بسم الله الرحمن الرحيم
ونحن حبسنا في نهاوند خيلنا *** لـشـرِّ لـيـال أنتجت لـلأعــاجم
ملأنا شعاباً في نهاوند منهـم *** رجالاً وخـيـلاً أضـرمـت بالضرائم
راكضهن الفيرزان على الـصفا *** فلم يُنجه منها انفساح المخارم
في التاريخ الإسلامي توجد معارك فاصلة كانت كل واحدة منهن ممهدةً لطريق فتح رقعة كبيرة من البلدان فكان منها القادسية التي مهدت لفتح كل عراق العرب وكان منها معركة نهر اليرموك التي مهدت لفتح كل بلاد الشام وكان أيضاً من هذه المعارك الخالدات معركة نهاوند العظيمة التي مهدت الطريق لفتح عراق العجم "بلاد فارس" كلها والتي أصابت الامراطورية الساسانية العريقة في مقتل شديد حتى ان نتيجتها المروعة جعلت ملكهم يفر من امام جيوش المسلمين التي ظلت تفتح كل المدن التي في طريقها وهي تطارده حتى وصل لأقصى حدود بلاده الشرقية فأرسل لملك الصين وملك التُرك يطلب منهما الغوث والمدد. فكيف كانت تلك المعركة العظيمة، وكيف كانت استجابة ملكي الصين والتُرك لنداء الاستغاثة من كسرى الفرس؟ وكيف كانت نهاية آخر أكاسرة المجوس "يزدجرد" والذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: ( لا كسرى بعد كسرى ) ؟
ونحن حبسنا في نهاوند خيلنا *** لـشـرِّ لـيـال أنتجت لـلأعــاجم
ملأنا شعاباً في نهاوند منهـم *** رجالاً وخـيـلاً أضـرمـت بالضرائم
راكضهن الفيرزان على الـصفا *** فلم يُنجه منها انفساح المخارم
في التاريخ الإسلامي توجد معارك فاصلة كانت كل واحدة منهن ممهدةً لطريق فتح رقعة كبيرة من البلدان فكان منها القادسية التي مهدت لفتح كل عراق العرب وكان منها معركة نهر اليرموك التي مهدت لفتح كل بلاد الشام وكان أيضاً من هذه المعارك الخالدات معركة نهاوند العظيمة التي مهدت الطريق لفتح عراق العجم "بلاد فارس" كلها والتي أصابت الامراطورية الساسانية العريقة في مقتل شديد حتى ان نتيجتها المروعة جعلت ملكهم يفر من امام جيوش المسلمين التي ظلت تفتح كل المدن التي في طريقها وهي تطارده حتى وصل لأقصى حدود بلاده الشرقية فأرسل لملك الصين وملك التُرك يطلب منهما الغوث والمدد. فكيف كانت تلك المعركة العظيمة، وكيف كانت استجابة ملكي الصين والتُرك لنداء الاستغاثة من كسرى الفرس؟ وكيف كانت نهاية آخر أكاسرة المجوس "يزدجرد" والذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: ( لا كسرى بعد كسرى ) ؟
محتويات الموضوع:
1- مقدمات
2- الهرمزان يشير وعمر يستشير
3- اختيار القائد
4- السير في جبال نهاوند والإستكشاف
5- إلتقاء الجيشين وتكبير يزلزل الجبال
6- تفاوض
7- حصار نهاوند
8- القعقاع يتحرش بجيش الفرس
9- النعمان تلميذ سعد
10- القائد يدعو والجنود يبكون
11- هجوم عنيف ورحيل القائد الحليم إلى الرفيق الأعلى
12- الغنائم والخبر الحزين في المدينة
13- كسرى يفر من امام جيوش المسلمين التي تطارده
14- هوان
15- نهاية الطريق
16- جواب ملك الصين
17- مصرع آخر كسرى "يزدجرد"
18- الرثاء الوحيد
19- الخاتمة
1- مقدمات
2- الهرمزان يشير وعمر يستشير
3- اختيار القائد
4- السير في جبال نهاوند والإستكشاف
5- إلتقاء الجيشين وتكبير يزلزل الجبال
6- تفاوض
7- حصار نهاوند
8- القعقاع يتحرش بجيش الفرس
9- النعمان تلميذ سعد
10- القائد يدعو والجنود يبكون
11- هجوم عنيف ورحيل القائد الحليم إلى الرفيق الأعلى
12- الغنائم والخبر الحزين في المدينة
13- كسرى يفر من امام جيوش المسلمين التي تطارده
14- هوان
15- نهاية الطريق
16- جواب ملك الصين
17- مصرع آخر كسرى "يزدجرد"
18- الرثاء الوحيد
19- الخاتمة
1-مقدمات
بحلول العام الثامن عشر من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم كان الوضع العسكري للإمبراطورية الساسانية في حالة يُرثى لها، فقد مزق المسلمون كل الجيوش التي كان كسرى الفرس يزدجرد يرسلها لقتالهم، فسقطت عاصمتهم وحاضرة ملكهم المدائن، ثم هُزم الجيش الفارسي في جلولاء وإنتزع المسلمون الجزيرة من بين أنياب الفرس فلم يبق في أيديهم غير بلاد فارس، في خضم هذه الظروف العصيبة والمعنويات المنحطة في الحضيض حاول كسرى أن يحشد ما يستطيع من جيوش لكي يقاتل المسلمين بهم من جديد وكله أمل بأن النتيجة ستتغير ما دامت المعركة على أرض الفرس الأصلية، فأرسل يزدجرد رسلاً إلى كل الانحاء التي بقيت تحت سلطانه من بلاد فارس يستحثهم ويستنهضهم لقتال المسلمين واستعادة ما فقدوه، فاستجابت له أعداد غفيرة عظيمة من الفرس لا يكاد يحصيها احد إلا الله، عن السائب بن الأقرع قال : ( زحف للمسلمين زحف لم يُرَ مثله قط ). اجتمعت هذه الجيوش الجرارة في مدينة حصينة يقال لها نهاوند تقع على ربوة شاهقة ترتفع 6000 متر فوق سطح البحر، وجاؤوا إليها من كل مكان. بلغت أخبار هذه الحشود الكبيرة والي المسلمين في حلوان وهي مدينة قريبة من نهاوند فأسرع بإرسال رسالة إلى بقية ولاة وقادة جيوش المسلمين في العراق والذين بدورهم أرسلوا برسائل عاجلة إلى خليفة المسلمين والقائد العسكري الأعلى لهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستحثونه على إصدار الأمر بمبادرة من تجمع من الفرس في نهاوند بالقتال قبل ان يخرجوا إلى المسلمين.
2- الهرمزان يشير وعمر يستشير
كان احد قادة الفرس وهو الهرمزان أسيراً لدى المسلمين في المدينة، وكان عمر لما أعطاه الأمان قد قال له: ( لا بأس، انصح لي ) .
قال الهرمزان: ( نعم، إن فارس اليوم رأس وجناحان ).
قال: ( وأين الرأس؟ ).
قال: ( بنهاوند . . . ).
قال: ( وأين الجناحان؟ ).
قال: ( آذربيجان. إقطع الجناحان يهن الرأس ).
قال عمر: ( كذبت يا عدو الله، بل أعمد إلى الرأس فأقطعه، فإذا قطعه الله لم يعص عليه الجناحان ).
ثم أمر عمر المنادي بأن ينادي: "الصلاة جامعة". فاجتمع لديه الصحابة والتابعون في مسجد رسول الله وتدارسوا الأمر فاختلفت الآراء وتعددت فكان منهم من يرى بأن يستنفر عمر أهل اليمن والشام والعراق ثم يسير بهم جميعاً نحو الفرس في جبال نهاوند، ثم قام علي بن أبي طالب رضي الله وأشار على عمر رضي الله عنه ان لا يستنفرأهل اليمن والشام من ديارهم خشية هجوم الأحباش والروم على ذراريهم من خلفهم، وأشار رضي الله عنه ان يبقى امير المؤمنين في المدينة قائلاً: ( إن الأعاجم إن ينظروا إليك غدا قالوا هذ أمير العرب وأصل العرب، فكان ذالك أشد لكَلَبِهم وألبَتهم على نفسك ) وأشار عليهم بأن يقسم أهل العراق إلى ثلاثة أثلاث، ثلث يحمي ذراري المسلمين وثلثان يقاتلان الفرس وذكره بأن المسلمين لم يهزموا عدواً قط بكثرة عدد ولا عتاد فاستحسن المسلمون رأيه ووافقوه عليه.
4- اختيار القائد
ثم قام عمر رضي الله عنه وطلب المشورة مرة أخرى لكن هذه المرة في تولية قائد الجيش فأوكل الحاضرون الامر إليه وقالوا: انت أعلم الناس بالرجال.
فقال عمر: ( أما والله لأولين أمرهم رجلاً ليكونن أول الأسنة إذا لقيها غدا ).
قالوا: ( من يا أمير المؤمنين؟ ).
قال: ( النعمان بن مقرن المزني ).
قالوا: ( هو لها ).
كان النعمان بن مقرن رضي الله عنه أميراً على كُسكر في العراق، وكان لا يحب الإمارة بل كان يحب ان يكون في صفوف جيش من جيوش المسلمين يقاتل أعداء الله فكان كثيراً ما يرسل رسائلاً لعمر يرجوه فيها ان يعزله عن الإمارة ويرسله في جيش من جيوش المسلمين، فأتاه رسول عمر رضي الله عنه يُخبره بإختياره لقيادة جيش المسلمين المتوجه نحو نهاوند ويوصيه بمعاجلة الفرس هناك قبل ان تكتمل حشودهم فأسرع النعمان رضي الله عنه في حشد كل طاقات المسلمين في العراق وأمر ثلثهم بالبقاء لحماية مؤخرة الجيش المسلم وحماية ذراريهم، وسار بمن بقي نحو جبال نهاوند.
4- السير في جبال نهاوند والإستكشاف
وصلت جيوش المسلمين سريعاً إلى أطراف جبال نهاوند العالية، فتوقف الجيش وقام النعمان رضي الله عنه بإرسال ثلاثة من أشجع فرسان المسلمين للإستكشاف وهم طليحة بن خويلد، وعمرو بن أبي سلمى العنزي، وعمرو بن معد كرب الزبيدي وكانوا كلهم ذوي بأس شديد في الحرب وطلب منهم الا يتوغلوا كثيرا، سار هاؤلاء الفرسان الثلاثة بسرعة امام الجيش المسلم يستكشفون الطريق له يوما وليلة ثم رجع عمرو بن معد وعمرو بن أبي سلمى وأخبرا النعمان انهما لم يريا احداً من الفرس في طريقهما، إلا طلحة بن خويلد فلم يحفل ويآبه بهما فأكمل طريقه وحده مسافة 130 كيلومتر حتى انقطعت أخباره عن المسلمين وظنوا به الظنون، فقال قائل: انه ارتد مرة اخرى ولحق بالمجوس. سار طليحة حتى وصل إلى نهاوند واطلع على الفرس فيها ثم عاد إلى جيش المسلمين فلما رأوه كبروا.
فقال: ( ما شأن الناس؟؟ ).
فأخبروه بالذي خافوا عليه، فأنكر عليهم ظنونهم ثم دخل على النعمان فأخبره الخبر وأنه ليس بينه وبين نهاوند على قمم الجبال شيء يكرهه وأنه لا يوجد احد من المجوس على طول الطريق.
5- إلتقاء الجيشين وتكبير يزلزل الجبال
لما أتت هذه الأخبار النعمان أمر بالجيش فتجهز للتحرك ثم سار على تعبئة فلم يكن يضمن ان يكون هنالك كمين فارسي على اجناب الطريق فقد استكشف الفرسان الثلاثة اوسطه ولم يستكشفوا طرفاه. سار جيش المسلمين في تعبئته الكاملة وكانوا 30.000 مجاهد حتى وصل إلى أطراف مدينة نهاوند الحصينة التي كان الفرس قد حفروا خندقا امام اسوارها وتحصن خلفه 150.000 مقاتل مجوسي. لما رأى النعمان جيوش المجوس على أسوار المدينة كبر وكبر معه المسلمون فتزلزل لتكبيرهم الفرس . إن من شهد منهم القادسية لم ينسوا تكبيرات سعد وتكبيرات المسلمين معه وسيوفهم تقطف رؤوس إخوانهم ومن كانوا في المدائن لم ينسوا تكبيرات المسلمين التي تزلزلت لها اسوارها. ثم أمر النعمان فُنصبت معسكرات الجيش المسلم قبالة اسوار المدينة.
6- تفاوض
ثم قال بندار: ( إنكم معشر العرب أبعد الناس من كل خير وأطول الناس جوعا وأشقى الناس شقاءاً وأشد الناس جوعاً وأقـذر الناس قــذارة وأبعدهم دارا. وما منعني أن آمر هاؤلاء الأساورة ان ينتظمونكم بالنشاب إلا تنجساً لجيفكم فإنكم أرجاس. فإن تذهبوا نخل عنكم وإن تأبوا نُركم مصارعكم ).
وأجاب المغيرة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ( والله ما أخطأت شيئاً من صفتنا ولا نعتنا. إنا كنا لأبعد الناس داراً وأشد الناس جوعا وأشقى الناس شقاءاً وأبعد الناس من كل خير حتى بعث الله عز وجل إلينا رسوله صلى الله عليه وسلم، فوعدنا النصر في الدنيا والجنة في الآخرة. فوالله ما زلنا نتعرف من ربنا منذ جائنا رسوله الفتح والنصر حتى أتيناكم. وإنا والله لا نرجع إلى ذالك الشقاء أبداً حتى نغلبكم على ما في أيديكم أو نموت دونه ).
قال بندار: ( أما والله إن الأعور لقد صدقكم الذي في نفسه ).
وبذالك انتهت هذه المفاوضات القصيرة، والتي كان قصرها نتيجة لمعرفة الفرس ان المسلمين لن يرجعوا دون واحد من ثلاث إما الإسلام او الجزية عن يد والمجوس صاغرون او الحرب، وكذالك لعلم المسلمين ان الفرس لن يتخلوا عن هذه المدينة الحصينة التي تُعد مفتاح عبور المسلمين نحو بلاد فارس.
7- حصار نهاوند
يقول الشيخ احمد عادل كمال: ( يتحدث المؤرخون عن حصار نهاوند، ولكننا لا نعتقد انه كان حصاراً بالمعنى المرادف لمفهوم التطويق. لقد كانت نهاوند موقعاً مرتفعاً مشرفاً سبيله متصل من خلف بهمذان إلى الشمال منه، ولا نرى انه كان يمكن حصاره بجيش يأتي من جانب واحد فقط. ولعل من تحدث عن حصار نهاوند كان يقصد المرابطة أمامها ).
قالوا: ( بينما نحن محاصروا أهل نهاوند خرجوا علينا ذات يوم فقاتلونا فلم نلبثهم أن هزمهم الله. فتبع سماك بن عبيد العبسي رجلاً منهم معه نفر ثمانية على أفراس لهم فبارزهم فلم يبرز له أحد إلا قتله وأسر قائدهم، فلما اتو به إلى النعمان اتضح انه امير لإحدى البلدات القريبة من نهاوند فطلب الامان لمدينته على ان يدفعوا الجزية فأجابه لذالك النعمان وكتب له كتاب امان ).
بحلول العام الثامن عشر من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم كان الوضع العسكري للإمبراطورية الساسانية في حالة يُرثى لها، فقد مزق المسلمون كل الجيوش التي كان كسرى الفرس يزدجرد يرسلها لقتالهم، فسقطت عاصمتهم وحاضرة ملكهم المدائن، ثم هُزم الجيش الفارسي في جلولاء وإنتزع المسلمون الجزيرة من بين أنياب الفرس فلم يبق في أيديهم غير بلاد فارس، في خضم هذه الظروف العصيبة والمعنويات المنحطة في الحضيض حاول كسرى أن يحشد ما يستطيع من جيوش لكي يقاتل المسلمين بهم من جديد وكله أمل بأن النتيجة ستتغير ما دامت المعركة على أرض الفرس الأصلية، فأرسل يزدجرد رسلاً إلى كل الانحاء التي بقيت تحت سلطانه من بلاد فارس يستحثهم ويستنهضهم لقتال المسلمين واستعادة ما فقدوه، فاستجابت له أعداد غفيرة عظيمة من الفرس لا يكاد يحصيها احد إلا الله، عن السائب بن الأقرع قال : ( زحف للمسلمين زحف لم يُرَ مثله قط ). اجتمعت هذه الجيوش الجرارة في مدينة حصينة يقال لها نهاوند تقع على ربوة شاهقة ترتفع 6000 متر فوق سطح البحر، وجاؤوا إليها من كل مكان. بلغت أخبار هذه الحشود الكبيرة والي المسلمين في حلوان وهي مدينة قريبة من نهاوند فأسرع بإرسال رسالة إلى بقية ولاة وقادة جيوش المسلمين في العراق والذين بدورهم أرسلوا برسائل عاجلة إلى خليفة المسلمين والقائد العسكري الأعلى لهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستحثونه على إصدار الأمر بمبادرة من تجمع من الفرس في نهاوند بالقتال قبل ان يخرجوا إلى المسلمين.
2- الهرمزان يشير وعمر يستشير
كان احد قادة الفرس وهو الهرمزان أسيراً لدى المسلمين في المدينة، وكان عمر لما أعطاه الأمان قد قال له: ( لا بأس، انصح لي ) .
قال الهرمزان: ( نعم، إن فارس اليوم رأس وجناحان ).
قال: ( وأين الرأس؟ ).
قال: ( بنهاوند . . . ).
قال: ( وأين الجناحان؟ ).
قال: ( آذربيجان. إقطع الجناحان يهن الرأس ).
قال عمر: ( كذبت يا عدو الله، بل أعمد إلى الرأس فأقطعه، فإذا قطعه الله لم يعص عليه الجناحان ).
ثم أمر عمر المنادي بأن ينادي: "الصلاة جامعة". فاجتمع لديه الصحابة والتابعون في مسجد رسول الله وتدارسوا الأمر فاختلفت الآراء وتعددت فكان منهم من يرى بأن يستنفر عمر أهل اليمن والشام والعراق ثم يسير بهم جميعاً نحو الفرس في جبال نهاوند، ثم قام علي بن أبي طالب رضي الله وأشار على عمر رضي الله عنه ان لا يستنفرأهل اليمن والشام من ديارهم خشية هجوم الأحباش والروم على ذراريهم من خلفهم، وأشار رضي الله عنه ان يبقى امير المؤمنين في المدينة قائلاً: ( إن الأعاجم إن ينظروا إليك غدا قالوا هذ أمير العرب وأصل العرب، فكان ذالك أشد لكَلَبِهم وألبَتهم على نفسك ) وأشار عليهم بأن يقسم أهل العراق إلى ثلاثة أثلاث، ثلث يحمي ذراري المسلمين وثلثان يقاتلان الفرس وذكره بأن المسلمين لم يهزموا عدواً قط بكثرة عدد ولا عتاد فاستحسن المسلمون رأيه ووافقوه عليه.
4- اختيار القائد
ثم قام عمر رضي الله عنه وطلب المشورة مرة أخرى لكن هذه المرة في تولية قائد الجيش فأوكل الحاضرون الامر إليه وقالوا: انت أعلم الناس بالرجال.
فقال عمر: ( أما والله لأولين أمرهم رجلاً ليكونن أول الأسنة إذا لقيها غدا ).
قالوا: ( من يا أمير المؤمنين؟ ).
قال: ( النعمان بن مقرن المزني ).
قالوا: ( هو لها ).
كان النعمان بن مقرن رضي الله عنه أميراً على كُسكر في العراق، وكان لا يحب الإمارة بل كان يحب ان يكون في صفوف جيش من جيوش المسلمين يقاتل أعداء الله فكان كثيراً ما يرسل رسائلاً لعمر يرجوه فيها ان يعزله عن الإمارة ويرسله في جيش من جيوش المسلمين، فأتاه رسول عمر رضي الله عنه يُخبره بإختياره لقيادة جيش المسلمين المتوجه نحو نهاوند ويوصيه بمعاجلة الفرس هناك قبل ان تكتمل حشودهم فأسرع النعمان رضي الله عنه في حشد كل طاقات المسلمين في العراق وأمر ثلثهم بالبقاء لحماية مؤخرة الجيش المسلم وحماية ذراريهم، وسار بمن بقي نحو جبال نهاوند.
4- السير في جبال نهاوند والإستكشاف
وصلت جيوش المسلمين سريعاً إلى أطراف جبال نهاوند العالية، فتوقف الجيش وقام النعمان رضي الله عنه بإرسال ثلاثة من أشجع فرسان المسلمين للإستكشاف وهم طليحة بن خويلد، وعمرو بن أبي سلمى العنزي، وعمرو بن معد كرب الزبيدي وكانوا كلهم ذوي بأس شديد في الحرب وطلب منهم الا يتوغلوا كثيرا، سار هاؤلاء الفرسان الثلاثة بسرعة امام الجيش المسلم يستكشفون الطريق له يوما وليلة ثم رجع عمرو بن معد وعمرو بن أبي سلمى وأخبرا النعمان انهما لم يريا احداً من الفرس في طريقهما، إلا طلحة بن خويلد فلم يحفل ويآبه بهما فأكمل طريقه وحده مسافة 130 كيلومتر حتى انقطعت أخباره عن المسلمين وظنوا به الظنون، فقال قائل: انه ارتد مرة اخرى ولحق بالمجوس. سار طليحة حتى وصل إلى نهاوند واطلع على الفرس فيها ثم عاد إلى جيش المسلمين فلما رأوه كبروا.
فقال: ( ما شأن الناس؟؟ ).
فأخبروه بالذي خافوا عليه، فأنكر عليهم ظنونهم ثم دخل على النعمان فأخبره الخبر وأنه ليس بينه وبين نهاوند على قمم الجبال شيء يكرهه وأنه لا يوجد احد من المجوس على طول الطريق.
5- إلتقاء الجيشين وتكبير يزلزل الجبال
لما أتت هذه الأخبار النعمان أمر بالجيش فتجهز للتحرك ثم سار على تعبئة فلم يكن يضمن ان يكون هنالك كمين فارسي على اجناب الطريق فقد استكشف الفرسان الثلاثة اوسطه ولم يستكشفوا طرفاه. سار جيش المسلمين في تعبئته الكاملة وكانوا 30.000 مجاهد حتى وصل إلى أطراف مدينة نهاوند الحصينة التي كان الفرس قد حفروا خندقا امام اسوارها وتحصن خلفه 150.000 مقاتل مجوسي. لما رأى النعمان جيوش المجوس على أسوار المدينة كبر وكبر معه المسلمون فتزلزل لتكبيرهم الفرس . إن من شهد منهم القادسية لم ينسوا تكبيرات سعد وتكبيرات المسلمين معه وسيوفهم تقطف رؤوس إخوانهم ومن كانوا في المدائن لم ينسوا تكبيرات المسلمين التي تزلزلت لها اسوارها. ثم أمر النعمان فُنصبت معسكرات الجيش المسلم قبالة اسوار المدينة.
6- تفاوض
أرسل قائد الفرس في نهاوند بندار إلى المسلمين أن أرسلوا إلينا رجلاً نفاوضه، فأرسل إليهم النعمان رضي الله عنه المغيرة بن شعبة.
إستشار بندار أصحابه فقال: ( بأي شيء نأذن لهذا العربي؟، بشارتنا وبهجتنا وملكنا؟ أو نتقشف له فيما قبلنا حتى يزهد؟ ).
قالوا: ( لا، بل بأفضل ما يكون من الشارة والعدة ).
فتهيئوا بها، فلما أتاهم المغيرة كادت الحراب والنيازك تخطف البصر من لمعانها، وكان بندار على سرير من ذهب وقد وضع تاجاً على رأسه ومن حوله أصحابه، فمشى المغيرة إليه ودخل عليه ثم جلس فدفعوه ونهروه.
فقال لهم: ( إن الرسل لا يفعل بهم هكذا ).
قالوا: ( إنما انت كلب ).
قال: ( معاذ الله، لأنا أشرف في قومي من هذا في قومه ).
فانتهروه مرة أخرى وقالوا له: ( إجلس ).
إستشار بندار أصحابه فقال: ( بأي شيء نأذن لهذا العربي؟، بشارتنا وبهجتنا وملكنا؟ أو نتقشف له فيما قبلنا حتى يزهد؟ ).
قالوا: ( لا، بل بأفضل ما يكون من الشارة والعدة ).
فتهيئوا بها، فلما أتاهم المغيرة كادت الحراب والنيازك تخطف البصر من لمعانها، وكان بندار على سرير من ذهب وقد وضع تاجاً على رأسه ومن حوله أصحابه، فمشى المغيرة إليه ودخل عليه ثم جلس فدفعوه ونهروه.
فقال لهم: ( إن الرسل لا يفعل بهم هكذا ).
قالوا: ( إنما انت كلب ).
قال: ( معاذ الله، لأنا أشرف في قومي من هذا في قومه ).
فانتهروه مرة أخرى وقالوا له: ( إجلس ).
ثم قال بندار: ( إنكم معشر العرب أبعد الناس من كل خير وأطول الناس جوعا وأشقى الناس شقاءاً وأشد الناس جوعاً وأقـذر الناس قــذارة وأبعدهم دارا. وما منعني أن آمر هاؤلاء الأساورة ان ينتظمونكم بالنشاب إلا تنجساً لجيفكم فإنكم أرجاس. فإن تذهبوا نخل عنكم وإن تأبوا نُركم مصارعكم ).
وأجاب المغيرة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ( والله ما أخطأت شيئاً من صفتنا ولا نعتنا. إنا كنا لأبعد الناس داراً وأشد الناس جوعا وأشقى الناس شقاءاً وأبعد الناس من كل خير حتى بعث الله عز وجل إلينا رسوله صلى الله عليه وسلم، فوعدنا النصر في الدنيا والجنة في الآخرة. فوالله ما زلنا نتعرف من ربنا منذ جائنا رسوله الفتح والنصر حتى أتيناكم. وإنا والله لا نرجع إلى ذالك الشقاء أبداً حتى نغلبكم على ما في أيديكم أو نموت دونه ).
قال بندار: ( أما والله إن الأعور لقد صدقكم الذي في نفسه ).
وبذالك انتهت هذه المفاوضات القصيرة، والتي كان قصرها نتيجة لمعرفة الفرس ان المسلمين لن يرجعوا دون واحد من ثلاث إما الإسلام او الجزية عن يد والمجوس صاغرون او الحرب، وكذالك لعلم المسلمين ان الفرس لن يتخلوا عن هذه المدينة الحصينة التي تُعد مفتاح عبور المسلمين نحو بلاد فارس.
7- حصار نهاوند
يقول الشيخ احمد عادل كمال: ( يتحدث المؤرخون عن حصار نهاوند، ولكننا لا نعتقد انه كان حصاراً بالمعنى المرادف لمفهوم التطويق. لقد كانت نهاوند موقعاً مرتفعاً مشرفاً سبيله متصل من خلف بهمذان إلى الشمال منه، ولا نرى انه كان يمكن حصاره بجيش يأتي من جانب واحد فقط. ولعل من تحدث عن حصار نهاوند كان يقصد المرابطة أمامها ).
قالوا: ( بينما نحن محاصروا أهل نهاوند خرجوا علينا ذات يوم فقاتلونا فلم نلبثهم أن هزمهم الله. فتبع سماك بن عبيد العبسي رجلاً منهم معه نفر ثمانية على أفراس لهم فبارزهم فلم يبرز له أحد إلا قتله وأسر قائدهم، فلما اتو به إلى النعمان اتضح انه امير لإحدى البلدات القريبة من نهاوند فطلب الامان لمدينته على ان يدفعوا الجزية فأجابه لذالك النعمان وكتب له كتاب امان ).
8- مؤتمر حربي والقعقاع يتحرش
مرت أيام والجبهة على ذات الحال، يخرج الفرس من خلف خنادقهم ليهجموا على المسلمين ثم لا يلبثون ان يرتدوا على ادبارهم مهزومين إلى تلك الخنادق. في خضم تلك الظروف المتجمدة عقد النعمان رضي الله عنه مؤتمراً حربياً جمع فيه كافة قادة جيشه وكل من كان له رأي ومشورة واستشارهم فيما يجب العمل به. فأشار عليه عمرو بن معد كرب بشن هجوم عام على الفرس في الخنادق ومن ثم الهجوم على الأسوار من خلفها وكان إقتراحاً لاقى رفض الأغلبية الذين قالوا: ( إنما تناطح بنا الجدران، والجدران لهم أعواناً علينا ). وأشار عمرو بن ثبي بأن يستمر المسلمون في حصار الفرس ومطاولتهم في ذالك فردوا عليه جميعاً رأيه، فلم يكن إجتماعهم إلا ليجدو رأياً يخرجهم من ذالك. ثم قام طليحة بن خويلد وأشار على المسلمين بتقديم فرقة من الفرسان لكي تتحرش بجيش الفرس بينما يختبئ جيش المسلمين في الخلف، ثم تنسحب فرقة الفرسان المسلمة من امام المجوس متظاهرة بالهزيمة فتظل تتراجع امامهم إلى حيث جيش المسلمين يستطيع ان يشارك في القتال ويلتحم بالمجوس بعيداً عن تحصيناتهم. وإمعاناً في خطة التضليل هذه قال المؤتمرون للنعمان: ( انتقل من منزلك هذا حنى يروا انك هارب منهم فيخرجوا في طلبك ).
لقي هذا الرأي أخيراً القبول لدي المؤتمرين، وحينها وكل قائد المسلمين النعمان قائد الفرسان القعقاع بن عمرو التميم بتنفيذ الجزء الاول من الخطة، هو قائد الفرسان في جيش المسلمين، وهو أهل لها. أليس هو القائل:
يدعون قعقاعاً لكل كريهة *** فيجيب قعقاع نداء الهاتف
تقدم القعقاع بفرسانه نحو خنادق المجوس ورماهم وأنشب القتال معهم واجترهم إلى خارج خنادقهم بعد ان أوجعهم الرمي، فلما خرجوا واشتعلت نار القتال أخذ القعقاع يتراجع ويتراجع ويتراجع تدريجياً على مراحل لكي لا تُكتشف الخطة.
في هذا الوقت كان النعمان رضي الله عنه يتراجع بجيشه إلى الخلف وبعد ان وصل إلى منطقة لا يمكن للفرس ان يهربوا منها بعد ان يدخلوها عبأ كتابه. في هذه الأثناء كان المجوس تماماً كما توقع طليحة يعتقدون انها فرصة السانحة في تحقيق النصر فها هو جيش المسلمين ينهزم امامهم!، فأخذوا يخرجون كتائهم الواحدة تلوا الاخرى ويدفعون بها ضد القعقاع حتى لم يبق في نهاوند إلا من يحرس الأبواب،وكان العجم قد وضعوا حسك الحديد بين الخندق والمدينة فلما خرجوا يطاردون القعقاع كنسوه واستمر القعقاع يتراجع حتى وصل إلى حيث يكمن جيش المسلمين متأهباً للإنقضاض على 150،000 مجوسي خرجوا من حصونهم يطاردون نصراً يتوهمونه أمامهم حتى إذا وصلوا إلى حيث الكمين اتضح لهم ان هذا النصر لم يكن إلا سرابا، لكنه ليس بأي سراب، سراب بلون الدماء.
9- النعمان تلميذ سعد
كان ذالك في يوم الجمعة، وكان التخطيط في صبحها وتم استدراج المجوس من حصونهم في صدر نهارها ولم يتم النهار بعد. لما وصل الفرس لمكان الكمين وهم يقاتلون القعقاع ولما رأوا جيش المسلمين أمامهم أخذوا يرمونهم بالنشاب والنبال والمسلمون لازمون أماكنهم لا يتحرك منهم أحد اتباعاً لأمر قائدهم، وظل المجوس يرمون المسلمين بالنبال والمسلمون يستترون منها بالجحف "دروع" حتى فشت الجراح بينهم فقالوا للنعمان:
( ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما لقي الناس، فما تنتظر بهم؟ ائذن للناس في قتالهم ).
فقال: رويداً رويداً.
فأعادوا عليه القول وهو يقول: رويداً رويداً.
وفعل النعمان تماماً كما فعل استاذه سعد في معركة القادسية. كان يرى المعركة عنيفة محتدمة مع فريق من جيشه فلا يدفعه هذا إلى الإستعجال واتخاذ قرارات بعجلة قد تودي لنتائج اسوء.
قال المغيرة بن شعبة وقد رأى كثرة جيوش العجم وما تفعل:
( لم أر كاليوم فشلا! إن عدونا يُتركون يتأهبون ولا يُعجلون!! أم والله لو أن هذا الأمر إلي لكنت قد أعجلتهم وعلمت ما أصنع، ولو كنت في منزلتك باكرتهم القتال ).
وكان النعمان رجلاً لينا فقال له:
( إنه والله ما منعني من أن أناجزهم إلا شيء شهدلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله كان إذا غزا فلم يقاتل أول النهار لم يعجل حتى تحضر الصلاة "الظهر" وتهب الأرواح " الرياح" ويطيب القتال، فما منعني إلا ذالك ).
فانتظر حتى زالت الشمس عن كبد السماء وبدء الظل يميل، ثم قال: ( نصلي إن شاء الله ثم نلقى عدونا دبر الصلاة ).
هذا كله وفرسان المسلمين بقيادة القعقاع مشتبكون مع مقدمة جيش الفرس.
10- القائد يدعو والجنود يبكون
لما صلى المسلمون صلاة الظهر انطلق النعمان رضي الله عنه بكل حماس على صهوة جواده وهو يجول على صفوف ورايات المسلمين، فكان يقف على الرايات راية راية، ويقول لهم:
( . . . وقد ترون ما انتم بإزاءه من عدوكم وما اخطرتم وما أخطروا لكم. فأما ما أخطروا لكم فهذه الرثة وما ترون من هذا السواد "منطقة خصيبة"، وأما ما اخطرتم لهم فدينكم وبيضتكم، ولا سواء ما أخطرتم وما أخطروا. فلا يكونن على دينهم أحمى منكم على دينكم. وأتقى الله عبد صدق الله وأبلى نفسه فأحسن البلاء، فإنكم بين خيرين متظرين إحدى الحسنيين من بين شهيد حي مرزوق أو فتح قريب وظفر يسير.
فإذا قضيت أمري فاستعدو فإني مكبر ثلاثاً.
فإذا كبرت التكبيرة الأولى فشد رجل شسعه "رباط نعله" وأصلح من شأنه، وليتهيأ من لم يكن تهيأ.
فإذا كبرت الثانيه فشد رجل إزاره وليشد عليه سلاحه وليتأهب للنهوض ويتهيأ لوجه حملته.
فإذا كبرت الثالثة فإني حامل إن شاء الله، فاحملوا معاً.اللهم إني أسألك ان تقر عيني اليوم بفتح يكون فيه عز الإسلام، وذل يذل به الكفار، ثم اقبضني بعد ذالك إليك على الشهادة واجعل النعمان أول شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبادك.
أمّنوا يرحمكم الله )
فأمن المسلمون وبكوا.
مرت أيام والجبهة على ذات الحال، يخرج الفرس من خلف خنادقهم ليهجموا على المسلمين ثم لا يلبثون ان يرتدوا على ادبارهم مهزومين إلى تلك الخنادق. في خضم تلك الظروف المتجمدة عقد النعمان رضي الله عنه مؤتمراً حربياً جمع فيه كافة قادة جيشه وكل من كان له رأي ومشورة واستشارهم فيما يجب العمل به. فأشار عليه عمرو بن معد كرب بشن هجوم عام على الفرس في الخنادق ومن ثم الهجوم على الأسوار من خلفها وكان إقتراحاً لاقى رفض الأغلبية الذين قالوا: ( إنما تناطح بنا الجدران، والجدران لهم أعواناً علينا ). وأشار عمرو بن ثبي بأن يستمر المسلمون في حصار الفرس ومطاولتهم في ذالك فردوا عليه جميعاً رأيه، فلم يكن إجتماعهم إلا ليجدو رأياً يخرجهم من ذالك. ثم قام طليحة بن خويلد وأشار على المسلمين بتقديم فرقة من الفرسان لكي تتحرش بجيش الفرس بينما يختبئ جيش المسلمين في الخلف، ثم تنسحب فرقة الفرسان المسلمة من امام المجوس متظاهرة بالهزيمة فتظل تتراجع امامهم إلى حيث جيش المسلمين يستطيع ان يشارك في القتال ويلتحم بالمجوس بعيداً عن تحصيناتهم. وإمعاناً في خطة التضليل هذه قال المؤتمرون للنعمان: ( انتقل من منزلك هذا حنى يروا انك هارب منهم فيخرجوا في طلبك ).
لقي هذا الرأي أخيراً القبول لدي المؤتمرين، وحينها وكل قائد المسلمين النعمان قائد الفرسان القعقاع بن عمرو التميم بتنفيذ الجزء الاول من الخطة، هو قائد الفرسان في جيش المسلمين، وهو أهل لها. أليس هو القائل:
يدعون قعقاعاً لكل كريهة *** فيجيب قعقاع نداء الهاتف
تقدم القعقاع بفرسانه نحو خنادق المجوس ورماهم وأنشب القتال معهم واجترهم إلى خارج خنادقهم بعد ان أوجعهم الرمي، فلما خرجوا واشتعلت نار القتال أخذ القعقاع يتراجع ويتراجع ويتراجع تدريجياً على مراحل لكي لا تُكتشف الخطة.
في هذا الوقت كان النعمان رضي الله عنه يتراجع بجيشه إلى الخلف وبعد ان وصل إلى منطقة لا يمكن للفرس ان يهربوا منها بعد ان يدخلوها عبأ كتابه. في هذه الأثناء كان المجوس تماماً كما توقع طليحة يعتقدون انها فرصة السانحة في تحقيق النصر فها هو جيش المسلمين ينهزم امامهم!، فأخذوا يخرجون كتائهم الواحدة تلوا الاخرى ويدفعون بها ضد القعقاع حتى لم يبق في نهاوند إلا من يحرس الأبواب،وكان العجم قد وضعوا حسك الحديد بين الخندق والمدينة فلما خرجوا يطاردون القعقاع كنسوه واستمر القعقاع يتراجع حتى وصل إلى حيث يكمن جيش المسلمين متأهباً للإنقضاض على 150،000 مجوسي خرجوا من حصونهم يطاردون نصراً يتوهمونه أمامهم حتى إذا وصلوا إلى حيث الكمين اتضح لهم ان هذا النصر لم يكن إلا سرابا، لكنه ليس بأي سراب، سراب بلون الدماء.
9- النعمان تلميذ سعد
كان ذالك في يوم الجمعة، وكان التخطيط في صبحها وتم استدراج المجوس من حصونهم في صدر نهارها ولم يتم النهار بعد. لما وصل الفرس لمكان الكمين وهم يقاتلون القعقاع ولما رأوا جيش المسلمين أمامهم أخذوا يرمونهم بالنشاب والنبال والمسلمون لازمون أماكنهم لا يتحرك منهم أحد اتباعاً لأمر قائدهم، وظل المجوس يرمون المسلمين بالنبال والمسلمون يستترون منها بالجحف "دروع" حتى فشت الجراح بينهم فقالوا للنعمان:
( ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما لقي الناس، فما تنتظر بهم؟ ائذن للناس في قتالهم ).
فقال: رويداً رويداً.
فأعادوا عليه القول وهو يقول: رويداً رويداً.
وفعل النعمان تماماً كما فعل استاذه سعد في معركة القادسية. كان يرى المعركة عنيفة محتدمة مع فريق من جيشه فلا يدفعه هذا إلى الإستعجال واتخاذ قرارات بعجلة قد تودي لنتائج اسوء.
قال المغيرة بن شعبة وقد رأى كثرة جيوش العجم وما تفعل:
( لم أر كاليوم فشلا! إن عدونا يُتركون يتأهبون ولا يُعجلون!! أم والله لو أن هذا الأمر إلي لكنت قد أعجلتهم وعلمت ما أصنع، ولو كنت في منزلتك باكرتهم القتال ).
وكان النعمان رجلاً لينا فقال له:
( إنه والله ما منعني من أن أناجزهم إلا شيء شهدلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله كان إذا غزا فلم يقاتل أول النهار لم يعجل حتى تحضر الصلاة "الظهر" وتهب الأرواح " الرياح" ويطيب القتال، فما منعني إلا ذالك ).
فانتظر حتى زالت الشمس عن كبد السماء وبدء الظل يميل، ثم قال: ( نصلي إن شاء الله ثم نلقى عدونا دبر الصلاة ).
هذا كله وفرسان المسلمين بقيادة القعقاع مشتبكون مع مقدمة جيش الفرس.
10- القائد يدعو والجنود يبكون
لما صلى المسلمون صلاة الظهر انطلق النعمان رضي الله عنه بكل حماس على صهوة جواده وهو يجول على صفوف ورايات المسلمين، فكان يقف على الرايات راية راية، ويقول لهم:
( . . . وقد ترون ما انتم بإزاءه من عدوكم وما اخطرتم وما أخطروا لكم. فأما ما أخطروا لكم فهذه الرثة وما ترون من هذا السواد "منطقة خصيبة"، وأما ما اخطرتم لهم فدينكم وبيضتكم، ولا سواء ما أخطرتم وما أخطروا. فلا يكونن على دينهم أحمى منكم على دينكم. وأتقى الله عبد صدق الله وأبلى نفسه فأحسن البلاء، فإنكم بين خيرين متظرين إحدى الحسنيين من بين شهيد حي مرزوق أو فتح قريب وظفر يسير.
فإذا قضيت أمري فاستعدو فإني مكبر ثلاثاً.
فإذا كبرت التكبيرة الأولى فشد رجل شسعه "رباط نعله" وأصلح من شأنه، وليتهيأ من لم يكن تهيأ.
فإذا كبرت الثانيه فشد رجل إزاره وليشد عليه سلاحه وليتأهب للنهوض ويتهيأ لوجه حملته.
فإذا كبرت الثالثة فإني حامل إن شاء الله، فاحملوا معاً.اللهم إني أسألك ان تقر عيني اليوم بفتح يكون فيه عز الإسلام، وذل يذل به الكفار، ثم اقبضني بعد ذالك إليك على الشهادة واجعل النعمان أول شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبادك.
أمّنوا يرحمكم الله )
فأمن المسلمون وبكوا.
11- هجوم عنيف ورحيل القائد الحليم إلى الرفيق الأعلى
كان الأعاجم قد ربطوا أنفسهم بالسلاسل حتى لا يفروا. ورجع النعمان إلى موقعه فكبر الأولى ثم الثانيه، وجنود المسلمين سامعون مطيعون مستعدون للقتال والمناهضة، يحرص بعضهم أن يأخذ مواقف بعض وأن يغني كل منهم عن أخيه. ثم كبر النعمان الثالثة وحمل سيفاً في يد والراية في الأخرى، وقد رآها المسلمون وهي تنقض نحو العجم كانقضاض العقاب، فحملوا جميعاً كل إنسان على من تجاهه من العجم. يقول جبير الراوية:
( فوالله ما علمت من المسلمين أحداً يومئذ يريد أن يرجع إلى أهله حتى يُقتل او يظفر، فحملنا حملة واحدة وثبتوا لنا، فما كنا نسمع إلا وقع الحديد على الحديد حتى أصيب المسلمون بمصائب عظيمه، فلما رأوا صبرنا وأنا لا نبرح العرصة انهزموا، فجعل يقع الواحد فيقع عليه سبعة بعضهم على بعض في قياد فيُقتلوا جميعاً ).
واقتتلوا قتالاً شديداً ضارياً يصفه الرواة بقولهم: ( لم يسمع السامعون بوقعة يوم قط كانت أشد منها ). واستمر القتال من انتصاف النهار حتى هبوط الظلام، وكثر قتلى الفرس حتى طبق الأرض دماً يزلق فيه الناس والدواب، فانزلق فيه من خيول المسلمين وأصيب فرسانهم، وزلق فرس النعمان فلقي النعمان مصرعه.وفي رواية ابن اسحق ان النعمان رُمي بنشابة أصابت خاصرته فقتلته، وكان أخوه نعيم قريباً منه، فقد كان نعيم بن المقرن قائد المقدمة، وحين تحتدم المعركة تدخل المقدمة في القلب وتكون جزءاً منه فلما أصيب النعمان أسرع نعيم وأخذ الراية منه قبل ان تسقط، وسجى أخاه النعمان بثوب، ثم أتى حذيفة بن اليمان في الميمنة ودفع له الراية باعتباره خليفة النعمان، فأخذها حذيفة وترك مكانه لنعيم واتجه هو إلى مكان القيادة في القلب حيث أقام النعمان اللواء. وقال له المغيرة: ( اكتموا مصاب أميركم حتى ننظر ما يصنع الله فينا وفيهم لكيلا يهن الناس ). واستمر القتال، حتى إذا أظلم الليل انكشف العجم وتراجعوا والمسلمون ملتحمون بهم ملتبسون فيه لا يرفهون عنهم، فاختلط عليهم طريق التراجع وعمي عليهم قصدهم فخرجوا عنه واتجهو نحو وادٍ عميق فتساقطوا فيه وهم يصيحون. فمات في هذا المكان منهم مائة ألف أو يزيدون سوى من قتل في المعركة ومن قُتل في عمليات المطاردة التي تلتها.
يقول معقل بن يسار: ( فأتيت النعمان وبه رمق فغسلت وجهه من أداوة ماء كانت معي. فقال: من أنت؟.
قلت: معقل.
قال: ما صنع المسلمون؟
قلت: أبشر بفتح الله ونصره.
قال: الحمد لله، اكتبوا إلى عمر. )
واجتمع المسلمون بعد المعركة وتسائلوا: ( أين أميرنا؟؟ ).
قال معقل بن مقرن: ( هذا أميركم قد أقر الله علينه بالفتح وختم له بالشهادة ).
فبايع الناس حذيفة، وعمر في المدينة يستنصر لهم ويدعو لهم مثل الحُبْلى!
12- الغنائم والخبر الحزين في المدينة
بعد نهاية المعركة الدموية التي قُتل فيها ما يفوق 100،000 مجوسي والتي سماها المسلمون فتح الفتوح انتشرت الأخبار في المناطق القريبة بسرعة، فأقبل رسول من مدينة همذان القريبة يعرض الدخول في طاعة المسلمين صلحاً ودفع الجزية فوافقوه على ذالك. ثم دخل المسلمون نهاوند فأخذوا كل ما كان فيها وما حولها، وجمعوا ذالك كله إلى السائب بن الأقرع صاحب الأقباض "الغنائم"، وبينما هم كذالك إذ أتاهم صاحب بيت النار وقال لحذيفة: ( أتؤمنني على أن أخبرك بما أعلم؟ ).
قال: نعم.
قال: ( إن النخيرجان "قائد فارسي" قد وضع عندي ذخيرة لكسرى "كنوز"، فأنا أخرجها لك على أماني وأمان من شئت ). وافق حذيفة على ذالك فأخرج له سفطين فيهما ذخيرة كسرى من الجواهر التي كان قد أعدها لنوائب الزمان. ونظر المسلمون في ذالك فأجمع رأيهم على رفعه إلى عمر وأن يجعلوا أمر التصرف فيها بين يدي أمير المؤمنين، فعزلوا تلك الذخيرة ثم أرسلوها إليه مع بقية الأخماس والخبر مع السائب بن الأقرع وأقام حذيفة في نهاوند يقسم الغنائم على جيش المسلمين وينتظر أمر عمر الجديد.
يقول السائب بن الأقرع: ( . . . ثم قدمت على عمر بن الخطاب فقال: ما ورائك يا سائب؟ فقلت: خيراً يا أمير المؤمنين، فتح الله عليك بأعظم الفتح واستشهد النعمان بن مقرن رحمه الله.
فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم بكى وتشنج حتى إني لأرى فروع منكبيه من فوق كتفه.
قال: ومن ويحك؟!
فقال: (فلان وفلان.. حتى عددت له ناساً كثيراً). يقول السائب:
فلما رأيت منه ما لقي قلت: والله يا أمير المؤمنين ما أصيب بعده من رجل يُعرف وجهه.
فقال عمر وهو يبكي: المستضعفون من المسلمين! (لايضرهم ألا يعرفهم عمر) لكن الذي أكرمهم بالشهادة يعرف وجوههم وأنسابهم. وما يصنعون بمعرفة عمر بن أم عمر؟
ثم قام ليدخل، فقلت: إن معي مالاً عظيما قد جئت به. ثم أخبرته خبر السفطين، فقال: أدخلهما بيت المال حتى ننظر في شأنهما، والحق بجندك. فأدخلتهما في بيت المال وخرجت سريعاً إلى الكوفة. وبات "عمر" تلك الليلة التي خرجت فيها، فلما أصبح بعث في أثري رسولا، فوالله ما أدركني حتى دخلت الكوفة، فأنخت بعيري وأناخ بعيره على عرقوبي بعيري.
فقال: إلحق بأمير المؤمنين فقد بعثني في طلبك فلم أقدر عليك إلا الآن.
فقلت: ويلك! ماذا ولماذا؟
قال: لا أدري والله.
فركبت معه حتى قدمت عليه، فلما رآني قال:
مالي ولابن أم السائب؟ بل ما لابن أم السائب وما لي؟
قلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟
قال: ويحك! والله ما هو إلا أن نمت تلك الليلة التي خرجت فيها باتت ملائكة ربي تسحبني إلى ذينك السفطين يشتعلان نارا، يقولون لنكوينك بها، فأقول سأقسمهما بين المسلمين. فخذهما عني لا أبا لك والحق بهما فبعهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم.
كان الأعاجم قد ربطوا أنفسهم بالسلاسل حتى لا يفروا. ورجع النعمان إلى موقعه فكبر الأولى ثم الثانيه، وجنود المسلمين سامعون مطيعون مستعدون للقتال والمناهضة، يحرص بعضهم أن يأخذ مواقف بعض وأن يغني كل منهم عن أخيه. ثم كبر النعمان الثالثة وحمل سيفاً في يد والراية في الأخرى، وقد رآها المسلمون وهي تنقض نحو العجم كانقضاض العقاب، فحملوا جميعاً كل إنسان على من تجاهه من العجم. يقول جبير الراوية:
( فوالله ما علمت من المسلمين أحداً يومئذ يريد أن يرجع إلى أهله حتى يُقتل او يظفر، فحملنا حملة واحدة وثبتوا لنا، فما كنا نسمع إلا وقع الحديد على الحديد حتى أصيب المسلمون بمصائب عظيمه، فلما رأوا صبرنا وأنا لا نبرح العرصة انهزموا، فجعل يقع الواحد فيقع عليه سبعة بعضهم على بعض في قياد فيُقتلوا جميعاً ).
واقتتلوا قتالاً شديداً ضارياً يصفه الرواة بقولهم: ( لم يسمع السامعون بوقعة يوم قط كانت أشد منها ). واستمر القتال من انتصاف النهار حتى هبوط الظلام، وكثر قتلى الفرس حتى طبق الأرض دماً يزلق فيه الناس والدواب، فانزلق فيه من خيول المسلمين وأصيب فرسانهم، وزلق فرس النعمان فلقي النعمان مصرعه.وفي رواية ابن اسحق ان النعمان رُمي بنشابة أصابت خاصرته فقتلته، وكان أخوه نعيم قريباً منه، فقد كان نعيم بن المقرن قائد المقدمة، وحين تحتدم المعركة تدخل المقدمة في القلب وتكون جزءاً منه فلما أصيب النعمان أسرع نعيم وأخذ الراية منه قبل ان تسقط، وسجى أخاه النعمان بثوب، ثم أتى حذيفة بن اليمان في الميمنة ودفع له الراية باعتباره خليفة النعمان، فأخذها حذيفة وترك مكانه لنعيم واتجه هو إلى مكان القيادة في القلب حيث أقام النعمان اللواء. وقال له المغيرة: ( اكتموا مصاب أميركم حتى ننظر ما يصنع الله فينا وفيهم لكيلا يهن الناس ). واستمر القتال، حتى إذا أظلم الليل انكشف العجم وتراجعوا والمسلمون ملتحمون بهم ملتبسون فيه لا يرفهون عنهم، فاختلط عليهم طريق التراجع وعمي عليهم قصدهم فخرجوا عنه واتجهو نحو وادٍ عميق فتساقطوا فيه وهم يصيحون. فمات في هذا المكان منهم مائة ألف أو يزيدون سوى من قتل في المعركة ومن قُتل في عمليات المطاردة التي تلتها.
يقول معقل بن يسار: ( فأتيت النعمان وبه رمق فغسلت وجهه من أداوة ماء كانت معي. فقال: من أنت؟.
قلت: معقل.
قال: ما صنع المسلمون؟
قلت: أبشر بفتح الله ونصره.
قال: الحمد لله، اكتبوا إلى عمر. )
واجتمع المسلمون بعد المعركة وتسائلوا: ( أين أميرنا؟؟ ).
قال معقل بن مقرن: ( هذا أميركم قد أقر الله علينه بالفتح وختم له بالشهادة ).
فبايع الناس حذيفة، وعمر في المدينة يستنصر لهم ويدعو لهم مثل الحُبْلى!
12- الغنائم والخبر الحزين في المدينة
بعد نهاية المعركة الدموية التي قُتل فيها ما يفوق 100،000 مجوسي والتي سماها المسلمون فتح الفتوح انتشرت الأخبار في المناطق القريبة بسرعة، فأقبل رسول من مدينة همذان القريبة يعرض الدخول في طاعة المسلمين صلحاً ودفع الجزية فوافقوه على ذالك. ثم دخل المسلمون نهاوند فأخذوا كل ما كان فيها وما حولها، وجمعوا ذالك كله إلى السائب بن الأقرع صاحب الأقباض "الغنائم"، وبينما هم كذالك إذ أتاهم صاحب بيت النار وقال لحذيفة: ( أتؤمنني على أن أخبرك بما أعلم؟ ).
قال: نعم.
قال: ( إن النخيرجان "قائد فارسي" قد وضع عندي ذخيرة لكسرى "كنوز"، فأنا أخرجها لك على أماني وأمان من شئت ). وافق حذيفة على ذالك فأخرج له سفطين فيهما ذخيرة كسرى من الجواهر التي كان قد أعدها لنوائب الزمان. ونظر المسلمون في ذالك فأجمع رأيهم على رفعه إلى عمر وأن يجعلوا أمر التصرف فيها بين يدي أمير المؤمنين، فعزلوا تلك الذخيرة ثم أرسلوها إليه مع بقية الأخماس والخبر مع السائب بن الأقرع وأقام حذيفة في نهاوند يقسم الغنائم على جيش المسلمين وينتظر أمر عمر الجديد.
يقول السائب بن الأقرع: ( . . . ثم قدمت على عمر بن الخطاب فقال: ما ورائك يا سائب؟ فقلت: خيراً يا أمير المؤمنين، فتح الله عليك بأعظم الفتح واستشهد النعمان بن مقرن رحمه الله.
فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم بكى وتشنج حتى إني لأرى فروع منكبيه من فوق كتفه.
قال: ومن ويحك؟!
فقال: (فلان وفلان.. حتى عددت له ناساً كثيراً). يقول السائب:
فلما رأيت منه ما لقي قلت: والله يا أمير المؤمنين ما أصيب بعده من رجل يُعرف وجهه.
فقال عمر وهو يبكي: المستضعفون من المسلمين! (لايضرهم ألا يعرفهم عمر) لكن الذي أكرمهم بالشهادة يعرف وجوههم وأنسابهم. وما يصنعون بمعرفة عمر بن أم عمر؟
ثم قام ليدخل، فقلت: إن معي مالاً عظيما قد جئت به. ثم أخبرته خبر السفطين، فقال: أدخلهما بيت المال حتى ننظر في شأنهما، والحق بجندك. فأدخلتهما في بيت المال وخرجت سريعاً إلى الكوفة. وبات "عمر" تلك الليلة التي خرجت فيها، فلما أصبح بعث في أثري رسولا، فوالله ما أدركني حتى دخلت الكوفة، فأنخت بعيري وأناخ بعيره على عرقوبي بعيري.
فقال: إلحق بأمير المؤمنين فقد بعثني في طلبك فلم أقدر عليك إلا الآن.
فقلت: ويلك! ماذا ولماذا؟
قال: لا أدري والله.
فركبت معه حتى قدمت عليه، فلما رآني قال:
مالي ولابن أم السائب؟ بل ما لابن أم السائب وما لي؟
قلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟
قال: ويحك! والله ما هو إلا أن نمت تلك الليلة التي خرجت فيها باتت ملائكة ربي تسحبني إلى ذينك السفطين يشتعلان نارا، يقولون لنكوينك بها، فأقول سأقسمهما بين المسلمين. فخذهما عني لا أبا لك والحق بهما فبعهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم.
13- كسرى يفر من امام جيوش المسلمين التي تطارده
بعد الهزيمة المخزية في نهاوند فتحت أبواب فارس على مصراعيها أمام جيوش المسلمين التي انساحت فيها تنشر دين الله بين الناس وتعلمهم الدين الذي منع الأكاسرة وصوله إلى العامة بقوة السلاح فانساح المسلمون من الكوفة نحو الشرق بأمر من عمر حيث أمرهم بتعقب جيوش المجوس والقضاء عليها حيث كانت. ففتحت أصبهان ونقض أهل همذان الصلح مع المسلمين فسار لهم جيش من المسلمين وفتحوا المدينة ثم فُتحت دنباوند وقومس وجرجان وطبرستان وآذربيجان وكرمان وسجستان وافتتحت مُكران ومرو وخُراسان .. كل هذا جرى وكسرى يفر من أمام جيوش المسلمين فلا يكاد يحط رحاله هو وحاشيته في مدينة حتى تأتيهم أخبار قدوم جيش للمسلمين فظل يتنقل بين المدن هارباً ذليلا.
14- هوان
وصل يزدجرد إلى الري وكان عليها دهقان من قبله يدعى آبان جاذويه فاستقبله، وقد هان في عينه بعد ما مُني به من هزائم، فانقض عليه فأخذه، فقال: ( يا آبان جاذويه تغدر بي؟ قال: لا، ولكن قد تركت ملكك وصار في يد غيرك فأردت أن اكتب على ما كن لي من شيء وما أردت غير ذالك.. وأخذ آبان من يزدجرد خاتمه الملكي عنوة، فكتب لنفسه بعض الوثائق والصكوك والسجلات بكل ما أعجبه وختمها بالخاتم ثم رده إليه. وأحس يزدجرد بمزيد من الهوان وعدم الأمان على نفسه إن هو بقي في الري، فغادرها إلى أصبهان.
واتجه المسلمون إلى فتح أصبهان فخرج منها إلى اصطخر فأرسل المسلمون في أثره عبدالله بن بديل بن ورقاء لاتباعه فلم يقدر عليه. وكان حاكم طبرستان قد أرسل إلى يزدجرد أن يأتيه وأخبره بحصانة بلاده، غير أن يزدجرد فضل أن يلجأ إلى كرمان.
وجلس ذات يوم وهو بكرمان، فدخل عليه دهقانها فلم يكلمه يزدجرد كبراً وتيها، فأمر به فجروه من رجله وقال له: ما أنت أهل لولاية قرية فضلاً عن الملك، ولو علم الله فيك خيرا لما صيرك إلى هذه الحال. فعاد يزدجرد يحس بهوان أكبر مما ناله في الري، فخرج من كرمان إلى سجستان فأكرمه ملكها وعظمه. فلما مضت أيام سأله يزدجرد عن الخراج فتنكر له.
15- نهاية الطريق
ومرة أخرى خرج الملك الشريد من سجستان وسار إلى خراسان، فلما صار إلى حد مرو "في الأراضي الروسية اليوم" فاستقبله حاكمها معظماً ومبجلا وكان مع كسرى يوم دخلها أربعة آلاف راكب فرس.
وكانت جيوش المسلمين ما زالت تزحف وتفتح. فدخل الأحنف بن قيس خراسان وافتتح هراة عنوة ثم سار إلى مرو الشاهجان، وأسرل إلى نيسابور قوة استولت عليها كما استولت قواته على سرخس. فلما اقترب الأحنف من مرو الشاهجان هرب منها يزدجرد ونزل مرو الروذ واستولى الأحنف على مرو الشاهجان. وبهذا يكون كسرى يزدجرد قد بلغ آخر حدود مملكته فكتب وهو بمرو الروذ إلى خاقان الترك وملك الصغد وملك الصين يستغيثهم ويستمدهم، ونزل الأحنف فافتتح مرو الروذ فاضطر يزدجرد ان يخرج منها إلى بلخ، وسار إليه المسلمون هناك والتقوا به في معركة لأول مرة منذ بداية فتوحات العراق، فانهزم يزدجرد سريعاً وعبر نهر جيحون إلى ملك الترك، قبل أن يتسنى له ولا لملك الصغد مساعدته حتى عبر إليهما مهزوما. وكان الملوك يرون على أنفسهم إنجاد الملوك، فأقبل ملك الترك وعبر نهر جيحون في جيش فقاتلهم المسلمون فما لبث جند الترك ان انهارت معنوياتهم في حرب لا يرون لأنفسهم شأناً فيها وهُزموا شر هزيمة.
16- جواب ملك الصين
وعاد رسول يزدجرد إلى ملك الصين بهدايا وجواب فسألوه عما وراءه فقال: لما قدمت على ملك الصين بالكتاب والهدايا كافأني بما ترون ثم قال لي:
( قد عرفت حقاً أن على الملوك انجاد الملوك على من غلبهم، فصف لي صفة هاؤلاء القوم الذين أخرجوكم من بلادكم، فإني أراك تذكر كثرة منكم وقلة منهم، ويبلغ أمثال هاؤلاء القليل الذي تصف منكم فيما أسمع من كثرتكم إلا بخير عندهم وشر فيكم.
فقلت: سلني عما أحببت.
فقال: أيوفون بالعهد؟
قلت: نعم.
قال: وما يقولون لكم قبل ان يقاتلوكم؟
قلت: يدعوننا إلى واحدة من ثلاثم: إما دينهم، فإن أجبناهم أجرونا مجراهم، أو الجزية والمنعة، أو المنابذة.
قال: فكيف طاعتهم أمراءهم.
قلت: أطوع قوم لمرشدهم.
قال: فما يحلون ويحرمون؟ فأخبرته.
فقال: أيحرمون ما حلل لهم أو يحلون ما حرم عليهم؟
قلت: لا
قال: فإن هاؤلاء قوم لا يهلكون أبداً حتى يحلوا حرامهم ويحرموا حلالهم.. ثم قال: أخبرني عن لباسهم، فأخبرته، وعن مطاياهم، فقلت: الخيل العراب "الأصيلة" ووصفتها فقال: نعمت حصونهم هذه. ووصفت له الإبل وبروكها وانبعاثها بحملها، فقال: هذه صفة دواب طوال الأعناق.
وكتب معه إلى يزدجرد: إنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجيش أوله عندك وآخره بالصين الجهالة بما يحق علي، ولكن هؤلاء الأقوام الذين وصف إلي رسولك صفتهم لو يحاولون الجبال لهدوها، ولو خلى سربهم أزالوني ما داموا على ما وصف، فسالمهم وارض منهم بالمساكنة، ولا تهجهم ما لم يهيجوك!)
17- مصرع آخر الأكاسرة "يزدجرد"
كتب دهقان طرخان إلى يزدجرد يخطب إليه ابنته. فأغاظ ذالك يزدجرد وقال: ( اكتبوا إليه انما انت عبد من عبيدي فما جرأك علي ان تخطب إلي؟ ) وأمر بمحاسبة دهقان مرو وسأله عن الأموال، فكتب هذا إلى دهقان طخان: ( هذا الذي قدم مفلولاً طريدا فمننت عليه ليرد ملكه ). وتكاتبا وتضافرا على قتله. فأقبلا في جيش نحو يزدجرد ومن معه، فتقاقتلوا ودارت الدائرة على يزدجرد وجنده فقتل أصحابه وعُقر جواده، فمضى ماشياً هربا حتى انتهى إلى بيت طحان فيه رحى على شاطئ نهر، فمكنث فيه يومين وهم يبحثون عنه حتى دخل صاحب الرحى بيته ورأى يزدجرد بهيئته فقال: ما أنت! إنسي أو جني!
قال: إنسي، فهل عندك طعام؟
قال: نعم.
فأتاه بطعام فأكل وشرب. ثم أُنذر بقدوم مطارديه فهرب ونزل في الماء فطُلب من الطحان فقال: قد خرج من بيتي. فوجدوه في الماء، فقال: خلوا عني أعطكم منطقتي وخاتمي وتاجي. فتغيبوا عنه. وسألهم شيئاً يأكل به خبزا، فأعطاه بعضهم اربعة دراهم، فضحك وقال: لقد قيل إنك ستحتاج إلى أربعة دراهم واضطر إلى ان يكون أكلي أكل الهر، فقد عاينت وجاءني بحقيقته. ثم انتزع قرطاً من احدى اذنيه وأعطاه للطحان مكافأة له على كتمانه سره. ثم أتاه مطاردوه مرة أخرى وهجموا عليه، فقال لهم: ( ويحكم! إنا لنجد في كتبنا ان من اجترأ على قتل الملوك عاقبه الله بالحريق في الدنيا مع ما هو قادم عليه، فلا تقتلوني وآتوني الدهقان، أو سرحوني إلى العرب، فإنهم يستحيون مثلي من الملوك ).
فأخذوا ما كان عليه من الحلي وجعلوه في جراب وختموا عليه، ثم خنقوه بوتر قوس وطرحوه في نهر مرو. ويبدو ان كسرى وهم موضوع في الجراب وهم يخنقونه قد تذكر ما جرى قبل خمسة عشر سنة، يوم أتته رسل المسلمين وهو في المدائن عاصمة ملكه وسلطانه وهو في أوج عزته وقوته وملكوته يعرضون عليه الإسلام او الجزية او الحرب، فاستولى عليه الكبر وتملكه الغرور والطغيان فرفض الإسلام ورفض دفع الجزية، يبدو انه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة قد تمنى لو انه استمع لرستم يوم أشار عليه بعدم قتال المسلمين وبمهادنتهم. من المؤكد انه ندم على ما كان منه من حمق وسفه وطغيان، لكن، لات حين مندم. ومع خروج الأنفاس الأخيرة من جسد ذالك الملك البائس، كانت الإمبراطورية الساسانية المجوسية هي الأخرى تلفظن أنفاسها الأخيرة بعدما عمرت لأكثر من ألف سنة، وأضاءت شمس الإسلام على تلك البلاد التي لطالما حُكمت بالظلم والقهر.
18- الرثاء الوحيد
حمل الماء جثة آخر أكاسرة الأسرة الساسانية يزدجرد حتى فوهة الرزيق فتعلق بعود. وكان مطران مرو رجلاً نصرانيا وقد بلغه مقتل يزدجرد فجمع من كان قبله من النصارى وقال لهم: ( إن ملك الفرس قد قُتل، وهو ابن شهريار بن كسرى، وإنما شهريار ولد شيرين المؤمنة التي عرفتم حقها وإحسانها إلى أهل ملتها من غير وجه، ولهذا الملك عنصر من النصرانية مع ما نال النصارى في ملك جده كسرى من الشرف، وقبل ذالك في مملكة ملوك أسلافة من الخير، حتى بنى لهم بعض البيع وسدد لهم بعض ملتهم، فينبغي لنا ان نحزن لقتل هذا الملك من كرامته بقدر إحسان أسلافه وجدته شيرين، كان إلى النصارى، وقد رأيت أن ابني له ناووساً "ضريحا" وأحمل جثته في كرامة حتى أواريها فيه ).
فقال النصارى: ( أمرنا لأمرك أيها المطران نتبع، ومحن لك على رأيك هذا مواطئون ). فأمر المطران فبني في جوف بستان المطارنة بمرو ضريحا، ومضى بنفسه ومعه نصارى مرو حتى استخرج جثة يزدجرد من النهر وكفنها في طيلسان له معطر بالمسك وجعلها في تابوت من الخشب، وحمله ومن كان معه من النصارى على عواتقهم حتى أتوا به قبره فواروه فيه وردموا بابه.
هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا انت استغفرك واتوب إليك
بعد الهزيمة المخزية في نهاوند فتحت أبواب فارس على مصراعيها أمام جيوش المسلمين التي انساحت فيها تنشر دين الله بين الناس وتعلمهم الدين الذي منع الأكاسرة وصوله إلى العامة بقوة السلاح فانساح المسلمون من الكوفة نحو الشرق بأمر من عمر حيث أمرهم بتعقب جيوش المجوس والقضاء عليها حيث كانت. ففتحت أصبهان ونقض أهل همذان الصلح مع المسلمين فسار لهم جيش من المسلمين وفتحوا المدينة ثم فُتحت دنباوند وقومس وجرجان وطبرستان وآذربيجان وكرمان وسجستان وافتتحت مُكران ومرو وخُراسان .. كل هذا جرى وكسرى يفر من أمام جيوش المسلمين فلا يكاد يحط رحاله هو وحاشيته في مدينة حتى تأتيهم أخبار قدوم جيش للمسلمين فظل يتنقل بين المدن هارباً ذليلا.
14- هوان
وصل يزدجرد إلى الري وكان عليها دهقان من قبله يدعى آبان جاذويه فاستقبله، وقد هان في عينه بعد ما مُني به من هزائم، فانقض عليه فأخذه، فقال: ( يا آبان جاذويه تغدر بي؟ قال: لا، ولكن قد تركت ملكك وصار في يد غيرك فأردت أن اكتب على ما كن لي من شيء وما أردت غير ذالك.. وأخذ آبان من يزدجرد خاتمه الملكي عنوة، فكتب لنفسه بعض الوثائق والصكوك والسجلات بكل ما أعجبه وختمها بالخاتم ثم رده إليه. وأحس يزدجرد بمزيد من الهوان وعدم الأمان على نفسه إن هو بقي في الري، فغادرها إلى أصبهان.
واتجه المسلمون إلى فتح أصبهان فخرج منها إلى اصطخر فأرسل المسلمون في أثره عبدالله بن بديل بن ورقاء لاتباعه فلم يقدر عليه. وكان حاكم طبرستان قد أرسل إلى يزدجرد أن يأتيه وأخبره بحصانة بلاده، غير أن يزدجرد فضل أن يلجأ إلى كرمان.
وجلس ذات يوم وهو بكرمان، فدخل عليه دهقانها فلم يكلمه يزدجرد كبراً وتيها، فأمر به فجروه من رجله وقال له: ما أنت أهل لولاية قرية فضلاً عن الملك، ولو علم الله فيك خيرا لما صيرك إلى هذه الحال. فعاد يزدجرد يحس بهوان أكبر مما ناله في الري، فخرج من كرمان إلى سجستان فأكرمه ملكها وعظمه. فلما مضت أيام سأله يزدجرد عن الخراج فتنكر له.
15- نهاية الطريق
ومرة أخرى خرج الملك الشريد من سجستان وسار إلى خراسان، فلما صار إلى حد مرو "في الأراضي الروسية اليوم" فاستقبله حاكمها معظماً ومبجلا وكان مع كسرى يوم دخلها أربعة آلاف راكب فرس.
وكانت جيوش المسلمين ما زالت تزحف وتفتح. فدخل الأحنف بن قيس خراسان وافتتح هراة عنوة ثم سار إلى مرو الشاهجان، وأسرل إلى نيسابور قوة استولت عليها كما استولت قواته على سرخس. فلما اقترب الأحنف من مرو الشاهجان هرب منها يزدجرد ونزل مرو الروذ واستولى الأحنف على مرو الشاهجان. وبهذا يكون كسرى يزدجرد قد بلغ آخر حدود مملكته فكتب وهو بمرو الروذ إلى خاقان الترك وملك الصغد وملك الصين يستغيثهم ويستمدهم، ونزل الأحنف فافتتح مرو الروذ فاضطر يزدجرد ان يخرج منها إلى بلخ، وسار إليه المسلمون هناك والتقوا به في معركة لأول مرة منذ بداية فتوحات العراق، فانهزم يزدجرد سريعاً وعبر نهر جيحون إلى ملك الترك، قبل أن يتسنى له ولا لملك الصغد مساعدته حتى عبر إليهما مهزوما. وكان الملوك يرون على أنفسهم إنجاد الملوك، فأقبل ملك الترك وعبر نهر جيحون في جيش فقاتلهم المسلمون فما لبث جند الترك ان انهارت معنوياتهم في حرب لا يرون لأنفسهم شأناً فيها وهُزموا شر هزيمة.
16- جواب ملك الصين
وعاد رسول يزدجرد إلى ملك الصين بهدايا وجواب فسألوه عما وراءه فقال: لما قدمت على ملك الصين بالكتاب والهدايا كافأني بما ترون ثم قال لي:
( قد عرفت حقاً أن على الملوك انجاد الملوك على من غلبهم، فصف لي صفة هاؤلاء القوم الذين أخرجوكم من بلادكم، فإني أراك تذكر كثرة منكم وقلة منهم، ويبلغ أمثال هاؤلاء القليل الذي تصف منكم فيما أسمع من كثرتكم إلا بخير عندهم وشر فيكم.
فقلت: سلني عما أحببت.
فقال: أيوفون بالعهد؟
قلت: نعم.
قال: وما يقولون لكم قبل ان يقاتلوكم؟
قلت: يدعوننا إلى واحدة من ثلاثم: إما دينهم، فإن أجبناهم أجرونا مجراهم، أو الجزية والمنعة، أو المنابذة.
قال: فكيف طاعتهم أمراءهم.
قلت: أطوع قوم لمرشدهم.
قال: فما يحلون ويحرمون؟ فأخبرته.
فقال: أيحرمون ما حلل لهم أو يحلون ما حرم عليهم؟
قلت: لا
قال: فإن هاؤلاء قوم لا يهلكون أبداً حتى يحلوا حرامهم ويحرموا حلالهم.. ثم قال: أخبرني عن لباسهم، فأخبرته، وعن مطاياهم، فقلت: الخيل العراب "الأصيلة" ووصفتها فقال: نعمت حصونهم هذه. ووصفت له الإبل وبروكها وانبعاثها بحملها، فقال: هذه صفة دواب طوال الأعناق.
وكتب معه إلى يزدجرد: إنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجيش أوله عندك وآخره بالصين الجهالة بما يحق علي، ولكن هؤلاء الأقوام الذين وصف إلي رسولك صفتهم لو يحاولون الجبال لهدوها، ولو خلى سربهم أزالوني ما داموا على ما وصف، فسالمهم وارض منهم بالمساكنة، ولا تهجهم ما لم يهيجوك!)
17- مصرع آخر الأكاسرة "يزدجرد"
كتب دهقان طرخان إلى يزدجرد يخطب إليه ابنته. فأغاظ ذالك يزدجرد وقال: ( اكتبوا إليه انما انت عبد من عبيدي فما جرأك علي ان تخطب إلي؟ ) وأمر بمحاسبة دهقان مرو وسأله عن الأموال، فكتب هذا إلى دهقان طخان: ( هذا الذي قدم مفلولاً طريدا فمننت عليه ليرد ملكه ). وتكاتبا وتضافرا على قتله. فأقبلا في جيش نحو يزدجرد ومن معه، فتقاقتلوا ودارت الدائرة على يزدجرد وجنده فقتل أصحابه وعُقر جواده، فمضى ماشياً هربا حتى انتهى إلى بيت طحان فيه رحى على شاطئ نهر، فمكنث فيه يومين وهم يبحثون عنه حتى دخل صاحب الرحى بيته ورأى يزدجرد بهيئته فقال: ما أنت! إنسي أو جني!
قال: إنسي، فهل عندك طعام؟
قال: نعم.
فأتاه بطعام فأكل وشرب. ثم أُنذر بقدوم مطارديه فهرب ونزل في الماء فطُلب من الطحان فقال: قد خرج من بيتي. فوجدوه في الماء، فقال: خلوا عني أعطكم منطقتي وخاتمي وتاجي. فتغيبوا عنه. وسألهم شيئاً يأكل به خبزا، فأعطاه بعضهم اربعة دراهم، فضحك وقال: لقد قيل إنك ستحتاج إلى أربعة دراهم واضطر إلى ان يكون أكلي أكل الهر، فقد عاينت وجاءني بحقيقته. ثم انتزع قرطاً من احدى اذنيه وأعطاه للطحان مكافأة له على كتمانه سره. ثم أتاه مطاردوه مرة أخرى وهجموا عليه، فقال لهم: ( ويحكم! إنا لنجد في كتبنا ان من اجترأ على قتل الملوك عاقبه الله بالحريق في الدنيا مع ما هو قادم عليه، فلا تقتلوني وآتوني الدهقان، أو سرحوني إلى العرب، فإنهم يستحيون مثلي من الملوك ).
فأخذوا ما كان عليه من الحلي وجعلوه في جراب وختموا عليه، ثم خنقوه بوتر قوس وطرحوه في نهر مرو. ويبدو ان كسرى وهم موضوع في الجراب وهم يخنقونه قد تذكر ما جرى قبل خمسة عشر سنة، يوم أتته رسل المسلمين وهو في المدائن عاصمة ملكه وسلطانه وهو في أوج عزته وقوته وملكوته يعرضون عليه الإسلام او الجزية او الحرب، فاستولى عليه الكبر وتملكه الغرور والطغيان فرفض الإسلام ورفض دفع الجزية، يبدو انه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة قد تمنى لو انه استمع لرستم يوم أشار عليه بعدم قتال المسلمين وبمهادنتهم. من المؤكد انه ندم على ما كان منه من حمق وسفه وطغيان، لكن، لات حين مندم. ومع خروج الأنفاس الأخيرة من جسد ذالك الملك البائس، كانت الإمبراطورية الساسانية المجوسية هي الأخرى تلفظن أنفاسها الأخيرة بعدما عمرت لأكثر من ألف سنة، وأضاءت شمس الإسلام على تلك البلاد التي لطالما حُكمت بالظلم والقهر.
18- الرثاء الوحيد
حمل الماء جثة آخر أكاسرة الأسرة الساسانية يزدجرد حتى فوهة الرزيق فتعلق بعود. وكان مطران مرو رجلاً نصرانيا وقد بلغه مقتل يزدجرد فجمع من كان قبله من النصارى وقال لهم: ( إن ملك الفرس قد قُتل، وهو ابن شهريار بن كسرى، وإنما شهريار ولد شيرين المؤمنة التي عرفتم حقها وإحسانها إلى أهل ملتها من غير وجه، ولهذا الملك عنصر من النصرانية مع ما نال النصارى في ملك جده كسرى من الشرف، وقبل ذالك في مملكة ملوك أسلافة من الخير، حتى بنى لهم بعض البيع وسدد لهم بعض ملتهم، فينبغي لنا ان نحزن لقتل هذا الملك من كرامته بقدر إحسان أسلافه وجدته شيرين، كان إلى النصارى، وقد رأيت أن ابني له ناووساً "ضريحا" وأحمل جثته في كرامة حتى أواريها فيه ).
فقال النصارى: ( أمرنا لأمرك أيها المطران نتبع، ومحن لك على رأيك هذا مواطئون ). فأمر المطران فبني في جوف بستان المطارنة بمرو ضريحا، ومضى بنفسه ومعه نصارى مرو حتى استخرج جثة يزدجرد من النهر وكفنها في طيلسان له معطر بالمسك وجعلها في تابوت من الخشب، وحمله ومن كان معه من النصارى على عواتقهم حتى أتوا به قبره فواروه فيه وردموا بابه.
هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا انت استغفرك واتوب إليك
تعليق