تدّعي إدارة أوباما أن أهم ما يحركها من دوافع يشمل مجموعة الثماني، والاعتماد المتبادل، وحقوق الإنسان، والقانون الدولي، لكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لاعب تاريخي تقليدي، وتشمل دوافعه في المقام الأول الجغرافيا السياسية؛ ولهذا السبب يتمتع بالموقف الأقوى، ولو مؤقتاً، في أزمة أوكرانيا والقرم.
ذكر روبرت شتراوس-هوب، دبلوماسي وأكاديمي أميركي في منتصف القرن العشرين، أن الجغرافيا السياسية "صراع على المساحة والقوة" يدور في إطار جغرافي. تُعتبر الجغرافيا السياسية قديمة قدم تحوّل بلاد فارس إلى أول قوة عظمى في العصور الغابرة، فقد سمح الالتزام بالجغرافيا السياسية للجغرافي البريطاني والمعلّم الليبرالي، السير هالفورد ماكندر، أن يتوقع بدقة في مقال نُشر له عام 1904 بعنوان "استدارة التاريخ الجغرافية" الخطوط الأساسية لتطورات القرن العشرين: فتحدث عن زوال تركيبة القوى الأوروبية في العهد الإدواردي لتحلّ محلّها تركيبة تشمل كل أوراسيا، مع ظهور صراع بين قوة البحر الغربية وقوة البر الروسية. علاوة على ذلك، شكّلت الجغرافيا السياسية جوهر النزعة الأميركية الاستعمارية في القرن التاسع عشر في منطقة الكاريبي، فبالهيمنة على البحار المجاورة، تحوّلت الولايات المتحدة بدورها إلى القوة المسيطرة على النصف الغربي من الكرة الأرضية، ما أتاح لها التأثير في ميزان القوى في النصف الشرقي (قصة القرن العشرين).
بالإضافة إلى ذلك، كانت الجغرافيا السياسية أساس الحرب العالمية الثانية مع اندفاع آلة الحرب الألمانية للسيطرة على نفط القوقاز وسعي آلة الحرب اليابانية للاستيلاء على النفط والمواد الخام في جنوب شرق آسيا، كذلك كانت الجغرافيا السياسية محور الحرب الباردة مع حراسة قواعد الولايات المتحدة وحلفائها أطراف جنوب أوراسيا، من اليونان وتركيا إلى كوريا الجنوبية واليابان، في وجه الاتحاد السوفياتي، وتُعتبر استراتيجية "الاحتواء" هذه، التي وضعها الدبلوماسي الشهير جورج كينان، جغرافية-سياسية في جزء كبير منها.
بالإضافة إلى ذلك، أوضح المؤرخ العسكري الراحل جون كيغان أن بريطانيا العظمى والولايات المتحدة استطاعتا دعم الحرية لسبب واحد: حماهما البحر "من أعداء الحرية المحاصرين براً". كذلك أشار ألكسندر هاميلتون إلى أن المؤسسة العسكرية البريطانية كانت ستبدو مستبدةً، تماماً مثل جيوش القارة الأوروبية، لو لم تكن بريطانيا جزيرة، فضلاً عن أن هذه الأخيرة كانت ستتحوّل "بالتأكيد" إلى ضحية "السلطة المطلقة لرجل واحد".
على نحو مماثل، سقط جدار برلين عام 1989، إلا أن روسيا تبقى اليوم دولة كبيرة ومجاورة لوسط أوروبا وشرقها، كذلك لا تزال روسيا مستبدة وغير ليبرالية لأنها ليست أمة-جزيرة (بخلاف الولايات المتحدة وبريطانيا)، بل قارة مترامية الأطراف مع عدد قليل من الخصائص الجغرافية التي تحميها من الغزو، وينبع اعتداء بوتين الأخير من عدم الأمان الجغرافي الأساسي هذا، مع أن ذلك لا ينبغي أن يجعله سياسيّاً رجعياً. لا شك أن الحاكم البعيد النظر يدرك أن المجتمع المدني وحده يستطيع أن ينقذ روسيا، لكن التركيبة الجغرافية الروسية تضع بوتين في إطار يمكننا تفهّمه.
صحيح أن التفاصيل الجيو-سياسية تكون غالباً بسيطة، أو عنيفة، أو واضحة، أو غير مثيرة للاهتمام أو ملهمة أو مهمة على الصعيد الفكري، غير أن عواقبها تظل حقيقة ملموسة، ولا تكمن المشكلة في إنكارها، بل في تجاوزها. أدرك جورج بوش الأب هذه الحقائق؛ لذلك تفادى المساس بالمسائل السوفياتية الحساسة، مع أن الإمبراطورية السوفياتية كانت تتداعى في أوروبا، وذلك خوفاً من تزويد موسكو بذريعة لتقضم المزيد من دول البلطيق المجاورة للكرملين، فرغم كل الحماسة التي رافقت تطورات عام 1989، أيقنت إدارة بوش الأب أن الجغرافيا لا تزال عاملاً مهماً، هذا إن لم نقل حاسماً.
يبدو موقف بوتين راهناً قوياً في أوكرانيا لأن أهمية هذه الأخيرة في نظره أكبر من أهميتها بالنسبة إلى الولايات المتحدة أو حتى أوروبا، وتعود أهميتها هذه في نظر بوتين إلى الواقع الجغرافي. تُعتبر أوروبا، نظراً إلى أسباب كثيرة نعرفها، محوراً أساسياً في تحديد مصير روسيا الأوروبية، تاريخ روسيا وهويتها، وخصوصية وصولها إلى المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط عبر البحر الأسود، فبما أن أسطول روسيا في البحر الأسود متمركز في شبه جزيرة القرم، يشعر بوتين بأنه عاجز عن الوقوف مكتوف اليدين وترك مصير أسطوله بين يدَي دولة أوكرانية ناشئة موالية للغرب.
بالإضافة إلى ذلك، تفرض الجغرافيا ارتباط أوكرانيا بحدود طويلة مع روسيا من دون أن تفصل بينهما معالم جغرافية بارزة؛ لذلك، مع أن بوتين يبدو بحاجة ماسة إلى أوكرانيا والقرم، مقارنةً بالغرب، يتمتع فيهما أيضاً بنفوذ يفوق ما يملكه الغرب. فتنعم روسيا باحتياطات من الغاز الطبيعي تتخطى بأشواط ما تتمتع به أوكرانيا، ونتيجة لذلك، لا تعتمد أوكرانيا على روسيا في تجارتها فحسب، بل في مجال الطاقة أيضاً.
نتيجة هذه الوقائع الجغرافية، تُعتبر دول البلطيق وبولندا ومولدوفا مهدَّدة: فهي مجاورة لروسيا وأوكرانيا، وتفتقر إلى أي رادع طبيعي يحميها. تضم دول البلطيق خصوصاً أقليات روسية فد تعود بالفائدة على بوتين، فبسبب طبيعة سهول أوروبا الشمالية المسطحة، تمكنت الشعوب من التدفق عبر الحدود على مر السنين (مع أن معظم الناطقين بالروسية في دول البلطيق انتقلوا إليها خلال العهد السوفياتي).
تُعتبر هذه أيضاً معلومات بدهية، إلا أنها تشكّل محاور أساسية تحدد نقاط قوة الغرب وروسيا وضعفهما في الأزمة الراهنة، فمن هذه الوقائع وحدها نحصل على صورة مفيدة عن هذه الأزمة الناشئة ونتوصل إلى طرق لتبديد تفوق بوتين الجغرافي. تبدو دول البلطيق وبولندا ومولدوفا مهددة اليوم بسبب موقعها في المقام الأول. ورغم انتفاضة أوكرانيا الموالية للغرب، فإننا لن تتمكن مطلقاً من تحقيق الاستقلال الكامل عن روسيا بسبب موقعها أيضاً، ولا تشكّل أوكرانيا والقرم إلا مقدمة لواقع نراه حول العالم.
في آسيا، تتمحور الأزمات في بحرَي الصين الجنوبي والشرقي حول الجغرافيا: خطوط على الخريطة في المياه الزرقاء والموضع الذي يجب أن تُرسَم فيه. تشكّل هذه مسألة جيو-سياسة تقليدية لم تتأثر مطلقاً بانتشار الأفكار الليبرالية الغربية. وفي الشرق الأوسط، تواجه إسرائيل عقبة المسافة في تخطيطها لأي ضربة عسكرية ضد إيران: واقع أساسي لا يمكن تجاهله في الصراع الإسرائيلي-الإيراني، أما تونس ومصر المضطربتان سياسياً، فتمثلان كتلتين حضاريتين قديمتين متماسكتين، أو بكلمات أخرى، نمواً جغرافياً طبيعياً. نتيجة لذلك، تبقيان دولتين قابلتين للحياة، بخلاف ليبيا وسورية والعراق، التي تبدو غير منطقية جغرافياً ضمن حدودها الحالية، ما أدى إلى انهيارها بدرجات مختلفة عقب تزعزع أنظمة حكمها الدكتاتورية أو سقوطها.
تُعتبر الجغرافيا أقل أهمية في القرن الحادي والعشرين، مقارنة بالحقبات التاريخية الماضية، لكن تقنيات التواصل لم تمحُ الجغرافيا، بل جعلتها تخرج من نطاقه المحدود. فباتت كل منطقة من الأرض تتفاعل مع غيرها من المناطق على نحو لم يسبق له مثيل. ولا شك أن نمو المدن عزز هذا الخروج، مما يُعتبر ظاهرة جغرافية إضافية، وبفضل التكنولوجيا، صارت الكرة الأرضية بالغة الصغر، ولكن على غرار ساعة يد صغيرة مع كل آلياتها، عليك أن تتجاهل أجزاءها ومعالمها الجغرافية كي تفهم طريقة عملها.
إذاً، من الضروري أن تنبع كل استراتيجية ترتبط بالعلاقات الدولية من المكان الذي نعيش فيه كلنا، وبما أن الجغرافيا السياسية تنبع من الجغرافيا، فلن تزول هذه الأخيرة مطلقاً أو تصبح غير ملائمة. أصاب شتراوس-هوب في رأيه، فإذا لم تأخذ القوى الليبرالية الجغرافيا السياسية في الاعتبار، فستخلي الساحة لأعدائها الذين يعلّقون عليها أهمية كبيرة. حتى الدول الليبرالية المتطورة، مثل الدول الأميركية والأوروبية، لا تشكّل استثناء في معركة البقاء هذه، ولا شك أن مسائل مثل مجموعة الثماني وحقوق الإنسان والقانون الدولي يجب أن تكون أكثر أهمية من الجغرافيا، إلا أن هذا لن يكون ممكناً إلا إذا أصبحت الجغرافيا السياسية جزءاً من استراتيجية الغرب.
ذكر روبرت شتراوس-هوب، دبلوماسي وأكاديمي أميركي في منتصف القرن العشرين، أن الجغرافيا السياسية "صراع على المساحة والقوة" يدور في إطار جغرافي. تُعتبر الجغرافيا السياسية قديمة قدم تحوّل بلاد فارس إلى أول قوة عظمى في العصور الغابرة، فقد سمح الالتزام بالجغرافيا السياسية للجغرافي البريطاني والمعلّم الليبرالي، السير هالفورد ماكندر، أن يتوقع بدقة في مقال نُشر له عام 1904 بعنوان "استدارة التاريخ الجغرافية" الخطوط الأساسية لتطورات القرن العشرين: فتحدث عن زوال تركيبة القوى الأوروبية في العهد الإدواردي لتحلّ محلّها تركيبة تشمل كل أوراسيا، مع ظهور صراع بين قوة البحر الغربية وقوة البر الروسية. علاوة على ذلك، شكّلت الجغرافيا السياسية جوهر النزعة الأميركية الاستعمارية في القرن التاسع عشر في منطقة الكاريبي، فبالهيمنة على البحار المجاورة، تحوّلت الولايات المتحدة بدورها إلى القوة المسيطرة على النصف الغربي من الكرة الأرضية، ما أتاح لها التأثير في ميزان القوى في النصف الشرقي (قصة القرن العشرين).
بالإضافة إلى ذلك، كانت الجغرافيا السياسية أساس الحرب العالمية الثانية مع اندفاع آلة الحرب الألمانية للسيطرة على نفط القوقاز وسعي آلة الحرب اليابانية للاستيلاء على النفط والمواد الخام في جنوب شرق آسيا، كذلك كانت الجغرافيا السياسية محور الحرب الباردة مع حراسة قواعد الولايات المتحدة وحلفائها أطراف جنوب أوراسيا، من اليونان وتركيا إلى كوريا الجنوبية واليابان، في وجه الاتحاد السوفياتي، وتُعتبر استراتيجية "الاحتواء" هذه، التي وضعها الدبلوماسي الشهير جورج كينان، جغرافية-سياسية في جزء كبير منها.
بالإضافة إلى ذلك، أوضح المؤرخ العسكري الراحل جون كيغان أن بريطانيا العظمى والولايات المتحدة استطاعتا دعم الحرية لسبب واحد: حماهما البحر "من أعداء الحرية المحاصرين براً". كذلك أشار ألكسندر هاميلتون إلى أن المؤسسة العسكرية البريطانية كانت ستبدو مستبدةً، تماماً مثل جيوش القارة الأوروبية، لو لم تكن بريطانيا جزيرة، فضلاً عن أن هذه الأخيرة كانت ستتحوّل "بالتأكيد" إلى ضحية "السلطة المطلقة لرجل واحد".
على نحو مماثل، سقط جدار برلين عام 1989، إلا أن روسيا تبقى اليوم دولة كبيرة ومجاورة لوسط أوروبا وشرقها، كذلك لا تزال روسيا مستبدة وغير ليبرالية لأنها ليست أمة-جزيرة (بخلاف الولايات المتحدة وبريطانيا)، بل قارة مترامية الأطراف مع عدد قليل من الخصائص الجغرافية التي تحميها من الغزو، وينبع اعتداء بوتين الأخير من عدم الأمان الجغرافي الأساسي هذا، مع أن ذلك لا ينبغي أن يجعله سياسيّاً رجعياً. لا شك أن الحاكم البعيد النظر يدرك أن المجتمع المدني وحده يستطيع أن ينقذ روسيا، لكن التركيبة الجغرافية الروسية تضع بوتين في إطار يمكننا تفهّمه.
صحيح أن التفاصيل الجيو-سياسية تكون غالباً بسيطة، أو عنيفة، أو واضحة، أو غير مثيرة للاهتمام أو ملهمة أو مهمة على الصعيد الفكري، غير أن عواقبها تظل حقيقة ملموسة، ولا تكمن المشكلة في إنكارها، بل في تجاوزها. أدرك جورج بوش الأب هذه الحقائق؛ لذلك تفادى المساس بالمسائل السوفياتية الحساسة، مع أن الإمبراطورية السوفياتية كانت تتداعى في أوروبا، وذلك خوفاً من تزويد موسكو بذريعة لتقضم المزيد من دول البلطيق المجاورة للكرملين، فرغم كل الحماسة التي رافقت تطورات عام 1989، أيقنت إدارة بوش الأب أن الجغرافيا لا تزال عاملاً مهماً، هذا إن لم نقل حاسماً.
يبدو موقف بوتين راهناً قوياً في أوكرانيا لأن أهمية هذه الأخيرة في نظره أكبر من أهميتها بالنسبة إلى الولايات المتحدة أو حتى أوروبا، وتعود أهميتها هذه في نظر بوتين إلى الواقع الجغرافي. تُعتبر أوروبا، نظراً إلى أسباب كثيرة نعرفها، محوراً أساسياً في تحديد مصير روسيا الأوروبية، تاريخ روسيا وهويتها، وخصوصية وصولها إلى المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط عبر البحر الأسود، فبما أن أسطول روسيا في البحر الأسود متمركز في شبه جزيرة القرم، يشعر بوتين بأنه عاجز عن الوقوف مكتوف اليدين وترك مصير أسطوله بين يدَي دولة أوكرانية ناشئة موالية للغرب.
بالإضافة إلى ذلك، تفرض الجغرافيا ارتباط أوكرانيا بحدود طويلة مع روسيا من دون أن تفصل بينهما معالم جغرافية بارزة؛ لذلك، مع أن بوتين يبدو بحاجة ماسة إلى أوكرانيا والقرم، مقارنةً بالغرب، يتمتع فيهما أيضاً بنفوذ يفوق ما يملكه الغرب. فتنعم روسيا باحتياطات من الغاز الطبيعي تتخطى بأشواط ما تتمتع به أوكرانيا، ونتيجة لذلك، لا تعتمد أوكرانيا على روسيا في تجارتها فحسب، بل في مجال الطاقة أيضاً.
نتيجة هذه الوقائع الجغرافية، تُعتبر دول البلطيق وبولندا ومولدوفا مهدَّدة: فهي مجاورة لروسيا وأوكرانيا، وتفتقر إلى أي رادع طبيعي يحميها. تضم دول البلطيق خصوصاً أقليات روسية فد تعود بالفائدة على بوتين، فبسبب طبيعة سهول أوروبا الشمالية المسطحة، تمكنت الشعوب من التدفق عبر الحدود على مر السنين (مع أن معظم الناطقين بالروسية في دول البلطيق انتقلوا إليها خلال العهد السوفياتي).
تُعتبر هذه أيضاً معلومات بدهية، إلا أنها تشكّل محاور أساسية تحدد نقاط قوة الغرب وروسيا وضعفهما في الأزمة الراهنة، فمن هذه الوقائع وحدها نحصل على صورة مفيدة عن هذه الأزمة الناشئة ونتوصل إلى طرق لتبديد تفوق بوتين الجغرافي. تبدو دول البلطيق وبولندا ومولدوفا مهددة اليوم بسبب موقعها في المقام الأول. ورغم انتفاضة أوكرانيا الموالية للغرب، فإننا لن تتمكن مطلقاً من تحقيق الاستقلال الكامل عن روسيا بسبب موقعها أيضاً، ولا تشكّل أوكرانيا والقرم إلا مقدمة لواقع نراه حول العالم.
في آسيا، تتمحور الأزمات في بحرَي الصين الجنوبي والشرقي حول الجغرافيا: خطوط على الخريطة في المياه الزرقاء والموضع الذي يجب أن تُرسَم فيه. تشكّل هذه مسألة جيو-سياسة تقليدية لم تتأثر مطلقاً بانتشار الأفكار الليبرالية الغربية. وفي الشرق الأوسط، تواجه إسرائيل عقبة المسافة في تخطيطها لأي ضربة عسكرية ضد إيران: واقع أساسي لا يمكن تجاهله في الصراع الإسرائيلي-الإيراني، أما تونس ومصر المضطربتان سياسياً، فتمثلان كتلتين حضاريتين قديمتين متماسكتين، أو بكلمات أخرى، نمواً جغرافياً طبيعياً. نتيجة لذلك، تبقيان دولتين قابلتين للحياة، بخلاف ليبيا وسورية والعراق، التي تبدو غير منطقية جغرافياً ضمن حدودها الحالية، ما أدى إلى انهيارها بدرجات مختلفة عقب تزعزع أنظمة حكمها الدكتاتورية أو سقوطها.
تُعتبر الجغرافيا أقل أهمية في القرن الحادي والعشرين، مقارنة بالحقبات التاريخية الماضية، لكن تقنيات التواصل لم تمحُ الجغرافيا، بل جعلتها تخرج من نطاقه المحدود. فباتت كل منطقة من الأرض تتفاعل مع غيرها من المناطق على نحو لم يسبق له مثيل. ولا شك أن نمو المدن عزز هذا الخروج، مما يُعتبر ظاهرة جغرافية إضافية، وبفضل التكنولوجيا، صارت الكرة الأرضية بالغة الصغر، ولكن على غرار ساعة يد صغيرة مع كل آلياتها، عليك أن تتجاهل أجزاءها ومعالمها الجغرافية كي تفهم طريقة عملها.
إذاً، من الضروري أن تنبع كل استراتيجية ترتبط بالعلاقات الدولية من المكان الذي نعيش فيه كلنا، وبما أن الجغرافيا السياسية تنبع من الجغرافيا، فلن تزول هذه الأخيرة مطلقاً أو تصبح غير ملائمة. أصاب شتراوس-هوب في رأيه، فإذا لم تأخذ القوى الليبرالية الجغرافيا السياسية في الاعتبار، فستخلي الساحة لأعدائها الذين يعلّقون عليها أهمية كبيرة. حتى الدول الليبرالية المتطورة، مثل الدول الأميركية والأوروبية، لا تشكّل استثناء في معركة البقاء هذه، ولا شك أن مسائل مثل مجموعة الثماني وحقوق الإنسان والقانون الدولي يجب أن تكون أكثر أهمية من الجغرافيا، إلا أن هذا لن يكون ممكناً إلا إذا أصبحت الجغرافيا السياسية جزءاً من استراتيجية الغرب.
تعليق