- د. محمد بن صقر السلمي - خبير في الشؤون الإيرانية
كشرت إيران عن أنيابها الطائفية في المنطقة بعدما فشلت في استخدام القوة الناعمة التي اعتمدتها منذ سنوات لتحقيق ما عجزت عنه في المنطقة «القوة الصلبة» أو العسكرية للتوغل والتدخل في دول الجوار العربي عندما اصطدمت بعد ثورة 1979 مباشرة، مع العراق ونجم عن ذلك حرب استمرت 8 أعوام (1980-1988م)، مما جعلها تعيد النظر في وسائل تصدير الثورة وتنفيذ مشاريعها الاستراتيجية في منطقة الجوار العربي، مما قادها إلى الخطة «ب» متمثلة في استخدام أداة القوة الناعمة لتحقيق ما فشلت القوة الصلبة في تحقيقه، وهي في واقع الأمر السياسة والأداة التي تستخدمها في عراق ما بعد صدام حسين مع عدم تغييب القوة الصلبة بشكل كامل.
منذ وصول التيار «الإصلاحي» إلى منصب الرئاسة ممثلا في الرئيس الأسبق سيد محمد خاتمي، بدأت طهران تركز على الانفتاح على العالم ودول الجوار العربي تحديدا، من خلال استخدام القوة الناعمة والدبلوماسية الاقتصادية والثقافية كوسيلة لذلك الانفتاح.
هذا الانفتاح توج بالأحداث على الساحة اللبنانية.
صنعت إيران لها شعبية كبيرة في الشارع العربي بعد حرب يوليو 2006، وتحسنت صورتها كثيرا في الأوساط العربية خاصة بين بعض شرائح المجتمع التي يغلب عليها العاطفة الجيّاشة وتعطشها للانتصارات على الكيان الصهيوني الذي يحتل الأرض ويقتل الشعب في فلسطين المحتلة.
واستمرت هذه الصورة الإيجابية لإيران حتى جاءت موجة الثورات العربية أو ما يسمى بـ»الربيع العربي».
أيدت إيران الثورات العربية في تونس ومصر واليمن وليبيا ودعت بقية الشعوب العربية خاصة في منطقة الخليج العربي، إلى الالتحاق بهذه الموجة التي صورتها طهران بأنها امتداد للثورة الإيرانية التي حدثت في عام 1979، وأطلقت عليها مسمى «الصحوة الإسلامية».
نعم، لقد ركبت إيران موجة الثورات العربية، عدا السورية، وتم صياغة الخطب والخطابات السياسية بطريقة ذكية لجذب مخيلة الشعوب العربية السنية نحو النموذج الفارسي الشيعي.
- الصحوة الإسلامية
في لقاء جمعه بقيادات القوات الجوية الإيرانية في 8 فبراير 2012، تحدث مرشد الجمهورية الإيرانية علي خامنئي عما يسمى بالربيع العربي واصفا إياه بـ»الصحوة الإسلامية».
وقال «إن القيم الإسلامية تتحرك نحو هوية حقيقية وراسخة وقوية يمكن تمييزها في وجه الاستبداد»، مضيفا أن «الشعارات التي كان الشعب الإيراني يرفعها انتشرت اليوم في المنطقة، والدول التي كانت تتبع الجبهة المتغطرسة أصبحت الآن تقف إلى جانب الشعب الإيراني وتردد شعاراته ومطالباته وفق ديمقراطية إسلامية وليست غربية».
- أولوية الإجهاض
وتأكدت طهران بأن معظم الشعوب العربية أصبحت أكثر وعيا وإدراكا للعبة الإيرانية وأن القوة الناعمة لم تعد تجدي نفعا فتوجهت نحو التركيز على الصراع المذهبي الطائفي من خلال إعمال هذا العنصر في العراق وسوريا ولبنان وتحريك جماعات وأحزاب مسلحة كحزب الله اللبناني في لبنان وتدخله في الصراع القائم في سوريا، وكذلك الجماعات الحوثية في اليمن والميليشيات الشيعية في العراق.
إضافة إلى ذلك، ركزت إيران على إثارة الأقليات الشيعية في دول الخليج العربي خاصة في البحرين والسعودية.
في هذا الاتجاه استماتت إيران في محاولاتها تصوير الثورتين السورية والعراقية بصراع طائفي تقوده القاعدة والجماعات التكفيرية وتستهدف الشيعة والأقليات الدينية في الشرق الأوسط وقد يصل لهب هذه النار إلى دول الاتحاد الأوروبي.
إن ثورة الشعب السوري ضد نظام بشار الأسد ثم التطورات على الساحة العراقية واقتراب النار من ثياب إيران، أسقطت ورقة التوت الإيرانية «الناعمة».
لقد كانت إيران ولا تزال تسعى إلى إجهاض هاتين الثورتين، فلم يقف دعمها عند المال والعتاد بل تجاوز ذلك إلى تورط عسكري على الأرض من خلال مجموعات الحرس الثوري وفيلق القدس تحديدا وكذلك ميليشيات «أبو الفضل العباس»، و»عصائب أهل الحق»، و»فيلق ذو الفقار» وغيرها من المجموعات المسلحة المحسوبة على طهران.
وشاهد الجميع مقاطع الفيديو التي تظهر جميعها، قتال الجنود الإيرانيين إلى جانب النظام السوري بل وإدارة المعركة على الأرض وقيادتهم لفصائل من الجيش السوري أيضا.
وعلى الساحة العراقية، نجد أن إيران متورطة هناك أيضا وقد فضح ذلك خسارة طهران العديد من جنودها وطياري الحرس الثوري في العراق.
- حقائق دامغة
وهذه الحقائق الدامغة أثرت بشكل مباشر، في صورة إيران لدى الشعوب العربية إذ برز وجه السياسات الطائفية والتهييج المذهبي متزامنا مع محاولات الجانب الإيراني، على المستويين الرئاسي والقيادي، للعزف على وتر محاربة الإرهاب العالمي في محاولة واضحة للتقرب من الدول الغربية، والولايات المتحدة الأمريكية تحديدا، تحت مظلة محاربة الإرهاب والتطرف.
والأخطر من ذلك تجاهل القوى الغربية للإرهاب الإيراني المنظم والمرتبط بشكل مباشر بالنظام الإيراني ممثلا في فيلق القدس التابع للحرس الثوري والميليشيات الشيعية المدعومة ماليا وتدريبيا من قبل طهران.
والأمر المثير للدهشة، أن الحكومة الأمريكية لا تزال تتقرب من النظام الإيراني وحكومة الرئيس حسن روحاني وهناك تصريحات متبادلة ومتناغمة حول ضرورة تعاون واشنطن وطهران في مجال مكافحة الإرهاب، بينما صنفت لجنة السياسة الخارجية في الكونجرس الأمريكية أخيرا إيران كأكبر دولة داعمة للإرهاب المنظم في العالم.
وعلى الجانب الغربي، يبدو أن التصعيد الطائفي في المنطقة يخدم مشاريع سياسية لقوى كبرى تستهدف المنطقة واستقرارها وبالتالي يمكن أن يدفع الصراع الطائفي إلى إنجاح هذه المشاريع والتعجيل بتحقيقها على أرض الواقع إن لم تتنبه دول المنطقة لذلك وتعمل على إفشالها قبل استفحال الأمر.
ولعل ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) أحد الأدوات الحديثة للمخططات السياسية التي تطبخ ضد المنطقة.
- علاج التجاهل
تستطيع دول المنطقة توظيف خسارة إيران ورقة القوة الناعمة من خلال إفشال مشروعها البديل وأعني هنا المشروع الطائفي.
تفتقر إيران لعناصر بديلة في المنطقة العربية، فليس هناك ثقافة مشتركة كبيرة أو عنصر لغوي أو عرقي (إثني) وتختلف عن دول الجوار العربي بتبنيها رسميا المذهب الشيعي الإثناء عشري بينما يطغى المذهب السني على معظم دول الجوار العربي والإسلامي.
لذا فيجب على المندفعين العرب نحو ركوب موجة التهييج الطائفي إعادة النظر في مواقفهم والتفكير مليا في مدى جدوى هذا الانقياد خلف المشروع الإيراني – بوعي أو بدون وعي- والتركيز على أن الخلافات مع طهران سياسية في المقام الأول وإن حاول النظام الإيراني إضفاء الصبغة المذهبية عليها لكسب مؤيدين في الداخل العربي وتجنيدهم ضد أوطانهم بدعوى انتهاك حقوق الشيعة ونحو ذلك.
بعبارة أكثر دقة، تهميش النزعة الطائفية ومحاربتها بل وتجاهلها تماما يؤدي إلى انكفاء إيران إلى الداخل ومواجهة استحقاقات داخلية كثيرة وحاسمة حاولت طهران الهروب منها إلى الخارج لأكثر من ثلاثة عقود تحت فزاعة العدو الخارجي ولكن لا بد في نهاية المطاف من هذه المواجهة المصيرية.
تصعيد واستحقاقات داخلية وخارجية
إن انحسار القوة الناعمة الإيرانية في المنطقة العربية والإسلامية وإفشال مشروع طهران الطائفي يقود في نهاية المطاف إلى مواجهة إيران لمشاكلها الداخلية، خاصة إذا تم سد كل الثغرات التي تتسرب من خلالها إلى الداخل العربي والعالم الإسلامي السني.لقد جاءت التحركات المكثفة للجماعات السنية المسلحة في إقليمي «كردستان» و»سيستان وبلوشستان» واستهدافها لأعضاء حرس الحدود والحرس الثوري الإيرانيين، مربكة للنظام الإيراني خاصة بعد قيام جيش العدل البلوشي باختطاف خمسة من أعضاء الحرس الثوري الإيراني في المناطق المتاخمة للحدود الإيرانية الباكستانية، وكذلك موجة الإعدامات وأحكام المؤبد السياسية التي نفذها النظام الإيراني ضد السجناء الأكراد والعرب.
كذلك تهمة التأثر بالحركة «الوهابية» أصبحت التهمة الرئيسة لأبناء السنة والجماعة في إيران، بل وتعدى الأمر إلى قيام أمين لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني باتهام السعودية بشكل مباشر وصريح بتحريك الجماعات البلوشية المسلحة.
من جانب آخر، أدى اضطهاد الشيعة العرب في إقليم خوزستان (عربستان) وسلبهم حقوقهم الثقافية والسياسية والخدمات الحيوية في مدنهم وقراهم الغنية بالنفط إلى المزيد من الصراع بين الأحوازيين والسلطة المركزية في طهران، كما برزت موجة تسنن بين العرب في إيران ولعل من أبرز أسباب هذا التحول أن انتماءهم المذهبي لم يشفع لهم أمام النزعة العرقية القومية الفارسية.
وفي المجمل، تحاول إيران تارة إخماد أي تحرك داخلي خاصة للشعوب غير الفارسية داخل جغرافية إيران وتفضل تارة أخرى التهدئة خشية تحرك شعبي على المناطق التي تقطنها أقليات عرقية ومذهبية، مما قد يصعب على النظام السيطرة عليها بسهولة بسبب طبيعة الأرض الوعرة ومتاخمتها للمناطق الحدودية مع باكستان وتركيا والعراق، لذا فإن قيام النظام بمطاردة هذه المجموعات داخل حدود تلك الدول خاصة باكستان والعراق قد يقود إلى توتر في العلاقات معها، لا سيما في مثل المستجدات التي تعصف بدول الجوار الإيراني خاصة العراق وأفغانستان.
- الصورة الإقليمية
تحولت الصورة الإيجابية لإيران - خاتمي إلى صورة سوداوية دموية طائفية لدى معظم من انخدع بإيران في السنوات الماضية، على الرغم من وصول رئيس يوصف بالمعتدل إلا أن تعقيدات السياسة الخارجية والتطورات على الساحة الإقليمية أكبر بكثير من نجاح القوة الناعمة والسياسات «الثعلبية».
ففي أفغانستان، فشلت قوة إيران الناعمة في النموذج الأفغاني حين دعمت إيران الأقلية الشيعية (الهزارة) هناك والتي تشترك معها في الجانب اللغوي والديني والثقافي بالكتب والقنوات التلفزيونية والأفلام وبرامج ثقافية تبادلية ومنح دراسية لأبناء الأقلية طيلة السنوات التي أعقبت سقوط نظام طالبان في عام 2001، إلا أن ذلك كله لم يقنع المجتمع الشيعي في أفغانستان بسبب مخاوفه من عودة حكومة طالبان وبالتالي فضّل دعم القوات الأجنبية بدلا من منح فرص أكبر لإيران وترويج ثقافة معاداة الغرب.
وعلى المستوى العربي، أسهمت حقيقة خسارة ورقة القوة الناعمة في تراجع الصورة الإيجابية لها وانتشر عداء واضح بين الشعوب العربية تجاه إيران بسبب تورطها في قتل الشعبين السوري والعراقي باصطفافها إلى جانب النظامين الحاكمين هناك وتورطها أيضا عسكريا على الأرض.
ويستمر تراجع صورة إيران على المستوى الإقليمي والدولي بعد وصول الرئيس روحاني إلى السلطة حيث لم يستطع بسياسته الانفتاحية أن يحسّن صورة بلاده في الخارج.
ويشير تقرير ميداني نشر في يوليو الماضي للمركز الأمريكي «بيو /Pew» للأبحاث، إلى أن صورة إيران في المنطقة اهتزت وتنامت النظرة السلبية تجاهها بشكل ساحق في عدد من البلدان لا سيما مع مشاطرة أغلبية دول منطقة الشرق الأوسط وذلك مقارنة مع الوضع الذي كان سائدا قبل ست سنوات.
وتحاول إيران تعويض ذلك بالتركيز على الجانب الدبلوماسي بدلا من التصادم مع الغرب من خلال نجاحها في الوصول إلى اتفاق موقت مع القوى العظمى فيما يتعلق ببرنامجها النووي والذي يستهدف كسب الزمن لإنتاج السلاح النووي وبالتالي الدخول للنادي النووي الدولي.
إضافة إلى ذلك تلعب إيران بورقة أخرى وهي عزفها، إلى جانب الدول الغربية، على نغمة الإرهاب والجماعات الإرهابية في سوريا مما أدى إلى تقارب ملحوظ قد يزداد خلال الفترة القليلة المقبلة، خاصة إذا نجحت طهران في الوصول إلى اتفاق دائم حول ملفها النووي بعد أن تم تمديد الاتفاق المبدئي لمدة أربعة أشهر.
الإشكالية التي قد تضع إيران في موقف محرج مع الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية تتمحور حول الخلاف الجاري بين روسيا وتلك الدول فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية الأمر الذي قاد روسيا إلى التلويح أكثر من مرة بورقة الاتفاق مع إيران في حالة تأزم الأمر في العلاقة بين الطرفين خاصة بعد حادثة إسقاط طائرة ركاب ماليزية في الأجواء الأوكرانية وتوجيه أصابع الاتهام نحو روسيا والقوى المتحالفة معها في الداخل الأوكراني.
تعليق