وقعت تطورات درامية سريعة بين أميركا وإيران خلال الأشهر السابقة، وكانت البداية من المكالمة الهاتفية التي جرت بين روحاني وأوباما في نيويورك أثناء انعقاد دورة الأمم المتحدة نهاية سبتمبر/أيلول الماضي، وهي المكالمة التي تحدث إعلام كل طرف أن الطرف الآخر هو المبادر بها.
والحقيقة أن هذه المكالمة كانت إيذانا بمرحلة جديدة بين إيران وأميركا, ستلعب فيها طهران دور الشرطي الجديد لصالح واشنطن في منطقة الشرق الأوسط, فكيف جرت الأمور؟ وما الأثمان التي ستدفعها المنطقة إزاء قيام إيران بهذا الدور؟
إذا عدنا إلى الوراء قليلا لوجدنا أن شاه إيران لعب دور شرطي أميركا في الخليج, فما الذي جعل أميركا تستغني عن خدماته؟
ما جعلها تستغني عن خدماته أمران:
الأول- تطلّعه إلى أن يكون جيشه سادس جيش في العالم بعد وجود فائض مالي عنده إثر ارتفاع أسعار البترول عام 1973 من سنتات محدودة للبرميل الواحد إلى أكثر من ثلاثين دولارا بعد حرب رمضان بين العرب وإسرائيل، وهو من أجل تحقيق هذا الهدف شكّل لوبيًّا إيرانيا في أميركا يعمل على شراء أسلحة أميركية مثل طائرات الفانتوم، رغم القيود التي تضعها واشنطن لعدم تصدير السلاح إليه. وقد نجح هذا اللوبي في تحقيق بعض الصفقات لصالح الشاه.
إن تطلعات الشاه السابقة تتعارض مع الإستراتيجية الأميركية التي تقوم على أن إسرائيل يجب أن تكون القوة العسكرية الأولى في الشرق الأوسط، وهذا هو السبب الأول الذي جعل أميركا تقبل بإزاحته من الحكم.
الثاني- تدنّي شعبية الشاه وضعف حكمه نتيجة تضخم جهاز المخابرات (سافاك) الذي كان يبطش بالخصوم من إسلاميين ويساريين, ونتيجة الفساد الذي كانت تعيشه أسرة الشاه والمحيطون بها، ونتيجة تبذير الأموال من قبل الشاه وأسرته للظهور بمظهر الأكاسرة القدماء، والخشية من أن يستطيع الحزب الشيوعي "تودة" الاستفادة من هذه الظروف المحيطة بالشاه، والقفز إلى الحكم.
تلك الأمور جعلت أميركا تفكر في ترحيل الشاه، وقد كان تيار الملالي -وعلى رأسه الخميني- المرشح الأقوى لحكم إيران بدلا من الشاه، فماذا حققت أميركا من مجيء الخميني إلى الحكم؟
لقد حققت ثلاثة أهداف، هي:
الأول- حل الخميني الجيش الإيراني وتفكيكه وإنهاء وجوده، وهو بذلك أزال أكبر قوة عسكرية من أمام إسرائيل في الشرق الأوسط.
الثاني- إبعاد الحزب الشيوعي "توده" عن التوصل إلى الحكم، مع أنه كان من أقوى الأحزاب الشيوعية في الشرق الأوسط المرشحة للقفز إلى الحكم، وفي حال وصوله سيكون هذا نصرا كبيرا للاتحاد السوفياتي.
الثالث- المجيء بقوة إسلامية تهدّد الاتحاد السوفياتي عبر التواصل مع المسلمين الموجودين في جنوب الاتحاد من جهة، وتهدد الكتلة السنية من جسم الأمة الإسلامية من جهة ثانية.
وبالفعل كانت ردود الفعل سريعة على مستوى الاتحاد السوفياتي ومستوى المنطقة، فاحتل الاتحاد السوفياتي نهاية العام 1979 أفغانستان كرد فعل على مجيء الخميني إلى الحكم، وأشعل صدام حسين حربا مع إيران عام 1980، ونجم عن الحدثين إشعال المنطقة والمساهمة في تدمير كل من أفغانستان وإيران والعراق.
وبعد مجيء الملالي إلى الحكم اتجهوا إلى جعل إيران دولة نووية، وبنوا عدة مفاعلات، ولما كان هذا يتعارض مع إستراتيجية أميركا والغرب التي تقوم على أن إسرائيل يجب أن تبقى الدولة الأقوى في المنطقة، وألا تقوم أي دولة أو قوة بتهديدها، كان التعارض بين أميركا والغرب وإيران في هذا الجانب.
ولكن التعاون بين أميركا وإيران كان قائما في أمور أخرى، منها الحرب العراقية الإيرانية، فقد أمدت واشنطن طهران بالأسلحة التي تساعدها على الاستمرار في محاربة العراق، وقد اتضح ذلك في صفقة "كونترا-غيت".
ومن ذلك أيضا معاونة إيران أميركا في احتلال أفغانستان عام 2001، والتعاون على احتلال العراق عام 2003، وما استتبع ذلك من جعل العراق مقسّما بين شيعة وسنة وأكراد وإذكاء الحرب الطائفية، بالإضافة إلى تدمير العراق وما بناه خلال القرن الماضي.
وقد استمر التجاذب بين أميركا وإيران خلال العقود الماضية حول المفاعلات النووية وتخصيب اليورانيوم، والبرنامج العسكري لهذه المفاعلات.
وبدأت مباحثات بين إيران ومجموعة "5+1" منذ عام 2003 حول برنامجها النووي، ووقع الطرفان أخيرا على اتفاق أولي، فما معالم هذا الاتفاق؟ وما نتائجه؟
ساهمت حكومة خامنئي خلال الأشهر الماضية في أكبر صفقتين شهدهما القرن الحالي، وهما: صفقة إنهاء الكيميائي السوري، وصفقة إنهاء النووي الإيراني التي ستلتزم فيها طهران بالمعايير الدولية للإنتاج السلمي، وستلتزم بفتح منشآتها النووية للتفتيش الدولي, وستحصل مقابل ذلك على مكسبين:
أولهما أن تخفف أميركا العقوبات الاقتصادية التي فرضتها عليها خلال السنوات السابقة والتي أضرت بالاقتصاد الإيراني، وأن تعيد لها أموالها المحجوزة في بنوك أوروبا وأميركا والتي تقدر بخمسين مليار دولار.
والثاني أن تعترف أميركا بها لاعبا أساسيا في المنطقة, وهو ما ظهرت بوادره في العراق, وستصبح إيران بالتالي شرطي المنطقة, فما الأدوار التي ستلعبها إيران؟ ستلعب عدة أدوار:
1- الدور الثقافي:
ستنشر إيران المذهب الشيعي في العالم الإسلامي, وتستغل في هذا النشر الطوائف الشيعية الموجودة في مختلف دول العالم الإسلامي, وتلعب بذلك دورا تدميريا للوحدة الثقافية للأمة والتي هي عنوان وجودها وقوتها.
وتحقق إيران بهذا الفعل لأميركا والغرب ما عجزا عنه خلال القرنين الماضيين حيث سلطا على هذه الوحدة الفكر القومي بعد الحرب العالمية الأولى في كل من العراق وبلاد الشام ومصر وغيرها, ثم الفكر الماركسي الاشتراكي بعد الحرب العالمية الثانية في كل من مصر وسوريا والجزائر وليبيا والعراق والسودان والصومال وغيرها، ولكنهما فشلا في تفتيت هذه الوحدة الثقافية, ويحلمان بتحقيق ذلك عبر نشر إيران المذهب الشيعي, ولكن هيهات أن يكون لها ذلك.
2- الدور السياسي:
ستلعب إيران دورا سياسيا تخدم فيه تطلعات أميركا وإسرائيل في إذكاء الصراع الطائفي كما يقع من دخول حزب الله إلى سوريا بأمر من خامنئي ومشاركة النظام الأسدي في قتل السوريين.
وكما تفعل إيران من مد الحوثيين بالمال والسلاح للاستمرار في الاقتتال مع الأطراف اليمنية الأخرى في صعدة وغيرها، وكما يحدث من دعم إيران للطوائف الشيعية في باكستان وأفغانستان بالمال وتحريكها في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
ومن ذلك نشر إيران المذهب الشيعي في كل من المغرب العربي وأفريقيا وجنوب شرق آسيا، وتكوين طوائف شيعية جديدة حيث لا تكون هناك طوائف، أو تدعيم الطوائف الموجودة وتقويتها وجعلها مرتبطة بإيران، تدعو وتروج لسياساتها وتتفاعل معها.
3- الدور العرقي:
تستفيد إيران من العرقية الفارسية في تحقيق أهدافها وتسخّرها من أجل توسيع سيطرتها، ويمكن أن نمثل على ذلك بتصريح بعض الملالي باعتبار البحرين جزءا من بلاد فارس، وعدم التراجع عن إلحاق جزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وجزر موسى بإيران وهي التي أخذها الشاه من الإمارات في وقت سابق.
خلاصة الكلام أن إيران ستصبح شرطي أميركا الجديد بعدما قدمت تنازلات في مجال برنامجها النووي، كما ساعدت في تدمير السلاح الكيميائي في سوريا. وقد استحقت هذا الدور بعدما حققت شرط أميركا الأولي والأساسي، وهو أن إسرائيل يجب أن تكون القوة العسكرية الأولى في منطقة الشرق الأوسط.
وستلعب إيران دورا إقليميا يتفرع إلى دور ثقافي يتجسد في تدمير الوحدة الثقافية للأمة، ودور سياسي يتمثل في نشر المذهب الشيعي، ودور عرقي يتلخص في تدعيم العرقية الفارسية.
تعليق