أثناء الهجوم الصهيونى الأخير على غزة, طالب الليبيون القذافى فى مسيرات التضامن مع الشعب الفلسطينى بالجهاد.. فتحمس الشعب الليبى ووقوفه دائماً فى إطار إمكانيّاته إلى جانب إخوته العرب, شئ معروف والحمد لله. ولكن ماهى إمكانيات ليبيا ؟ عدى الأغذية والادوية. ان اى تدخل عسكرى حتى اذا اقتصر على التزويد بالاسلحة يجلب حتماً الحرب الى ليبيا.. وهنا يطرح نفسه السؤال: هل فى إستطاعة القوات المسلحة الليبية الدفاع عن الوطن ؟. الجواب بسيط جداً. فسياسة القذافى فى النطاق العسكرى لا تختلف كثيرا عن بقية النطاقات ـ ولكن لنبدأ بالتدريج ونسافر خلال الزمن الى المنطلق.
{السيد (Sir) محمد إدريس السنوسى, أمير عربى, رفيع, طويل القامة, وقف يوم 24.12.1951, الساعة 12.01, فى غرفته الغير مؤثثة فى قصره ذو الطابقين فى مدينة طرابلس المتدمرة من جرّاء الحرب امام مكبّر الصوت, ليعلن لشعبه بصوت رفيع صادع إستقلال المملكة المتحدة الناشئة حديثا من تريبوليتانيا (طرابلس), سيرينايكا (برقة) وفزان. بحوالى 1.150.000 نسمة (10% أعمى, 20 % نصف أعمى و92 % أمّييين), 3 مليون نخلة تمر, 1.4 مليون خروف/ معزة, 70.000 رأس بقر, 92.000 جمل و2000 خنزير ـ إحدى أفقر الدول على وجه الآرض (على مساحة تغطيها الرمال تعادل 3 مرات مساحة فرنسا). فى الوقت الذى كان يحاول فيه بعض الموظفين شق طريقهم خلال الحشد الشعبى على الساحة القديمة, لتوزيع صور الملك ونص الإستقلال, ظرب جنود السلاح الجوى الأمريكى على مدى ساعة كاملة 101 طلقة تحية مدفعية. ضجيج الطائرات الأمريكية القالعة و الحاطة على قاعدة (Wheelus) القريبة, غطّى مرّات عديدة على مكبّرات صوت إعلان الملك إدريس. وصف شعور الشعب فى ذلك اليوم احد أعضاء الشرطة البريطانية التى كانت تقوم بالمحافضة على النظام فى الشوارع ورعاية المتجمّعين بقوله: "90 % من الشعب لا يدرى حتى ان الدولة اصبحت مستقلّة"}.
هذا ما كتبته مجلّة الدير شبيقل Der Spiegel الألمانية فى عددها الصادر فى 02.01.1952 صفحة (15) عن ذلك اليوم المبارك.
لم يكن امام حكومة دولة الإستقلال فى ذلك الوقت من خيار سوى التعاهد مع بريطانيا و الولايات المتحدة لبناء الدولة وحمايتها, مقابل السماح بإنشاء قواعد عسكرية لهم فى ليبيا. بالإظافة إلى المساعدات المالية والإدارية, بدأت بريطانيا والولايات المتحدة فى بناء وتدريب الجيش الليبى.
فى أوائل ستينات القرن الماضى كان تعداد الجيش الليبي حوالى 10.000 جندى مسلّحين ببعض الاسلحة الثقيلة منها بعض الطائرات المقاتلة من نوع F-5A, بعض المدافع وعدد من السيارات المصفحة الإنجليزية الصنع. ولكن مع بداية التحسن المالى عن طريق النفط, بدأت حكومة المملكة فى التخطيط لتقوية وتوسيع القواب المسلّحة الليبية. فأبرمت قبل الإنقلاب العسكرى فى 01.09.1969 عقود بزيادة عدد طائرات ال F-5 التى كان يتقن قيادتها الطيارين الليبيين وإستيراد 15 طائرة Mirage5 و188 دبابة مقاتلة من نوع Chieftain وصواريخ مضادة للطيران من نوع Thunderbird و Rapier.
لقد كانت سياسة الخطوات الصغيرة الحكيمة , لبناء القوات المسلّحة فى العهد الملكى ، بدون شك الطريق السليم والمناسب لتعداد الجنود وكفاءتهم وتهدف بالدرجة الأولى للدفاع عن الدولة.
بعد الإنقلاب العسكرى فى 01.09.1969 بدأت السياسة العسكرية الهمجية . فبدلاً من الإستمرار فى سياسة العهد الملكى والبناء التدريجى للقوات المسلحة, بدأ القذافى فى ملاحقة طموحاته الخيالية وأفكاره الخالية من أى أساس واقعى. فعمل على تفكيك المعاهدات الليبية/ الغربية بحجة تخليص ليبيا من التعلق بالغرب, مما أدى إلى فقدان القوات المسلحة الليبية إلى أكبر وأقوى حلفائها وأثر سلبياً على تدريبها وكفاءتها.
سياسة القذافى العشوائية, وجنونه بلقب رائد القومية العربية, وأنه سيكون الرئيس العربى الذى يستطيع ان يهزم إسرائيل وإعتقاده بأن تكديس الاسلحة الهجومية هو الطريق لبناء جيش قوى يهزم به إسرائيل وغيرها, جعلته يقوم بعد انقلاب 1969 مباشرة برفع عدد استيراد الطائرات الفرنسية المقاتلة وإلغاء عقد حكومة العهد الملكى مع بريطانيا لإستيراد الاسلحة المضادة للطيران [بحجة ان ليبيا موجودة بين اصدقاء عرب ولا تحتاج الى اسلحة دفاع جوى مثل ال Thunderbird ولكن بالطائرات المقاتلة يمكن مهاجمة اسرائيل] وبدلا من دبابات ال Chieftain الإنجليزية تم استيراد دبابات من الإتحاد السوفييتى.
بعد حرب اكتوبر اى ابتداءا من منتصف سبعينات القرن الماضى, ازداد التقارب والتعامل مع الاتحاد السوفييتى.. الاستيرادات العسكرية الهائلة منه, التى كانت احيانا موازية للاستيرادات العسكرية من فرنسا, وصلت فى تلك الفترة الى ارقام خيالية.
منذ بداية ثمانينات القرن الماضى وعلى مدى 10 سنوات استوردت ليبيا اكثر من 2500 دبابة مقاتلة واكثر من 500 طائرة مقاتلة. لم يكن فى استطاعة القوات المسلحة الليبية فى اى وقت كان استيعاب هذه الكمية الضخمة من الاسلحةـ فالكفائة العالية اللازمة لصيانتها واستعمالها تفوق بكثير امكانيات القوات المسلحة الليبية.. ونظرا لمقولة (جاء اللجام ومازال الفرس) خرج القذافى على الشعب الليبي بمشروع الشعب المسلح لزيادة تعداد القوات المسلحة من 50.000 جندى (اول الثمانينات) الى حلمه الخيالى من 500.000 جندى. فى جنونه الخيالى الى الوصول الى جيش كبير وقوى فى اسرع وقت, دعى القذافى الى متطوعين من شتى الدول للدخول فى القوات المسلحة الليبية... ولكن دون جدوىـ فقد وصل تعداد القوات المسلحة فى منتصف تسعينات القرن الماضى حوالى 70.000 جندى. على الرغم من ذلك استمر القذافى فى استيراداته العسكرية. الى جانب الاستيرادات من الاتحاد السوفييتى وفرنسا , كانت هناك استيرادات عسكرية من ايطاليا والبرازيل.
لصيانة وتشغيل كميتها الهائلة من الاسلحة, كانت ليبيا دائما فى امس الحاجة الى الخبراء العسكريين الاجانب من (الاتحاد السوفييتى, المانيا الشرقية, كوريا الشمالية, الصين, فرنسا, ايطاليا.. الخ).
الاسلحة الاكثر تعقيدا مثل الطائرات المقاتلة, كان يقودها اغلب الاوقات طيارين من المرتزقة. إن استعداد وكفائة القوات المسلحة الليبية فى اى وقت مضى, كانت على الرغم من المساعدة الاجنبية فى كل المجالات العسكرية, حتى بالنسبة للدول العربية ـ من اسوأ ما يكون.
احد اهم العوامل التى دمرت كفائة و فعالية القوات المسلحة الليبية, هو ما قام به القذافى من تغييرات فى اواخر سبعينات القرن الماضى خوفا من انقلاب عسكرى، ادت الى تقسيم القوات المسلحة الى وحدات صغيرة يتحكم فى قيادتها اشخاص من اللجان الثورية اغلبهم لا يحمل حتى الشهادة الاعدادية.. على الرغم من وجود شخصيات ذات خبرة عسكرية جيدة فى صفوف القوات المسلحة الليبية.
حرب الحدود القصيرة مع مصر فى سنة 1977, حرب تشاد والتصادمات مع الولايات المتحدة الامريكية تعطى صورة واضحة عن فعالية القوات المسلحة الليبية, التى اكدت بهجماتها العشوائية على طائرات امريكية فى ثمانينات القرن الماضى على فقرها لكل تقدير واقعى لإمكانياتها, وعدم كفائة قيادتها ومخاطرتها بسلامة الشعب الليبي.. ليتشدق بعدها القذافى بأن ليبيا قد وقفت فى وجه الولايات المتحدة.
خير دليل على عدم امكانية شراء القوة العسكرية الفعالة, نراه فى حرب تشاد التى انتهت فى ورطة بعد تكبّل القوات الليبية بأسلحتها الحديثة خسائر عالية فى عدة اشتباكات مع خصم اضعف منها آلياً وبشريا وارغم القذافى فى عام 1987 الى مد يده طالبا للسلام .. فلا يفيد القذافى شراء وتكديس احدث انواع الاسلحة شيئا, لأن القوة العسكرية الحقيقية والفعالة, تكمن بالدرجة الاولى فى كفائة الجنود واستعدادهم للقتال ـ ولكن كيف يمكن لجندى مثل أنويرى فرج أنويرى ان يقاتل لدولة يعيش فيها مع زوجته وخمس اطفال فى حفرة وترغمه الظروف لقيادة سيارة أجرى ليعيّش عائلته. http://www.almanaralink.com/new/inde...id=4&nid=13915
استمرت استيرادات الاسلحة فى اواخر ثمانينات القرن الماضى, التى لم تعوض خسائر حرب تشاد . الى جانب بعض الدبابات المقاتلة استوردت ليبيا عدد قليل من الطائرات المقاتلة من نوع (Su 24) السوفياتية, التى كانت آخر الاستيرادات العسكرية.
منذ منتصف تسعينات القرن الماضى بدأت آثار التدهور الاقتصادى فى ليبيا التى زاد من حدّتها الحصار الذى فُرض على الدولة إثر عملية لوكربى, وإنهيار الاتحاد السوفييتى. لذلك تعتبر القوات المسلحة الليبية, التى كانت دائما ناقصة الكفائة والاستعداد اليوم فى أسوأ حالاتها منذ تأسيسها..
الجزء الثاني
لقد تحدّثنا فى الجزء الأوّل عن القوّات المسلّحة الليبية بصفة عامّة وعن نشأتها فى الوقت الذى كانت فيه الدولة الليبية إحدى أفقر الدول على وجه الأرض، ثم عن السياسة الهمجيّة التى عاشتها منذ الإنقلاب العسكرى فى عام 1969... سنحاول فى هذا الجزء تسليط الضوء على أجنحة القوات المسلحة الليبية المختلفة، وإعطاء صورة واضحة عن حالتها المُرثية.
السلاح الجوي الليبي في الستينات |
فى عام 1959 تحصّل الجيش الليبى على أول طائرات للسلاح الجوّى لم تكن طائرات مقاتلة وإنما كانت (4) طائرات للتدريب والإتصال ذات محرّك واحد. اثنان منها Gomhourial-Bü181 واثنان Auster AOPMK.6.
إستمر توسيع السلاح الجوى بمساعدة بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.. إلى جانب طائرات النقل C-47 والطائرات المروحية الفرنسية Alouette II تحصل السلاح الجوى فى أوائل ستينات القرن الماضى على أوّل طائرات نفّاثة ـ 12 (T-33).. ولكن أكبر تقدّم للسلاح الجوى آنذاك كان حصوله فى عام 1968 على 10 طائرات F-5A/B. وصل عدد جنود السلاح الجوى فى أواخر ستينات القرن الماضى إلى 300 جندى منهم 33 طيّارا.
قام القذافى بعد إغتصابه للحكم فى عام 1969 وإلغائه كما ذكرنا فى الجزء الأول لعقود حكومة المملكة لإستيراد المزيد من طائرات الـ F-5A/B والصواريخ المضادّة للطائرات، برفع عدد الطائرات المقاتلة الأرضية Mirage-5 والتى كان مطلوب إستيرادها من حكومة المملكة، من 15 إلى 110 طائرة.. بذلك كان للسلاح الجوى جانب هجومى قوى فى الوقت الذى أُهمل فيه الجانب الدفاعى الأكثر أهمّية.
فى ربيع وصيف عام 1973 بدأ السلاح الجوى الليبي فى نقل طائرات الـ Mirage-5 إلى المطارات المصريّة للمشاركة فى حرب 1973 ـ ولكن بدون نجاح يُذكر وأُسقط معضمها. بدأت السياسة الليبية العسكرية بعد ذلك فى الإتجاه إلى الإتحاد السوفيتّى، الذى إستوردت منه منذ منتصف سبعينات القرن الماضى أعداد كبيرة من الطائرات الحديثة: حوالى (80) MIG-21، أكثر من (160) MIG-23 ما بين مقاتلة جوّية وأرضيّة، أكثر من (50) MIG-25، حوالى (100) SU-22، حوالى (12) TU-22 وفى عام 1989 عدد صغير من طائرات SU-24 إلى جانب (30) Mirage F-1 الفرنسية التى إستوردت فى أواخر سبعينات القرن الماضى. بإستيراد طائرات Mirage-F1, MIG-25 وMig-23 راعت ليبيا نوعًا ما الجانب الدفاعى.
فى الوقت الذى إقتصر فيه إستيراد الطائرات المقاتلة على الإتحاد السوفيتى وفرنسا تعدّدت مصادر إستيراد طائرات التعليم والتدريب.. مثل Magister من فرنسا، L-39 من تشيكوسلوفاكيا، Galeb من يوغوسلافيا وعدد كبير SF-260 من إيطاليا.
تعددت أيضاً مصادر إستيراد الطائرات المروحيّة ، التى ينتمى جزء منها إلى المشاة و جزء آخر للسلاح البحرى. بصفة عامة تملك ليبيا اليوم حوالى 50 طائرة مروحيّة مقاتلة من نوع (Mi-24).
فى مجال النقل الجوى، تحصّلت ليبيا بعد إنقلاب 1969 بفترة قصيرة, إلى جانب طائرات (C-47) القديمة والتى إستمرّ إستخدامها حتى أوائل ثمانينات القرن الماضى, على 8 طائرات (C-130) من الولايات المتحدة الامريكية ثم تراجع الامريكان عن تصدير بقية العدد المتفق عليه، على الرغم من دفع ليبيا لثمنها (تحصّلت ليبيا فى وقت متأخر على بعض الطائرات للنقل المدنى من نوع L-100. لهذا تم إستيراد طائرات نقل من إيطاليا من نوع G-222 ومن الاتحاد السوفيتى من نوع II-76 وA-26. اليوم تملك ليبيا عدد لابأس به من طائرات النقل الجوى.
إحدى مشاكل السلاح الجوى الليبي، كانت دائما ومازالت هى صيانة وتشغيل هذه الكمية من الطائرات المختلفة الأنواع. على سبيل المثال ـ طائرة ال (Mirag-5) التى عانى السلاح الجوى من مشاكل صيانتها وتجهيزها منذ إستيرادها، فقد بدأت المشاكل حتى فى تدريب فريق التجهيز، عندما نجح فى الإمتحانات النهائية اللازمة فقط 15% من الفنيين الليبيين الذين كانوا يبعثون حتى بداية عام 1974 إلى فرنسا للتدريب. لذلك كان السلاح الجوى الليبي دائما مرغوماً على الإتّكال على الخبراء الأجانب.
يحتدّ تعلّق السلاح الجوى الليبي بالخبرة العسكرية الأجنبية وإتّكاله عليها ـ فى الصيانة الدوريّة المعقدة المربوطة بساعات الطيران، والتى خرجت عن نطاق فريق التجهيز وإقتصرت إمكانية القيام بها على الشركة المُصنِّعة أو شركات مُرخصة منها.
مما زاد فى سوء وضع السلاح الجوى ، هو سياسة القذافى العشوائية، المُتقلّبة والإرهابية التى أدّت إلى رفض عدد من الدول القيام بصيانة طائرات السلاح الجوى الليبي.. وبسبب الحصار الناتج عن حادثة لوكربى، فقدت ليبيا حتى حليفها الأخير الإتحاد السوفيتى. كان هناك إمكانية للقيام ببعض أعمال الصيانة أو الحصول على بعض قطع الغيار، ولكن بسرّية تامّة مع محاولة تفادى الحصار وبأسعار خيالية.
المشكلة الأخرى التى لاتقل صعوبة عن الصيانة والتجهيز هى مشكلة الطيارين. فى العهد الملكى ـ حتى أواخر ستينات القرن الماضى، كان عدد الطيارين فى السلاح الجوى الليبي حوالى 33 طياراً.. عدد قليل، ولكن بالنظر إلى الظروف التى نشأ فيها الجيش الليبي يُعتبر عدد لابأس به، زيادة على ذلك كان الوضع فى تحسّن مستمر. بعد الإنقلاب العسكرى فى عام 1969، أُقيل عدد من الطيارين الغير موثوق فيهم سياسيا ورُفع (دليل للتناقض) عدد الطائرات. عندما وصلت فى منتصف سبعينات القرن الماضى ال 110 (Mirage-5) ، كان لدى السلاح الجوى 25 طياراً على الأكثرـ فى الوقت الذى كان يحتاج فيه إلى 200 طيّار على الأقل .. ولكن هذه نموذجية سياسة القذافى العشوائية الذى كان يتخذ القرارات الناتجه عن أحلامه ، واضعاً الشعب الليبي أمام الأمر الواقع، ليُرغمه على تجنيد كل الإمكانيات لتحقيقها ثم تُهدر الأموال فى محاولات بائسة للتقليص من الخسائر الناتجة عنها. لذلك بعث السلاح الجوى فى محاولة لتغطية حاجته من الطيارين، بالكثير من المتدرّبين حتى الغير مؤهّلين إلى مختلف الدول مثل الإتحاد السوفيتى، فرنسا، يوغسلافيا، اليونان، الباكستان، ألمانيا وسويسرا (الأخيرتين للتدريب على الطائرة المروحية) ولكن دون جدوى.
لم يستطع السلاح الجوى الليبي يوما التخلّى عن الطيارين الأجانب، فشغّل طيارين من الإتحاد السوفيتي، كوريا الشمالية، سوريا، الباكستان، طيّارين فلسطينيين وحتى أمريكان. محاولة التدريب داخل ليبيا بمساعدة خبراء أجانب وإستيراد طائرات التدريب (SF-260) من إيطاليا ، كانت نتيجتها أيضا متواضعة.
إلى جانب مشكلة السلاح الجوى الليبي فى العدد القليل للطيارين، تأتى مشكلة عدم كفاءة الطيارين الليبيين. فى أغسطس 1981 قام طيّاران ليبيّان على متن طائرتين من نوع SU-22 بمهاجمة طائرتين أمريكيتين من نوع F-14، مستخدمين صواريخهما المُسيّرة AA-2 بشكل يبعد كل البعد عن الإمكانيات الفنّية لطائرتيهما ثم أُسقط كلاهما كما كان مُتوقع. كان تعليق الأمريكان: "They came at us in a way that indicated they didn’t know how to use their planes"
فى منتصف ثمانينات القرن الماضى كان لدى ليبيا عدد كبير من الطائرات الغير صالحة للإستعمال، زيادة على ذلك نقص كبير فى الفنيين والطيارين. ولكن بدلا من محاولة حل المشاكل الموجودة وغلق ثغرات النقص الواضحة، تطرّق السلاح الجوى الليبي إلى مشروع تعبئة الوقود الجوية لتمكين طائرات السلاح الجوى من الوصول إلى مسافات بعيدة، حيث كان هذا غرض إستيراد طائرات الـ MirageF-1 من فرنسا المهيّأة أصلاً للتعبئة الجوية. كما بعثت ليبيا بطائرتين C-130 إلى الأرجنتين لتغيير بنيتها إلى ناقلة وقود للتعبئة الجوية، ولكن باءت هذه الفكرة بالفشل. أُعيدت المحاولة بطائرتين II-76 ولكن بنجاح متواضع وخسائر باهضة. تحصّلت ليبيا بعد ذلك على طائرة أو إثنين لنقل الوقود من نوع II-78 على أساس II-76 من الإتحاد السوفيتى.
تزويد الطائرات بالوقود جوّياً، عملية فى غاية الدقّة والصعوبة وتتطلّب التدريب المتواصل حتى من اكبر الطيارين خبرة ـ لذلك لا يستطيع السلاح الجوى الليبى القيام بها حتى يومنا هذا.
حالة الجناح الأرضى للسلاح الجوى الليبي لا تختلف كثيراً عن حالة الجناح الطائر. فى بداية سبعينات القرن الماضى إستوردت ليبيا من الإتحاد السوفيتى الصواريخ المضادة للطائرات من نوع (SA-2,SA-3,SA-6) وفى وقت لاحق (SA-5,SA-8).
بالنسبة لنطاق الإنذار المبكّر الحسّاس فلا بُعرف عنه الكثير، فقد كان هناك إتفاق لحكومة المملكة مع الولايات المتحدة الأمريكية لإستيراد (C31-System) للدفاع الجوى، ولكن تم إلغاؤه بعد الإنقلاب فى عام 1969. من المعروف بأنه تم تركيب نظام (Senezh) الروسى فى أوائل ثمانينات القرن الماضى، لدمج نظام صواريخ (SA-5,AS-3,SA-2) فى نظام عام، عدى نظام الصواريخ المتنقلة (SA-8,SA-6). مما يُثير الإهتمام فى السلاح الجوى الليبي هى صواريخ (SA-5) المستوردة فى عام 1985 من الإتحاد السوفيتي و التى تصل إلى مسافة 240 كم وتمكن ليبيا من إستخدامها ضد طائرات ال (AWACS)، طائرات الإستطلاع مثل ال (RC-135)، طائرات النقل والطائرات المدنية.. لذلك كان ينظر الأمريكان إلى صواريخ (SA-5) على أنها قد تشكل خطرا على النقل الجوى وعلى حملات الأمريكان الإستطلاعية فوق البحر المتوسط.. مصر كانت ترى فى صواريخ (SA-5) خطرا على طائراتها للإنذار المبكّر (E2C). بالنسبة لطائرات الأسطول السادس الأمريكى المقاتلة فلم تشكل صواريخ الدفاع الجوى الليبى المُسيّرة خطرا كبيرا عليها، فقد إستطاعت طائرت ال (F-14) تغيير مسار صواريخ ال (SA-2 وSA-5) التى أطلقها عليها الدفاع الجوي الليبي فى مارس 1986 ثم دمّرت بعد ذلك أغلبية مواقعها.
بعد إنتهاء الحصار الناتج عن حادثة لوكربى، كان يجب إعادة النظر فى بنية السلاح الجوى الليبي، إعادة تنظيمه والإبتعاد عن الإستيرادات العشوائية، ولكن (عادت حليمة لعادتها القديمة) فى أوّل فرصة للقذافى أثناء زيارته لفرنسا فى عام 2007 أبرم فيها عقود مع فرنسا بقيمة 10 مليار €. لا نريد أن نعلّق على العقود المدنية بإستيراد 21 (Airbus)، بناء مطار و بعض الشوارع بالإضافة إلى مفاعل ذرّى (سنتحدّث عنه فى مقال خاص) .. ولكن الجدير بالذكر هو عقد إستيراد 35 طائرة مروحية، بالإضافة إلى 14 طائرة مقاتلة من نوع (Rafale) التى لم تنجح فرنسا على مدى السنين ورغم كل محاولات التسويق لها فى بيع حتى طائرة واحدة من هذا النوع ـ و القذافى يوعدهم بطلب المزيد منها. هذه ليست أول مرة تنقذ فيها ثروة الشعب الليبي الشعوب الأخرى من الإفلاس بشراء خردتهم وتكنولوجيتهم القديمة ـ "بهذه العقود نستطيع ضمانة 30.000 مكان عمل لمدة 5 سنوات" ـ (قال زاركوزى).
المستفيد الآخر من ثروة الشعب الليبي إثر سياسة القذافى العسكرية المبنية على محاولاته الدائمة لإرضاء الآخرين وإعجابهم به بغض النظر عن مصلحة ليبيا، هى روسيا، التى عقد معها فى أوّل فرصة أكثر من 20 عقداً تتضمن صواريخ، طائرات MIG-29 وSU-30، طائرات تدريب، طائرات مروحية من نوع MI-17 وMI-35 وKA-52، دبابات T-90، أنظمة صاروخية (الجراد)، بالإضافة إلى غواصات، سفن حربية وزوارق بخارية.
الجيش (المشاة):
كما ذكرنا فى الجزء الأوّل، كان الجيش الليبي (المشاة) فى بداية الحكم الملكى فيما بتعلق بتدريبه وتسليحه بصفة عامة تحت التأثير البريطانى. كان متواضع الحجم والتسليح على الرغم من كونه أهم جناح فى القوات المسلحة الليبية ـ إلى جانب بعض السيارات المصفحة البريطانية الصنع، كان لدى الجيش (6) دبابات مقاتلة من نوع Centurion وعدد صغير من المدافع الميدانية وبعض المضادة للطائرات.
عدد الجنود كان فى أواخر ستينات القرن الماضى أقل من 10.000 جندى... لتعزيز قوتهم أبرمت حكومة المملكة عقد بإستيراد 188 دبابة مقاتلة من نوع (Chieftain) البريطانية ولكن ألغى القذافى إستيرادها بعد الإنقلاب فى عام 1969 متجها إلى الإتحاد السوفيتى الذى إستوردت منه ليبيا على مدى 10 سنوات أكثر من 2500 دبابة مقاتلة من نوع (T-72 وT-62 و T-55 وT-54)، حوالى 2000 سيارة مصفحة وعدد كبير من المدفعيات.. وبحجّة أن لا تكون ليبيا متعلقة نهائيا بالإتحاد السوفيتى، أُبرم عقد مع الشركة الإيطالية (OTO Melara) فى بداية ثمانينات القرن الماضى لإستيراد 200 دبابة مقاتلة من نوع (OF-40) ولكن لم يستلم الجيش الليبي إلا عدد قليل منها.
فى منتصف ثمانينات القرن الماضى وصل توسيع عتاد القوة الميدانية ذروته.. فقد كان لدى الجيش حوالى 3000 دبابة مقاتلة، أكثر من 2000 سيارة مصفحة، 1200 مدفعية ميدانية و600 رامية متعددة للصواريخ ـ فى الوقت الذى كان فيه عدد الجنود لا يزيد عن 55000 جندى ـ وهنا تواجهنا مرة أخرى (كما هو الحال فى السلاح الجوى) مشكلة عدم التناسب بين عدد الجنود وكمية العتاد.. لإستيعاب هذه الكمية من الأسلحة ـ لصيانتها و إستخدامها المثالى، يحتاج الجيش إلى حوالى 150.000 / 200.000 جندى.
فى أواخر ثمانينات القرن الماضى بدأت مظاهر آثار حرب تشاد والتدهور الإقتصادى فى ليبيا ليس فى العتاد فقط، ولكن فى عدد الجنود أيضاً الذى إستمر فى النقص حتى وصل فى منتصف التسعينات إلى أقل من 40.000 جندى. خسائر حرب تشاد فى العتاد حاولت ليبيا تعويضها فى أوائل التسعينات بإستيراد 100 دبابة مقاتلة من نوع T-72 بعض الصواريخ التسيارية من نوع Frog-7 وScud-B بعض المدافع المضادة للطائرات من نوع ZSU-23-4 وصواريخ مُسيّرة من نوع SA-7 وSA-9 وSA-13 وCrotale زيادة على ذلك بعض طائرات النقل المروحية مثل CH-47 وAB-206 وAlouette III.
مما يزيد فى حدّة مشكلة صيانة العتاد هو تعدد أنواعه ومصادره، فى عدم وجود تصنيف فنّى أو توحيد قياسى.. فكان على سبيل المثال لدى الجيش الليبي 9 أنواع من الدبابات من 4 دول مختلفة ( كما هو الحال فى سلاح كل أجنحة القوات المسلحة الليبية), مما أدى غالبا إلى تعويض الاسلحة العاطلة بأسلحة جديدة بدلا من تصليحها. لهذا يُعتبر اليوم أكثر من نصف عتاد الجيش الليبي للأسف مجرّد خردة.
المشكلة الأخرى التى تشكل نقطة ضعف كبيرة وخطيرة فى الجيش الليبى ـ هى مشكلة التعبئة والتموين. المدفعية مثلا، تستخدم فى مجال ال 105/155 ملم 5 عيارات مختلفة.. فإذا كان هناك صعوبات كبيرة للمحافظة على إمداد الوحدات العسكرية فى معسكراتها فى وقت السلم، فسرعان ما ستنهار اللوجستية فى وقت الحرب وتقضى على القوات الليبية. أكبر مشكلة إلى يومنا هذا، هى الوضع على المستوى القيادى الأعلى، حيث تلعب المعطيات السياسية أكبر دورا من القدرة العسكرية.
السلاح البحرى:
تأسس السلاح البحرى الليبي بمساعدة بريطانيا فى عام 1962. كان فى السنوات الأولى عبارة عن وحدات صغيرة (بعض الباحثات عن الألغام و بعض القوارب السريعة) إلى جانب (Corvette)* واحدة من صنع بريطانى.
قبل الإنقلاب العسكرى فى عام 1969 تعاقدت حكومة المملكة مع شركة Vosper Thorycroft فى Portsmouth لبناء فرقاطة. بعكس عقود الإستيراد الملكية الأخرى، لم يلغى القذافى هذا العقد ووصلت الفرقاطة فى عام 1973 إلى ميناء طرابلس. كما هو الحال فى بقية أجنحة القوات المسلحة الليبية، إتجه القذافى بإستيراداته هنا أيضاً بالدرجة الأولى إلى الإتحاد السوفيتى ثم فرنسا وإيطاليا وأحيانا يوغوسلافيا.. فذهبت بعد الإنقلاب طلبيات إلى إيطاليا لإستيراد (4) Corvett من نوع Assad وإلى فرنسا لإستيراد (10) قوارب سريعة من نوع Combattante) وإلى الإتحاد السوفيتى لإستيراد (12) قارب سريع من نوع Osa-II و(4) Corvette من نوع Nanuchka-II وفرقاطة من نوع Koni و(6) قوارب غواصة من نوع Foxtrot إلى جانب (6) قوارب غواصة صغيرة من يوغوسلافيا. كل هذه الإستيرادات، تُعتبر من أصغر الآليات فى عالم السلاح البحرى ولا تُمكّن السلاح البحرى الليبي من القيام بعمليات عسكرية كبيرة، ولكنها نظراً لصغرها وسرعة حركتها تُعطيه على الأقل آلياً إمكانية الـ hit-and-run لذلك كان يُنظر للسلاح البحرى الليبي على أنّه قد يشكل خطرا على النقل البحرى العالمى فى البحر الأبيض المتوسط، ولكن يُنظر له اليوم نظرا للكفاءة البسيطة لجنوده والوضع السئ لآلياته (الغير صالح أغلبها للإستخدام) على أنه قليل الخطورة.
يحتوى السلاح البحرى الليبى أيضا على بعض الطائرات المروحية مثل الـ Alouette-III وSuper Frelon وحوالى (25) Mi-14 ولكن لا يُعرف الكثير عن إستعدادها للإستخدام أو تسليحها، إلا أن أهميتها بالدرجة الأولى تهدف البحث والإنقاذ.
الجزء ثالث
تحدثنا فى (الجزء الأول) عن القوات المسلحة الليبية بصفة عامة. وسلطنا الضوء فى (الجزء الثانى) على بعض نطاقات القوات المسلحة الليبية. وتحدثنا بالتفصيل عن السلاح الجوى، وعن الجيش (المشاة) وعن السلاح البحرى. وسنتحدث فى هذا الجزء الثالث والأخير بإذن الله عن الأسلحة التسيارية، وأسلحة الدمار الشامل وعن الصناعة العسكرية فى ليبيا.
الأسلحة التسيارية:
عدا الصواريخ المضادة للطائرات التى تحدثنا عنها فى (الجزء الثانى)، حاول القذافى منذ بداية سبعينات القرن الماضى الحصول على صواريخ بعيدة المدى.. لإعتقاده بأن كل ما يحتاجه لتهديد إسرائيل وأوروبا وإخضاعهم لكلمته، هو صاروخ برأس نووى بعيد المدى.. متجاهل كل الجهل لقدرة الآخرين على تدمير صاروخه قبل وصوله اذا أراد يوما ضربهم.! وحتى إذا وصل صاروخه إلى هدفه، فسيكون هذا الصاروخ حتما هو آخر ما سيذكره التاريخ عن دولة كانت يوما ما فى شمال افريقيا اسمها ليبيا.
إن إستمرار وجود الشعب الليبى والدولة الليبية، ما هو إلا نعمة من الله سبحانه وتعالى لعدم حصول القذافى على أسلحة بعيدة المد ى من ناحية.. وحرص شركات النفط الأمريكية على ما تعتبره نفطها فى الحقول الليبية من ناحية أخرى.. نعم، هذه هى السياسة الأمريكية.. يمكنك أن تذل شعبك كل يوم، وتستعبده، وتقتل وتسجن منه من تشاء.. هذا كله مقبول.. وأكثر من هذا أيضا، ما دمت لا تعرقل طريق الشركات الأمريكية إلى حقول النفط.. لم ينقطع نصيب الشركات الأمريكية فى النفط الليبى حتى ليوم واحد منذ إكتشافه.. حتى بعد مسرحية "الجلاء" وخروج الأمريكان من ليبيا، كانت تدفع الشركات الألمانية ـ على سبيل المثال ـ ضريبة للشركات الأمريكية عن كل ما تستورده من النفط الليبى.
إن تاريخ السياسة الأمريكية، لملئ بالتداخلات الشيطانية والدموية لإبعاد رؤساء دول ذوى حكمة، عدل، ووطنية، وتبديلهم برؤساء تسرى فى عروقهم الدكتاتورية. ولكن هذا موضوع آخر قد نتطرق إليه مرة أخرى إن شاء الله.
فشل القذافى فى الحصول على أسلحة بعيدة المدى، وعدم قدرته على الإنتظار، وعدم صبره، وعدم إمتلاك نفسه تحت وطأة جلدات سوط الشيطان الممتطى ظهره، جعله يلجأ إلى الكذب والإعلان عن إمتلاك ما يتمنى ملكه. كتبت صحيفة الـ Interntional Herald Tribune فى نوفمبر 1977: "Libya displayed missils yesterday that Tripoli radio said are capable of hitting Israel"
|
Otrag تجارب في زائير |
المحاولات للحصول عليها كانت كثيرة.. منها محاولة بنائها داخل ليبيا بمساعدة فنيين من شركة الـ OTRAG الألمانية (Orbital Transport und Raketen AG)، التى كانت تقوم فى منتصف سبعينات القرن الماضى ببحوث وتجارب على أرض استأجرتها من زائير (تعادل مساحة 1/3 ليبيا تقريبا).. لبناء صاروخ فضائى قليل التكلفة فى الإنتاج لتخفض به تكاليف نقل الأقمار الصناعية إلى الفضاء. ثم بدأت الدول المجاورة لزائير (إثر إعلان الإتحاد السوفييتى عن شكوكه فى الخلفية السلمية لشركة OTRAG فى النظر إلى مشروع شركة الـ OTRAG (الذى كان فعلا فضائيا سلميا) على أنه فى الواقع مشروع لبناء صواريخ عسكرية، وأبدت قلقها إلى أن تكون يوما ما هدفا لهذه الصواريخ، مما أدى إلى إضطرار زائير لحل العقد مع الشركة. خرجت شركة الـ OTRAG من زائير لتدخل فى أحضان القذافى، الذى فرش لها السجاد الأحمر المُزيّن بالعروض المغرية. ولك ن لم تُعجبهذه العلاقة الحكومة الألمانية، التى مارست الضغوط على الشركة، وأرغمتها على الخروج من ليبيا.
Otrag تجارب في ليبيا |
لجأ القذافى بعد كل المحاولات الفاشلة لمشاركة الدول الساعية لصناعة أسلحة تسيارية، بدعمها ماليا للوصول إلى هدفه.. وأبرم لذلك عقدا مع كوريا الشمالية بتمويل مشروع صاروخها Nodong (مدى 1300ـ1500 كم)، مقابل حصول ليبيا على هذه الصواريخ بعد نجاح كوريا فى بنائها وتجريبها وتصنيعها. لقد توصلت الآن كوريا الشمالية لبناء صواريخها، التى يفوق مداها ما كانت تأمل الوصول إليه.. ولكن لا أمل للقذافى مرة أخرى فى الوصول إلى حلمه بسبب المنعطف الثانى (الإنبطاح التاريخى) فى حياته البائسة..! أعتقد بأنه يمكننا تقسيم حياة القذافى البائسة إلى ثلاث حقوبات يفصلها "منعطفان":
الحقبة الأولى:
تبدأ بطفولته التعيسة وحتى "المنعطف" الأول فى حياته عندما أجرم فى 01.09.1969 واعتدى على الدولة وشعبها ودستورها واغتصب سلطة الحكم فيها ـ ولعل الحقبة الأولى من حياته البائسة، هى المسؤولة عن شعوره الدائم بالنقص، وحقده على المجتمع الليبى وكراهيته له.. الله وحده يعلم ماذا جرى للقذافى فى هذه الحقبة ؟ وما الذى أثر فى نفسيته هذا التأثير السلبى ؟ لأن أُمّه فعلا يهودية ؟ أم لأنه لا يعرف إذا ما كان فعلا إبن لطيار كورزيكى ؟ هل لاقى فى طفولته من الإهانة والإستكراد والمعاملة السيئة ما جعله يشعر بأنه من حثالة المجتمع ؟ الله وحده يعلم ماهو السبب، ولكن الشئ الذى نعلمه بالتأكيد، وبدون منازع هو أن هذا الرجل (أو ما شابه ذلك) عدوّ لليبيا وللشعب الليبى.
الحقبة الثانية:
تبدأ بإغتصابه لسلطة الحكم فى ليبيا وحتى "المنعطف" الثانى فى حياته عندما إنبطح ولعق حذاء سيّده جورج بوش (وهو ما أطلق عليه الأمريكان إسم النموذج الليبى) ـ أى الإنبطاح بدون قوة السلاح ـ فى 19.12.2003، بعد 9 أشهر على التمام منذ بداية حرب العراق. فى إمكاننا ايضا أن نؤرخ "المنعطف" الثانى (الإنبطاح) بـ 01.09.2003 ـ مناسبا لـ 01.09.1969، لأن الإنبطاح الحقيقى كان فى سبتمبر وليس فى ديسمبر ـ عندما صرح متحدث رسمى بإسم رئيس الوزراء الإيطالى سيلفيو برليسكونى للـ Daily Telegraph فى سبتمبر 2003 بما قاله القذافى لبرليسكونى، نصّه: "أنا سأفعل كل ما يريدونه الأمريكيون، لأنى خفت بعد مشاهدتى لما حصل فى العراق" ـ راجع المقالة: Beware the "Libyan Model. ويمكننا تسمية الحقبة الثانية بحقبة الإنتقام، التى تقيّأ فيها القذافى على ثوب الكيان الليبى الأبيض.. بكل ما حبسه طوال السنين من حسد وحقد وكراهية، وتفنن فيها بجميع أنواع الإضطهاد، والقهر، والتعذيب، والقتل.
الحقبة الثالثة:
تبدأ من "المنعطف" الثانى (الإنبطاح) وحتى الآن. ويمكننا تسمية الحقبة الثالثة بحقبة الإنبطاح، التى تختلف عن حقبة الإنتقام بإستمرار القذافى فى "حكم" ليبيا، ولكن تحت نعل أسياده الأمريكان وحسب شروطهم. حقبة الإنبطاح هى الحقبة التى تهمنا فى موضوع مقالتنا هذه.. لأن أحد شروط الأمريكان لقبول ولاء القذافى لهم، والسماح له بالبقاء فى "الحكم"، هو أنه لا يُسمح لليبيا بإقتناء صواريخ يتعدى مداها الـ 300 كم. وقُفل بذلك هذا الباب الذى لم يأت للشعب الليبى بأى إستفادة أو نتيجة تُذكر سوى إهدار المليارات من أمواله.
أسلحة الدمار الشامل:
أبدى القذافى بعد الإنقلاب العسكرى فى عام 1969 بفترة قصيرة إهتمامه بالقنبلة الذرية، وسعى للحصول عليها بشتى الطرق. لم يبالى حتى بدخول ليبيا لعضوية الـ NPT ـ (Nuclear Non-Proliferation Traty) فى عام 1975، وإقترح على مصر فى نفس العام مشاركته فى شراء قنبلة ذرية من الصين. ولكن كما كان متوقع رفضت الصين، ولكنها عرضت مساعدتها فى المجال البحثى الذى فضل القذافى العمل فيه مع الإتحاد السوفييتى، والذى تحصلت منه ليبيا فى أول ثمانينات القرن الماضى على مفاعل ذرى صغير للبحوث بقوة 10 ميجاوات (MW)، ولكن على الرغم من القيام بعدة مشاريع وبحوث مشتركة مع الإتحاد السوفييتى، لم يتم بناء مفاعلات ذرية كبيرة. محاولات أخرى للحصول على معاونة كل من فرنسا والأرجنتين فى بناء البرنامج الذرى الليبى باءت ايضا بالفشل.
القذافي مع بوتو |
مشكلة بوتو كانت بالدرجة الأولى مالية.. الديون كانت تكاد تشل حركة الدولة الباكستانية آنذاك، وكانت تسيّر أمورها بمساعدات وقروض دولية.. ولكنه أبشر وفرك يديه عندما جاء فى زيارة إلى ليبيا.. فقد رأى بوتو فى القذافى ولدا أحمقا لا يفقه فى السياسة مثقال ذرة، و يرمى إلى يمينه وإلى يساره بالمليارات من الدولارات. لم ينتظر بوتو كثيرا حتى يوافق مبتسما على عرض من القذافى للإشتراك فى بناء القنبلة الذرية، ودعاه إلى إجتماع "سرّى" فى باريس للتفاوض فى هذا الصدد.
بدأت فى عام 1973 أول مفاوضات "سرّية" فى باريس، مثل فيها الجانب الباكستانى : الدكتور منير خان رئيس لجنة الطاقة النووية الباكستانية آنذاك، ويعقوب على خان سفير الباكستان فى باريس آنذاك وخَليفِه فى باريس محمود شفرات.. ومثل الجانب الليبى: معمر القذافى، وعبدالسلام جلود، وابوبكر يونس.. لم تكن مفاوضات بمعنى الكلمة ، وإنما كان الغرض من اللقاء هو الإنفراد "بأفضل وأجدر شخصيات" تقدمها أرض المليارات (المسعور، والسكّار، والأطرش فى الزّفّة)، وفصلهم عن الليبيين الأكاديميين "الأغبياء"، وبالتالى صقلهم لتأمين حلب البقرة الليبية. وهذا ما نجحوا فيه بالفعل.. ففى أول مؤتمر قمة إسلامى فى فبراير 1974 فى لاهور/ الباكستان، لعب بوتو جوكره الأخير وقال: "توجد قنبلة هندية، وقنبلة يهودية، وقنبلة مسيحية، وقنبلة شيوعية.. فلماذا لا يكون هناك ايضا قنبلة أسلامية ؟"[1]. فقفز القذافى وعرض على بوتو صكا نقديا مفتوحا.
عرف بوتو بأنه قد وصل إلى هدفه، وإستفرد بالقذافى، وأبرم معه عقدا بتفاصيل أهم أتفاق فى تاريخ شبه الجزيرة الهندية والشرق الأوسط، تضمن بصفة عامة أنه "على الباكستان بعد الإنتهاء من بناء برنامجها الذرى، تقديم إمكانيات التدريب والأجهزة، والمواد التقنية اللازمة إلى ليبيا، حتى تستطيع هى أيضا بناء برنامجها النووى، وإنتاج أسلحة نووية ـ مقابل تكفل القذافى بتوفير الأموال اللازمة.
نشرت الـ (New Yorl Times) تقريرا فى عام 1980 لأربعة صحفيين للـ (BBC) عن نتيجة بحثهم لمدة 6 أشهر فى 13 دولة، كشفوا فيه أسرار قصة القنبلة النووية الباكستانية وتمويلها المالى. ولا نريد هنا سرد القصة الكاملة للقنبلة "الإسلامية" النووية.. فما يهمنا هنا هو الجانب المالى. ويقول التقرير فى هذا الصدد بأنه منذ شهر ديسمبر 1975 وبعد ذلك كل 6 أشهر تقريبا.. كانت تحط طائرة فى مطار كاراتشى تحت إجراءات أمنية مكثفة.. آتية بحقائب من ليبيا تحتوى على حوالى 500 مليون دولار.. كانت تأتى من ليبيا نقدا حتى لا تظهر فى الحسابات الرسمية بالمصرف المركزى للباكستان، ويسهل الطريق بالطبع لجزء منها إلى جيوب بوتو ومن حوله.. مثل عبدالقادر خان الملقب (بأبو القنبلة الذرية الباكستانية)، والذى وجدت ملايين الدولارات الليبية طريقها إلى جيوبه.
ذكر الصحفيون أيضا فى تقريرهم ما قاله لهم المسؤول الباكستانى المقرّب من بوتو(والذى أعلمهم بكيفية وصول الأموال من ليبيا إلى الباكستان)، بأنه كان يوما مع بوتو عندما جاءته مكالمة هاتفية من القذافى، ثم قال له بعد إنهاء المكالمة: "القذافى يسأل دائما عن القنبلة الذرية الأولى، وضحك بإستهزاء". ولماذا لا يضحك ولا يستهزئ ؟ فقد إمتصّ برنامجه الذرى ما يزيد عن 3 مليار دولار من خزينة الشعب الليبى المغلوب على أمره. هذا بالإضافة إلى اليورانيوم.. فقد كانت ليبيا تشترى أغلبية الإنتاج الإجمالى لمناجم جمهورية النيجر من اليورانيوم، وتشحنه إلى الباكستان. وبالإضافة أيضا إلى طائرات السلاح الجوى التى "استعارتها" الباكستان من ليبيا لتدريب الطيارين الباكستانيين، ثم بيعت قبل فترة قصيرة بثمن رمزى لتركيا.
|
لا تؤاخذنى يا حضرة "القائد العظيم" وملك الملوك الأغبياء، ولكن عندى سؤال واحد فقط لو سمحت: هل لاتزال ليبيا (الأرض) ملك للشعب الليبى ؟
مصنع للأ سلحة الكيميائية فى منطقة الرابطة حوالى 60 كم جنوب مدينة طرابلس |
الصناعة العسكرية فى ليبيا:
لا توجد فى ليبيا صناعة عسكرية بهذا المعنى. إلى جانب ما ذكرناه من محاولات لصناعة الصواريخ، والأسلحة الكيميائية، توجد فى ليبيا صناعة ذخيرة للأسلحة اليدوية الصغيرة منها طلقات الرصاص من عيار 9 مم و7.62×51 مم. كانت هناك إحتمالات لتركيب جزء من طائرات التدريب SF-260، التى استوردتها ليبيا فى أواخر سبعينات القرن الماضى داخل ليبيا.. تحت إشراف المصنّع الإيطالى Siai Marchetti، ولكنها لم تتحقق ووصلت الطائرات كاملة التركيب إلى ليبيا.
≈≈≈≈≈≈
كان هذا الجزء الثالث والأخير لوصف مسيرة القوات المسلحة الليبية منذ إغتصاب القذافى للحكم فى ليبيا، وما آلت إليه من وضع فى غاية الفوضى، وعدم الكفاءة، بل العجز الكامل فى الدفاع عن الدولة.. على الرغم من الأموال الهائلة التى صُرفت على مدى اربعين عاما تقريبا. لقد دمّر القذافى القوات المسلحة الليبية بكل ما فى الكلمة من معنى، وأول مؤشر على ذلك كان إلغائه بعد الإنقلاب العسكرى مباشرة لعقود حكومة المملكة الليبية مع بريطانيا بإستيراد دبابات الـ Chieftain ونظام الدفاع الجوى Thunderbird وRapier (الجزء الأول)، الذين كانا من أرقى ما يمكن الحصول عليه فى المجال العسكرى آنذاك.[2]
بعد حوالى 40 عاما تحت حكم وسياسة القذافى العشوائية، وتبذير ما يفوق الخيال من الأموال، تجد القوات المسلحة الليبية نفسها اليوم فى وضع لا يُقارن حتى بوضعها عند تأسيسها. حالة القوات المسلحة الليبية اليوم هى نتيجة تخلّى القذافى عن سياسة الخطوات الصغيرة الحكيمة، التى إتبعتها حكومة المملكة الليبية فى بناء القوات المسلحة الليبية، والتى كانت قد وصلت بها اليوم (بدون مبالغة) إلى مستوى أرقى وأحدث قوات عسكرية فى العالم.
لا يمكن أن تبيعك دولة أسلحة ليس عندها أحدث منها. ولا يمكن شراء القوة العسكرية الفعالة. ولكن يمكن بنائها.. محاولات القذافى منذ إغتصابه للحكم فى ليبيا لبناء جيش كبير وقوى، وتكديس الأسلحة بكميات هائلة، ورفع عدد الجنود بكل ثمن.. بالتجنيد الإجبارى والعشوائى، وبشراء الأجانب، أدّى إلى تكوين جيش شكلى مبنى على أساس هش سرعان ما ينهار بكامله حين ضرب إحدى زواياه.
لقد كان الأحرى بالقذافى اللإستمرار فى سياسة المملكة الحكيمة وتأمين الدفاع عن الدولة أولا، ثم الإتجاه لبنائها. إلى جانب التعليم، والصحة، والبنية التحتية ...الخ، كان يجب التركيز على جلب الصناعة إلى الدولة.. بتسهيل الطريق أمام الشركات العالمية لتؤسس فروع لمصانعها داخل ليبيا، وتساهم بذلك فى توسيع وتلوين فرص العمل والتدريب المهنى أمام الشباب الليبى الذى كان بإمكانه اليوم قيادة الصناعة المدنية فى ليبيا، التى لا يمكن بناء صناعة عسكرية بدونها. كان بإمكان ليبيا اليوم أن تصنّع كل ما تحتاجه فى المجال المدنى بيد ليبية. وأن تبنى صناعة عسكرية بيد ليبية. خبراء ليبيون موجودون اليوم والحمد لله فى شتى المجالات، ويشتغلون فى مختلف الشركات العالمية فى أرقى المناصب. ولاشئ يفوق مُناهم بتكريس علمهم، وجهدهم، وكل إمكانياتهم لخدمة وطنهم ليبيا الحبيبة، والمساعدة على دفعه نحو التقدم والإزدهار.. لليبيا.. لليبيا وللشعب الليبى، ولكن ليس للقذافى، الذى قتل إخوتهم، وشرّد، وأفقر شعبهم.
لقد ضيع القذافى أربعين عاما من مستقبل ليبيا، وجنى على أجيالها.. حرم ليبيا من فرصة تاريخية أهداها الله لها بعد سنين من الموت، والجوع، والمعاناة فى معتقلات الإستعمار .. أهدى الله لليبيا ثروة النفط كجائزة لأجدادنا الذين جلبوا بدمائهم وأرواحهم الطاهرة الإستقلال لوطنهم الغالى، ولولاهم ماكان هناك كرسى حكم فى ليبيا يمكن للقذافى الجلوس عليه.. أهدى الله لليبيا ثروة النفط كجائزة لأجدادنا الشهداء يؤمّنون بها مستقبل أحفادهم فى وطن قوى، عطوف، مزدهر، لا يُهان أحدهم فيه، ولايُدنّس عرضه مرة أخرى.
إن اللوم بالدرجة الأولى ليس على القذافى، وإنما على من هم حوله.. الذين يساعدونه كل يوم على تطويل معاناة الشعب الليبى والحد من فُرص ليبيا الثمينة وفُرص أجيالها القادمة. إن القذافى ذاهب لامحالة، ووالله سيتغير الحكم فى ليبيا لامحالة، ووالله لن تبقى جماهيرية، ووالله سيرجع التاريخ الهجرى، ووالله سترجع أسماء الشهور والأيام على ما كانت عليه، ووالله ستكون ليبيا باقية بعد أن تبيد عظام القذافى، وعظام أولاده، وأولاد أولاده، وبعد أن تبيد عظامنا كلنا. إن كل يوم تساعدون فيه على إستمرار حكم القذافى، ماهو إلا إحباط لجهود أجيال ليبيا القادمة فى سباقهم مع أجيال الدول الأخرى.
لماذا تصرون على تمديد أنفاس نظام سوف لن يبقى ؟ متى تسألون أنفسكم بعيدا عن صياح القذافى ومقولاته الفارغة، إذا ما آل إليه وطنكم بعد أربعة عقود من الجرى، واللهث، والصياح، وتبذير ثروة شعبكم، هو فعلا ماتسمونه بالعظمى !؟
متى يؤنّبكم ما بقى من ضميركم وتقفون إلى جانب شعبكم ؟ لازال لديكم الخيار، ولكن عندما يشاء القدر يكون الخيار إبان ساعة من الزمن للشعب الليبى وحده.. تفهمون عندها معنى سيادة الشعب الحقيقية. ومن أراد الله له الحياة منكم، فسوف لن يستطيع على مدى ما بقى من حياته النظر فى عيون أولاده.
عاشت ليبيا و عاش الشعب الليبى
البرقاوى
[1] هذا ما كتبه بوتو فى مذكراته. فهو الذى أطلق على القنبلة الذرية الباكستانية إسم القنبلة الإسلامية، وليس الغرب كما يدعى القذافى لتغطية فضيحته.
[2] [حاولت اسرائيل الحصول عليها من بريطانيا، ولكن دون جدوى. وعندما احتجت على موافقة بريطانيا بإعطائها لليبيا، كانت إجابة وزير الخارجية البريطانية بأن ليبيا لها مرتبة خاصة .. لأنه لدى بريطانيا عقدا لمدة 20 عاما للتعاون مع ليبيا منذ عام 1953 يلزمها بتصدير الأسلحة إلى ليبيا .. بالإضافة إلى أنها الدولة الكبيرة الوحيدة فى الشرق الأوسط التى لا تملك دبابات، ولا خوف من أن تبيعها لمصر، لأن أحد أسباب استيراد ليبيا لنظام الدفاع الجوى والدبابات البريطانية هو خشيتها من رغبة مصر فى توسيع حدودها]. لم ينسى الملك ادريس رحمه الله المفاوضات على أرض ليبيا بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة إقتراح الملك فاروق بوضع برقة تحت الوصاية المصرية مع السموح بتعديلات على الحدود، بعدما رفضت القوى الغربية إقتراح وزير الخارجية الروسى مولوتوف بوضع برقة تحت الوصاية الروسية.
المصدر
تعليق