لماذا اختارت تركيا نظام الدفاع الصاروخي الصيني؟
مناورة وابتزاز
أثار اختيار أنقرة لشركة (CPMEIC) الصينيّة من أجل تطوير وإنتاج نظام دفاع صاروخي( أرض- جو) خاص بها أواخر شهر أيلول الماضي، صدمة لدى الأوساط الغربيّة السياسيّة والعسكريّة، ليس لكون تركيا أقرب الى أوروبا والغرب منه إلى الصين فقط، وليس لانّ مصالح تركيا السياسيّة والاقتصاديّة المستقبليّة مرتبطة بتطلعاتها غربًا وليس شرقًا، وإنّما لأنّ أنقرة عضو أيضًا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ومن المفترض أنّها في حلف مع هذه الدول وليس مع خصوم حلف شمال الأطلسي، وهذه هي النقطة الأهم في هذا السياق.
علنت اللجنة التنفيذية للصناعات الدفاعيّة التركيّة (SSIK) التي يترأسها رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان في 26/9/2012 بأنّ شركة ( (CPMIECالصينيّة فازت بالمناقصة إثر العرض الذي قدّمته والبالغ حوالي 3.44 مليار دولار لإنتاج نظام دفاع صاروخي (أرض – جو). وبهذا تكون أنقرة فضّلت منظومة (FD-2000) للدفاع الصاروخي (أرض – جو) -وهي نسخة معدّلة للتصدير عن منظومة (HQ-9) الصينية- على منظومات أخرى مثل منظومة (Patriot) الأمريكيّة، ومنظومة (S-300) الروسيّة، ومنظومة (Aster – 30) الأوروبيّة، والتي كانت مجموعة شركات عملاقة في الصناعات الدفاعيّة والعسكريّة قد تقدّمت بها من بينها شركة “رايثيون ولوكهيد مارتن” الأمريكية، وشركة “روزوبورون اكسبورن” الروسيّة، وشركة “يوروسام” الأوروبيّة.
وتنص الصفقة على إنتاج أربع منظومات للدفاع الصاروخيّ (FD-2000) – 288 صاروخ في 12 وحدة إطلاق- وعلى نقل التكنولوجيا والإنتاج المشترك، علمًا أنّ تركيا ستكون بحاجة إلى حوالي 15 إلى 20 منظومة من هذا النوع لتغطية كافة الأراضي التركيّة من المخاطر المحتملة، وهو أمر تأمل أنقرة أن تقوم بإنتاجه بنفسها بموارد محليّة بعد تسلّم الوحدات الأربع الأولى.
وتمتلك تركيا ثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي بعد الولايات المتّحدة الأمريكيّة، كما أنّ الجيش التركي يعتبر أكبر جيوش المنطقة على الإطلاق. وبالرغم من تقدّمه في مجال التسلّح التقليدي، فإنه يعاني من نقص في التكنولوجيا المتقدّمة مقارنة بشركائه في الناتو أو الولايات المتّحدة الأمريكيّة، كما يعاني من قصور شديد في منظومة الدفاع الصاروخي، وأهمّها افتقاده لنظام دفاع صاروخي (أرض- جو) مستقل.
وتحاول السلطات التركيّة ووزارة الدفاع تطوير القدرات القتالية للقوات المسلّحة من خلال تعزيز منظومة التكنولوجيا المتقدّمة حتى تصبح القوة العسكرية التركية على متسوى القوة الاقتصادية التي وصلت اليها البلاد وتكون قادرة على مواجهة التحديات السريعة التي قد تفرضها عليها التطورات الإقليميّة.
وتستثمر تركيا في التكنولوجيا العسكرية منذ مدة العام 1985 (قانون 32338)، حيث تفضّل أنقرة الاعتماد على صناعاتها المحليّة لتعزيز قدراتها الذاتيّة، ولكن عندما تكون المهمة أكبر من قدرة الشركات الدفاعيّة التركية على التحمّل أو القيام بها، فإنّها تفضّل حينها صيغة اتفاقات التطوير المشترك للمنتج مع شركاء، وإذا لم يكن ذلك ممكنًا فصيغة الإنتاج المشترك أو الترخيص بالإنتاج المشترك”.
ولم يخطُ الحليف الأمريكي خطوات جدّية في تحقيق اختراق في نقل تكنولوجيا للجانب التركي الذي يصر على هذا الأمر؛ لأنّه سيساعد على نقل البلاد والصناعات الدفاعية والعسكرية إلى مراتب متقدّمة، ولا تكتفي تركيا حينها بكونها دولة مستهلكة للتكنولوجيا العسكرية، وإنما مصنّعة أيضًا ومصدّرة مستقبلاً.
المصالح التركيّة مقابل المخاوف الغربيّة
على الرغم من أنّ الناتو اعتبر بدايّة أنّ قرار اختيار النظام الصاروخي هو قرار سيادي، إلا أنّه سرعان ما تحوّل إلى التعبير عن مخاوفه الشديدة، وهواجسه الكبيرة من قيام تركيا باعتماد العرض الصيني لتطوير وإنتاج نظام دفاع صاروخي تركي (أرض – جو) سيكون الأول من نوعه في تركيا على اعتبار أنّ أنقرة -وحتى هذه اللحظة- لا تمثل نظام دفاع صاروخي مستقل خاص بها، وتعتمد في المقابل على المنظومة الدفاعيّة الصاروخيّة الخاصّة بحلف شمال الأطلسي على اعتبار أنّها عضو في الحلف الذي يتيح ميثاقه كما آلياته الدفاع عن الدولة العضو عبر منظومة الحلف الخاصة إن تطلب الأمر ذلك.
وقد تمّ تعزيز هذه المخاوف بتصريحات أمريكيّة تشير إلى أنّه قد لا يمكن بأي حال من الأحوال إدماج هذه المنظومة الصينيّة بمنظومة حلف شمال الأطلسي وعمادها (الباتريوت) بسبب عدم التطابق بين النظامين الأمريكي والصيني. كما عبّرت أطراف عديدة في الحلف وفي واشنطن عن خيبة أملها وصدمتها إزاء اختيار أنقرة لعرض دولة ليست عضو في الحلف، ولا صديقة له، وكان الحلف يتوقع أن تختار أنقرة نظامًا متطابقًا مع منظومته على الأقل (أي أمريكيًّا أو أوروبيًّا).
وفقًا للجانب التركي، فإن رسو الصفقة على الشركة الصينية إنما جاء نتيجة لتطابقها بالكامل مع متطلبات الجانب التركي من ناحية دفتر الشروط والمعايير، لاسيما من ناحية:
• التكلفة الماليّة لمنظومة الدفاع الصاروخيّة (أرض – جو)، والمنخفضة نسبيًّا مقارنة مع العروض الأخرى التي فاقت كل واحدة منها مبلغ الأربعة مليارات دولار الذي وضعته تركيا كحد أعلى لسعر الصفقة.
• نوع التكنولوجيا المطلوبة في المشروع.
• نسبة انخراط العمالة المحليّة التركيّة في المشروع.
• نقل التكنولوجيا المستخدمة في المشروع لاسيما في المجال الصاروخي.
• ووجود تسهيلات في دفع التكاليف المالية.
لقد حاولت السلطات التركية تفنيد التعليقات الأمريكية وتعليقات حلف الناتو حول عدم مواءمة النظامين بالقول أنّ مشكلة عدم مواءمة منظومة باتريوت للمنظومة التي من المفترض أن تشكّل أوّل نظام دفاع صاروخي تركي (أرض- جو) طويل المدى، ستقوم شركة للصناعات الدفاعيّة التركيّة بحلّها عبر إدماج منظومة الدفاع الصاروخي الجديدة هذه بشبكة القوّات المسلّحة الجوّية التركيّة، كما أنّ المنتج النهائي سيكون منتجًا تركيّا وليس صينيًّا على الرغم من اعتماده على التكنولوجيا الصينيّة.
لكن سرعان ما تمّ القفز إلى مشكلة أخرى عبّر خلالها كل من الناتو والولايات المتّحدة عن المخاوف من أنّ إدماج هذه المنظومة التي تساهم الصين في إنتاجها بهيكليّة نظام الباتريوت قد يساهم في نقل معلومات حساسة، ويثير تحديات التجسس الإلكتروني وسرقة التكنولوجيا، كما أنّه قد يعطّل عملية التكامل بين الدول الأعضاء في الحلف مما يفقد الحلف معناه.
رسالة امتعاض تركيّة إلى الجانب الأمريكي
والحقيقة أنّ هذا القرار التركي، وأن نفى وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو أنّه يحمل طابعًا سياسيًّا، إلا أنّ له بالتأكيد جانب سياسي إلى جانب المعطيات العسكرية والماليّة بطبيعة الحال. كما أنّه يعدّ بمثابة صفعة للولايات المتّحدة، ومحاولة للقول بأنّ أنقرة مستاءة من نمط التعاطي الأمريكي حتى في القضايا الأمنيّة والعسكريّة، والتي من المفترض أن تكون في أفضل حالتها.
ويعود الاستياء التركي إلى مجموعة تراكمات سابقة أحدثت نوعًا من خيبة الأمل لدى صانع القرار، إذ اشتكى الأتراك العام الماضي على وجه التحديد من تقصير الولايات المتحدة الأميركية في دعم بلادهم التي من المفترض أنّها حليف استراتيجي، وعضو بارز في حلف شمال الأطلسي، خصوصًا على الصعيد العسكري والتكنولوجي.
إذ دأب الأتراك منذ عدّة سنوات على المطالبة الدائمة والمتكررة لنظرائهم الأميركيين بتزويدهم بطائرات استطلاع متطورة من دون طيار من طراز “برايداتورز”، بالإضافة إلى مروحيات مقاتلة من طراز “سوبر كوبرا” التي تُستخدم في العمليات الخاصة ومكافحة الإرهاب. كما ألحّوا على ضرورة أن يتم تزويدهم بالتكنولوجيا المرتبطة بأنظمة دفاعيّة متقدّمة لمواجهة مخاطر كتلك الموجودة مع سوريا الآن، أو مع إيران لاحقا، وقد باءت كل هذه المطالب بالفشل حتى هذه اللحظة.
حتى إنّ واشنطن كانت رفضت سابقًا في العام 2012 طلبًا تركيّا بتمديد عمل طائرات الاستطلاع من دون طيار التي تديرها واشنطن (أربع منها موجودة في قاعدة انجرليك) لتصبح فاعلة على مدار اليوم لمسح الشريط الحدودي التركي – العراقي على وجه الخصوص، وهو أمر لم يلق تجاوبًا أيضًا بحجّة أنّ التهديدات في أماكن أخرى تتطلب إشغالها هناك.
وفي حين عُزي هذا التردد الأميركي في منح تركيا تكنولوجيا متقدمة إلى تدهور العلاقات التركية – الإسرائيلية، يرى البعض أنّ هذا التردد يدفع تركيا مرغمة إلى محور روسيا – الصين مستقبلاً للتعويض، خصوصًا أنّ الدولتين وعلى عكس واشنطن لا تترددان في منح حلفائهما تكنولوجيا متقدمة مع سلّة أوسع من المصالح الاقتصادية والسياسية.
كما أنّ حلف شمال الأطلسي بدا مترددًا ومتلكئًا في الدفاع عن تركيا عندما تعرضّت أراضيها لاعتداءات متكررة من النظام السوري على الرغم من أنّ المادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي تنص على مسئوليّة الحلف في الدفاع عن أي دولة عضو تتعرض لاعتداء. صحيح أنّ الحلف قام بنشر بطاريات صواريخ باتريوت أخيرًا، لكن ذلك جاء بعد مطالب متكررة من الجانب التركي، وبعد وقت طويل من التهرّب والتملّص من الالتزام بنشر هذه البطاريات.
المساومة أم الابتزاز؟
لقد عززت هذه الأحداث من قناعة تركيا بضرورة تطوير نظام دفاع صاروخي مستقل إلى جانب النظام الجماعي في حلف شمال الأطلسي، على اعتبار أنّ الأحداث المتراكمة أظهرت أنّ الحلفاء لا يأخذون مصالح ومخاوف وهواجس تركيا بعين الاعتبار بالشكل المأمول حين يكون من المتوقع منهم أن يقوموا بذلك.
وفيما يعدّ مؤشرًا على نيّتها في المساومة واستخدام الصفقة للضغط على الشركات الأمريكية والأوروبية في تقليص حجم عروضهم وزيادة حجم التكنولوجيا المنقولة للجانب التركي إذا كانت لديهم فعلاً نية حقيقية في التعامل مع تركيا كحليف، أعطت أنقرة نفسها حوالي 6 أشهر للتوقيع على العقد وإنهاء الأمور المتعلقة به في إشارة إلى أنّ العقد غير نهائي بعد، ومن الممكن تغييره إذا تم أخذ مطالب أنقرة بعين الاعتبار.
في المقابل، وبدلاً من إعادة النظر في الموقف الأمريكي، وأخذ وجهة النظر التركيّة بعين الاعتبار ومحاولة الاستجابة لمتطلبات الجانب التركي في الصفقة، فإن بعض المصادر الأمريكية أشارت -في خطوة ابتزازيّة على ما يبدو- إلى إمكانيّة أن يقوم الناتو بما لديه من قدرات تقنيّة بعزل شبكة الدفاع الجوّي التركيّة بالكامل من خلال حرمان أنقرة من المعلومات اللازمة في أي عمليّة إدماج متوقعّة إذا أصرّت أنقرة على النظام الصاروخي الصيني، مما من شأنه أن يجعل نظام (FD-2000) عديم الفائدة، ويعطي واشنطن القدرة بالتالي على تخريب العقد.
مناورة وابتزاز
أثار اختيار أنقرة لشركة (CPMEIC) الصينيّة من أجل تطوير وإنتاج نظام دفاع صاروخي( أرض- جو) خاص بها أواخر شهر أيلول الماضي، صدمة لدى الأوساط الغربيّة السياسيّة والعسكريّة، ليس لكون تركيا أقرب الى أوروبا والغرب منه إلى الصين فقط، وليس لانّ مصالح تركيا السياسيّة والاقتصاديّة المستقبليّة مرتبطة بتطلعاتها غربًا وليس شرقًا، وإنّما لأنّ أنقرة عضو أيضًا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ومن المفترض أنّها في حلف مع هذه الدول وليس مع خصوم حلف شمال الأطلسي، وهذه هي النقطة الأهم في هذا السياق.
استعراض لسلاح الجو التركي
علنت اللجنة التنفيذية للصناعات الدفاعيّة التركيّة (SSIK) التي يترأسها رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان في 26/9/2012 بأنّ شركة ( (CPMIECالصينيّة فازت بالمناقصة إثر العرض الذي قدّمته والبالغ حوالي 3.44 مليار دولار لإنتاج نظام دفاع صاروخي (أرض – جو). وبهذا تكون أنقرة فضّلت منظومة (FD-2000) للدفاع الصاروخي (أرض – جو) -وهي نسخة معدّلة للتصدير عن منظومة (HQ-9) الصينية- على منظومات أخرى مثل منظومة (Patriot) الأمريكيّة، ومنظومة (S-300) الروسيّة، ومنظومة (Aster – 30) الأوروبيّة، والتي كانت مجموعة شركات عملاقة في الصناعات الدفاعيّة والعسكريّة قد تقدّمت بها من بينها شركة “رايثيون ولوكهيد مارتن” الأمريكية، وشركة “روزوبورون اكسبورن” الروسيّة، وشركة “يوروسام” الأوروبيّة.
وتنص الصفقة على إنتاج أربع منظومات للدفاع الصاروخيّ (FD-2000) – 288 صاروخ في 12 وحدة إطلاق- وعلى نقل التكنولوجيا والإنتاج المشترك، علمًا أنّ تركيا ستكون بحاجة إلى حوالي 15 إلى 20 منظومة من هذا النوع لتغطية كافة الأراضي التركيّة من المخاطر المحتملة، وهو أمر تأمل أنقرة أن تقوم بإنتاجه بنفسها بموارد محليّة بعد تسلّم الوحدات الأربع الأولى.
وتمتلك تركيا ثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي بعد الولايات المتّحدة الأمريكيّة، كما أنّ الجيش التركي يعتبر أكبر جيوش المنطقة على الإطلاق. وبالرغم من تقدّمه في مجال التسلّح التقليدي، فإنه يعاني من نقص في التكنولوجيا المتقدّمة مقارنة بشركائه في الناتو أو الولايات المتّحدة الأمريكيّة، كما يعاني من قصور شديد في منظومة الدفاع الصاروخي، وأهمّها افتقاده لنظام دفاع صاروخي (أرض- جو) مستقل.
وتحاول السلطات التركيّة ووزارة الدفاع تطوير القدرات القتالية للقوات المسلّحة من خلال تعزيز منظومة التكنولوجيا المتقدّمة حتى تصبح القوة العسكرية التركية على متسوى القوة الاقتصادية التي وصلت اليها البلاد وتكون قادرة على مواجهة التحديات السريعة التي قد تفرضها عليها التطورات الإقليميّة.
وتستثمر تركيا في التكنولوجيا العسكرية منذ مدة العام 1985 (قانون 32338)، حيث تفضّل أنقرة الاعتماد على صناعاتها المحليّة لتعزيز قدراتها الذاتيّة، ولكن عندما تكون المهمة أكبر من قدرة الشركات الدفاعيّة التركية على التحمّل أو القيام بها، فإنّها تفضّل حينها صيغة اتفاقات التطوير المشترك للمنتج مع شركاء، وإذا لم يكن ذلك ممكنًا فصيغة الإنتاج المشترك أو الترخيص بالإنتاج المشترك”.
ولم يخطُ الحليف الأمريكي خطوات جدّية في تحقيق اختراق في نقل تكنولوجيا للجانب التركي الذي يصر على هذا الأمر؛ لأنّه سيساعد على نقل البلاد والصناعات الدفاعية والعسكرية إلى مراتب متقدّمة، ولا تكتفي تركيا حينها بكونها دولة مستهلكة للتكنولوجيا العسكرية، وإنما مصنّعة أيضًا ومصدّرة مستقبلاً.
المصالح التركيّة مقابل المخاوف الغربيّة
على الرغم من أنّ الناتو اعتبر بدايّة أنّ قرار اختيار النظام الصاروخي هو قرار سيادي، إلا أنّه سرعان ما تحوّل إلى التعبير عن مخاوفه الشديدة، وهواجسه الكبيرة من قيام تركيا باعتماد العرض الصيني لتطوير وإنتاج نظام دفاع صاروخي تركي (أرض – جو) سيكون الأول من نوعه في تركيا على اعتبار أنّ أنقرة -وحتى هذه اللحظة- لا تمثل نظام دفاع صاروخي مستقل خاص بها، وتعتمد في المقابل على المنظومة الدفاعيّة الصاروخيّة الخاصّة بحلف شمال الأطلسي على اعتبار أنّها عضو في الحلف الذي يتيح ميثاقه كما آلياته الدفاع عن الدولة العضو عبر منظومة الحلف الخاصة إن تطلب الأمر ذلك.
وقد تمّ تعزيز هذه المخاوف بتصريحات أمريكيّة تشير إلى أنّه قد لا يمكن بأي حال من الأحوال إدماج هذه المنظومة الصينيّة بمنظومة حلف شمال الأطلسي وعمادها (الباتريوت) بسبب عدم التطابق بين النظامين الأمريكي والصيني. كما عبّرت أطراف عديدة في الحلف وفي واشنطن عن خيبة أملها وصدمتها إزاء اختيار أنقرة لعرض دولة ليست عضو في الحلف، ولا صديقة له، وكان الحلف يتوقع أن تختار أنقرة نظامًا متطابقًا مع منظومته على الأقل (أي أمريكيًّا أو أوروبيًّا).
وفقًا للجانب التركي، فإن رسو الصفقة على الشركة الصينية إنما جاء نتيجة لتطابقها بالكامل مع متطلبات الجانب التركي من ناحية دفتر الشروط والمعايير، لاسيما من ناحية:
• التكلفة الماليّة لمنظومة الدفاع الصاروخيّة (أرض – جو)، والمنخفضة نسبيًّا مقارنة مع العروض الأخرى التي فاقت كل واحدة منها مبلغ الأربعة مليارات دولار الذي وضعته تركيا كحد أعلى لسعر الصفقة.
• نوع التكنولوجيا المطلوبة في المشروع.
• نسبة انخراط العمالة المحليّة التركيّة في المشروع.
• نقل التكنولوجيا المستخدمة في المشروع لاسيما في المجال الصاروخي.
• ووجود تسهيلات في دفع التكاليف المالية.
لقد حاولت السلطات التركية تفنيد التعليقات الأمريكية وتعليقات حلف الناتو حول عدم مواءمة النظامين بالقول أنّ مشكلة عدم مواءمة منظومة باتريوت للمنظومة التي من المفترض أن تشكّل أوّل نظام دفاع صاروخي تركي (أرض- جو) طويل المدى، ستقوم شركة للصناعات الدفاعيّة التركيّة بحلّها عبر إدماج منظومة الدفاع الصاروخي الجديدة هذه بشبكة القوّات المسلّحة الجوّية التركيّة، كما أنّ المنتج النهائي سيكون منتجًا تركيّا وليس صينيًّا على الرغم من اعتماده على التكنولوجيا الصينيّة.
لكن سرعان ما تمّ القفز إلى مشكلة أخرى عبّر خلالها كل من الناتو والولايات المتّحدة عن المخاوف من أنّ إدماج هذه المنظومة التي تساهم الصين في إنتاجها بهيكليّة نظام الباتريوت قد يساهم في نقل معلومات حساسة، ويثير تحديات التجسس الإلكتروني وسرقة التكنولوجيا، كما أنّه قد يعطّل عملية التكامل بين الدول الأعضاء في الحلف مما يفقد الحلف معناه.
رسالة امتعاض تركيّة إلى الجانب الأمريكي
والحقيقة أنّ هذا القرار التركي، وأن نفى وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو أنّه يحمل طابعًا سياسيًّا، إلا أنّ له بالتأكيد جانب سياسي إلى جانب المعطيات العسكرية والماليّة بطبيعة الحال. كما أنّه يعدّ بمثابة صفعة للولايات المتّحدة، ومحاولة للقول بأنّ أنقرة مستاءة من نمط التعاطي الأمريكي حتى في القضايا الأمنيّة والعسكريّة، والتي من المفترض أن تكون في أفضل حالتها.
ويعود الاستياء التركي إلى مجموعة تراكمات سابقة أحدثت نوعًا من خيبة الأمل لدى صانع القرار، إذ اشتكى الأتراك العام الماضي على وجه التحديد من تقصير الولايات المتحدة الأميركية في دعم بلادهم التي من المفترض أنّها حليف استراتيجي، وعضو بارز في حلف شمال الأطلسي، خصوصًا على الصعيد العسكري والتكنولوجي.
إذ دأب الأتراك منذ عدّة سنوات على المطالبة الدائمة والمتكررة لنظرائهم الأميركيين بتزويدهم بطائرات استطلاع متطورة من دون طيار من طراز “برايداتورز”، بالإضافة إلى مروحيات مقاتلة من طراز “سوبر كوبرا” التي تُستخدم في العمليات الخاصة ومكافحة الإرهاب. كما ألحّوا على ضرورة أن يتم تزويدهم بالتكنولوجيا المرتبطة بأنظمة دفاعيّة متقدّمة لمواجهة مخاطر كتلك الموجودة مع سوريا الآن، أو مع إيران لاحقا، وقد باءت كل هذه المطالب بالفشل حتى هذه اللحظة.
حتى إنّ واشنطن كانت رفضت سابقًا في العام 2012 طلبًا تركيّا بتمديد عمل طائرات الاستطلاع من دون طيار التي تديرها واشنطن (أربع منها موجودة في قاعدة انجرليك) لتصبح فاعلة على مدار اليوم لمسح الشريط الحدودي التركي – العراقي على وجه الخصوص، وهو أمر لم يلق تجاوبًا أيضًا بحجّة أنّ التهديدات في أماكن أخرى تتطلب إشغالها هناك.
وفي حين عُزي هذا التردد الأميركي في منح تركيا تكنولوجيا متقدمة إلى تدهور العلاقات التركية – الإسرائيلية، يرى البعض أنّ هذا التردد يدفع تركيا مرغمة إلى محور روسيا – الصين مستقبلاً للتعويض، خصوصًا أنّ الدولتين وعلى عكس واشنطن لا تترددان في منح حلفائهما تكنولوجيا متقدمة مع سلّة أوسع من المصالح الاقتصادية والسياسية.
كما أنّ حلف شمال الأطلسي بدا مترددًا ومتلكئًا في الدفاع عن تركيا عندما تعرضّت أراضيها لاعتداءات متكررة من النظام السوري على الرغم من أنّ المادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي تنص على مسئوليّة الحلف في الدفاع عن أي دولة عضو تتعرض لاعتداء. صحيح أنّ الحلف قام بنشر بطاريات صواريخ باتريوت أخيرًا، لكن ذلك جاء بعد مطالب متكررة من الجانب التركي، وبعد وقت طويل من التهرّب والتملّص من الالتزام بنشر هذه البطاريات.
المساومة أم الابتزاز؟
لقد عززت هذه الأحداث من قناعة تركيا بضرورة تطوير نظام دفاع صاروخي مستقل إلى جانب النظام الجماعي في حلف شمال الأطلسي، على اعتبار أنّ الأحداث المتراكمة أظهرت أنّ الحلفاء لا يأخذون مصالح ومخاوف وهواجس تركيا بعين الاعتبار بالشكل المأمول حين يكون من المتوقع منهم أن يقوموا بذلك.
وفيما يعدّ مؤشرًا على نيّتها في المساومة واستخدام الصفقة للضغط على الشركات الأمريكية والأوروبية في تقليص حجم عروضهم وزيادة حجم التكنولوجيا المنقولة للجانب التركي إذا كانت لديهم فعلاً نية حقيقية في التعامل مع تركيا كحليف، أعطت أنقرة نفسها حوالي 6 أشهر للتوقيع على العقد وإنهاء الأمور المتعلقة به في إشارة إلى أنّ العقد غير نهائي بعد، ومن الممكن تغييره إذا تم أخذ مطالب أنقرة بعين الاعتبار.
في المقابل، وبدلاً من إعادة النظر في الموقف الأمريكي، وأخذ وجهة النظر التركيّة بعين الاعتبار ومحاولة الاستجابة لمتطلبات الجانب التركي في الصفقة، فإن بعض المصادر الأمريكية أشارت -في خطوة ابتزازيّة على ما يبدو- إلى إمكانيّة أن يقوم الناتو بما لديه من قدرات تقنيّة بعزل شبكة الدفاع الجوّي التركيّة بالكامل من خلال حرمان أنقرة من المعلومات اللازمة في أي عمليّة إدماج متوقعّة إذا أصرّت أنقرة على النظام الصاروخي الصيني، مما من شأنه أن يجعل نظام (FD-2000) عديم الفائدة، ويعطي واشنطن القدرة بالتالي على تخريب العقد.
تعليق