هل الجيش البري الجرار ضامن للتفوق العسكري؟
وجدت في كتاب (مقاتل من الصحراء) للأمير خالد بن سلطان مقطع يتحدث عن هذه النقطة احببت ان أطرحها كموضوع للمناقشة.
(انتقد المفكر العسكري البريطاني ليدل هارت liddell hart، في العشرينات والثلاثينات من هذا القرن، سَلَفَه البروسي كلوزفيتز. كان كلوزفيتز يعتقد أن كل دولة يمكِنها أن تحطم إرادة الدولة الأخرى إذا حطمت جيشها. ويرى هارت أن مثل هذا المبدأ هو المسؤول عن الاستراتيجيات العقيمة التي استُخدمت في الحرب العالمية الأولى، حين كان القادة يزجُّون بالحشود الضخمة من جيوشهم في هجمات متكرِّرة بالمواجهة ضد بعضهم بعضاً في أتون المعركة، مما أدّى إلى مذابح بشرية رهيبة لا معنى لها.
ولو بقي ليدل هارت حياً حتى اليوم، لانتقد بالشدة نفسها تلك الحرب التي استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران، وكانت تدور رحاها قرب حدودنا. لم تكن تختلف كثيراً عن المعارك الأوروبية ذات الإيقاع البطيء في الحرب العالمية الأولى. كنّا نراقب حشوداً ضخمة تواجه بعضها بعضاً عبْـر خطوط دفاعية ثابتة حصينة، ومن آن إلى آخر يندفع أحد الطرفين ليشتبك مع الطرف الآخر في معركة بالسلاح الأبيض. ويبدو الإيرانيون، بوجه خاص، أكثر إيماناً بتكتيك الموجات البشرية، إذ كانوا يرسلون عشرات الآلاف من الشباب الذين يفتقرون إلى التدريب والتسليح لِيَلْقوا حتفهم في محاولة اقتحام الدفاعات العراقية.
نادى ليدل هارت، في محاولة منه لتغيير الفكر الاستراتيجي لقادة الجيش البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى، بأهمية مبدأَيْ "المرونة". و"المفاجأة". اللتين تحقِّقُهما وحدات صغيرة متخصصة مدربة، بدلاً من الهجوم بـ "المواجهة" الذي تشنّه أعداد هائلة من القوات وتنجُم عنه خسائر بشرية ضخمة دون طائل. كان يؤيد الحرب الآلية المتحركة، وهي قيام القوات المدرعة السريعة الحركة بالاختراق الاستراتيجي العميق لمواقع العدو. وطَوّر هارت نظريته الشهيرة المعروفة باسم "الاقتراب غير المباشر"، التي تعتمد على ضرب العدو في مناطق لا يتوقعها، أي ضربه في أضعف مواقعه، وليس أقواها، مردِّداً في ذلك ما قاله صن زو منذ آلاف السنين. فهدف الحرب، من وجهة نظره، هو "تحطيم إرادة العدو بأقل خسائر بشرية واقتصادية ممكنة". ومن المعروف أن أفكار ليدل هارت أَثّرت في الفكر العسكري لقادة فِرق البانزر panzer الشهيرة، من أمثال جودريان guderian، وروندشت rundstedt.
ولا تزال بعض أفكار هارت صالحة حتى اليوم، لا سيما تأييده أهمية بناء جيش محترِف يتمتع بخفة الحركة ودرجة عالية من التدريب. وهذا ما أكدته حرب الخليج. إن التحدي الذي تواجِهه دول العالم الثالث في الوقت الحاضر، هو بناء جيش محترف حقاً. جيشٌ يتِم التعيين والنقل والترقية فيه على أساس من الاستحقاق، ولا شيء غير ذلك. جيش يتِم التركيز فيه على الثقافة والمهارة، إضافة إلى التقاليد والأخلاق العسكرية، كالانضباط والطاعة والولاء.
نحن في المملكة نعيش في بلد قليل السكان شاسع المساحة ذي سواحل طويلة ممتدة على البحر الأحمر والخليج العربي، وتحيطه قوى تتربَّص به الدوائر. فأصدقاء اليوم قد يصبحون أعداء الغد كما قد يُمْسِي أعداء اليوم أصدقاء الغد. والمساحة الشاسعة للبلاد مع قلة السكان تجعلان نشْـر قوات برية في كل جزء من أجزائها أمراً غير عملي. فليس في وسعنا أن نحتفظ بوجود عسكري في طول البلاد وعرضها. ( كنت أُحلِّق وضباط أركاني، أثناء الأزمة، فوق مناطق انتشار قوات التحالف، ولولا يقيني أن 750 ألف رجل يزحمون مسرح العمليات بالفعل، ما كنت لأصدِّق ذلك. فلم يكن لهم أثر واضح في تلك الصحراء الشاسعة ). إن الخطر كل الخطر هو أن تدفعنا أزمة الخليج إلى محاولة بناء قوة عسكرية ضخمة، أكثر مما تسمح به طبيعتنا السكانية. فالجيوش الجرارة ليست ضماناً للأمن أو استعراضاً للقوة. فهي في ذلك الحجم الضخم لا معنى لها، بل تصبح عبئاً يُثقِل كاهل البلاد. والأَولى، كما قال ليدل هارت منذ زمان بعيد، أن تكون لدينا وحدات صغيرة العدد نسبياً، خفيفة الحركة، جيدة التسليح والتجهيز، عالية التدريب، لديها القدرة على التحرك السريع والضرب العنيف، وتكون بمثابة نواة لأية قوة تتِم تعبئتها عند الأزمات. كما أؤيد بالحماسة نفسها بناء قوات خاصة متميزة، وهي قدرة كنّا نفتقر إليها أثناء حرب الخليج، إذ اضطررنا إلى الاعتماد على القوات الخاصة لحلفائنا في عمليات جمع المعلومات واصطياد صواريخ سكود، والعمليات الأخرى خلْف الخطوط العراقية. وجملة القول، إن الإقدام على إنشاء قوة عسكرية ضخمة لا يقلّ خطأً وخطورة عن الاحتفاظ بقوة عسكرية صغيرة الحجم. إن بناء القوة العسكرية لا بد أن يرتكز على تحليل دقيق للتهديدات التي سنوجهها في المستقبل.)
هذا المقطع يفسر سبب العدد المحدود لدبابات القتال الرئيسية في الجيش السعودي (حوالي 500 أو 600) مقارنة بعدد المدرعات المتوسطة و الخفيفة (من 5000 ألى 6000).
تعليق