو ربع مساحة البلاد وتتركز في الأطراف الجنوبية الشرقية والجنوبية منها، في حين تقع أطرافها الشرقية في الإمارات العربية المتحدة، وأطرافها الجنوبية الشرقية وأجزاء من أطرافها الجنوبية في سلطنة عمان، كما تقع أجزاء من أطرافها الجنوبية والجنوبية الغربية في الجمهورية اليمنية.
وتكشف الهيئة عن اختلاف في مصدر صحراء الربع الخالي بهذا الاسم، ففي حين يرى بعض الباحثين والمؤرخين أن مصدر هذه التسمية عربي قديم، حيث وردت هذه التسمية في كتاب البحار العربي الشهير ابن ماجد (الفوائد في أصول علم البحر والقواعد – سنة 895هـ)، حيث حدد الربع الخالي بأنه على مشارف مأرب والجوف، يعتقد فريق آخر من الباحثين أنها تسمية معربة من الاسم الأجنبي (The Empty Quarter)، التي وردت في كتب عدد من الرحالة والمستشرقين.
وأوضحت الهيئة أن الربع الخالي يضم وتحيط به أعداد كبيرة من الآبار وموارد المياه القديمة والحديثة، وتزداد كثافتها في الأجزاء الشرقية والشمالية الشرقية والشمالية منه، نظراً لقرب المياه من السطح، ويختلف تصنيفها حسب نوعية المياه إلى (القلمات): وهي آبار ارتوازية ذات مياه كبريتية حفرتها شركة «أرامكو» في أثناء المسح والتنقيب، وتنتشر في معظم أجزاء الربع الخالي، و(الخيران): وهي آبار ذات مياه مالحة تنتشر بشكل كثيف في الأجزاء الشرقية من الربع الخالي، وتتميز بقرب مياهها إلى سطح الأرض، والآبار والعدود: وهي آبار مياه صالحة للشرب نسبياً ويحرص الأهالي والرعاة على تغطية فوهاتها بعد السقيا منها حتى لا تدفنها الرمال، وتكون مواقعها معروفة للرعاة والأهالي للاستفادة منها عند الحاجة.
ومن الموارد المشهورة في الربع الخالي: بئر الشلفاء، وبئر النميلة، وبئر فاضل، وعين حميدان، وبئر أوبار، وقلمة آل جحيش، وبئر هادي، وبئر الطويرفة، وقلمة الحرشاء، وبئر الثويرة، وقلمة مهولة (المثلث)، وآبار معمورة، وبئر أم الحديد، وبئر فيصل، وقلمة فارس، وقلمة أمهات بركان، وقلمة عسيكرة، وقلمة الطويلة، وقلمة حمراء نثيل، وقلمة أم شداد، وبئر القديرات، وقلمة العبيلة، وقلمة الحفرة، وبئر طويلة هادي، وغيرها.
وأنشئت في السنوات الأخيرة معامل لتنقية المياه على بعض الآبار الارتوازية التي حفرتها الدولة في المراكز السكانية، في كل من: شرورة، والوديعة، والخرخير، وعردة، والسحمة، وذعبلوتن، وشبيطة، وفي مراكز حرس الحدود المنتشرة على طول خط الحدود مع الدول المجاورة، كما نفذت وزارة المياه مشروعاً كبيراً لحفر آبار في شقة النقيحاء في الربع الخالي (شرق نجران) لسحب المياه وتنقيتها، بهدف تزويد مدينة نجران بمياه الشرب.
لكن الثروات المكتشفة أو المأمول اكتشافها في أعماق صحراء الربع الخالي لا تقتصر على مخزونات المياه الجوفية الضخمة، إذ أكد الأمير عبد العزيز بن سلمان بن عبد العزيز، وكيل وزارة البترول والثروة المعدنية، على هامش حفل تدشين كرسي استكشاف الموارد المائية في الربع الخالي في جامعة الملك سعود الشهر الماضي «أن الربع الخالي يزخر بالكثير من الكنوز في باطنه سواء من المياه أو النفط والغاز».
ويلفت الأمير عبد العزيز بن سلمان الانتباه إلى وجود شركات تعمل فعلياً في منطقة الربع الخالي من أجل اكتشاف الغاز والنفط التي بدأت العمل فيه منذ عام 2003، إلى جانب شركة «أرامكو» السعودية التي تسعى حالياً لإنتاج 750 ألف برميل نفط يومياً من حقل شيبة النفطي، والذي افتتحه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، حينما كان ولياً للعهد في عام 1998م، وعندها أطلق على الربع الخالي لقباً جديداً هو «الربع الغالي»، والذي يأتي عبر حجم الآمال الآنية والمستقبلية في الاستفادة من مخزونات أسراره المدفونة تحت بحر رماله الذهبية.
تعليق