خلال أقل من شهر، ستنطلق المحادثات مجددًا بشأن تحجيم برنامج إيران النووي. لا تزال إيران تصر، بعد 12 سنة من محاولات إقناعنا المستمرة، بأنها لا تسعى لقنبلة نووية، ولكن فقط لطاقة نووية للاستخدام السلمي. ولكن أحدًا لا يصدقها. إذا انهارت المحادثات، سيُنذر ذلك بسباق تسلّح نووي في الشرق الأوسط، أو ربما لهجمة عسكرية أمريكية أو إسرائيلية على البنية التحتية الإيرانية لوقف مساعيها. في كلتا الحالتين ستكون العواقب وخيمة.
لا تزال هناك الكثير من الأمور العالقة بين إيران ومجموعة الخمسة زائد واحد (أعضاء مجلس الأمن الدائمون + ألمانيا). تنصب الجهود بالأساس على آليات الاتفاق، فالطرفان لا يمكنهما الآن الاتفاق على عدد أجهزة الطرد المركزي التي يمكن لإيران أن تستخدمها لتخصيب اليورانيوم، أو طول المدة التي يسري فيها الاتفاق، أو سرعة رفع العقوبات الاقتصادية.
يمكن سد هذه الفجوة إذا وثقت إيران والولايات المتحدة في بعضهما البعض. أحد أسباب توتر هذه العلاقة بشدة هو أن صورة إيران لدى الرأي العام الغربي قديمة جدًا لدرجة مُضحِكة. سيساعد فهم أفضل لإيران كبلد كثيرًا في دفع المحادثات قدمًا نحو تسوية شاملة أو على الأقل تجنّب السيناريو الوخيم.
إيران اليوم
الكثير مما تقوم به إيران خاطئ تمامًا. فهي تموّل الإرهابيين والميليشيات في لبنان وفلسطين، وتساند نظام بشار الأسد الدموي، كما أن مسؤوليها ينكرون حق إسرائيل في الوجود بشكل مستمر. أضِف إلى ذلك معاملة النظام الوحشية والظالمة في الداخل للمعارضين. يوم السبت الماضي، وقبل استنكار أحد مبعوثي الأمم المتحدة لتزايد أحكام الإعدام في إيران ومعاملتها للنساء، تم إعدام امرأة لقتلها رجلٍ اتهمته بالاعتداء الجنسي عليها، فيما قال آخر بأن وكالة الطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة اشتكت من أن إيران ليست بالشفافية المطلوبة بخصوص بحوثها النووية — وهو جزء مما تقوم به من تملّص وخداع.
مهما بلغ كل ذلك من سوء، يظل استهجان الغرب لإيران بشكل خاص واستثنائي يضعها في صورة قاتمة جدًا، باعتبارها عدوًا لن يتبدّل. فقط كانت جزءًا من محور الشر الذي صنّفه جورج بوش الابن، وهي ديكتاتورية تحاول تصدير ثورتها باستمرار، وتقتات على نمط مخيف من الإسلام قد تكون لاعقلانيته كافية للتسبب في كارثة نووية، بل إن البعض قد لام الرئيس الأمريكي باراك أوباما لقيامه بالتفاوض من الأصل مع هذا الكيان الظلامي.
مرت 35 سنة منذ زيارة آخر مسؤول أمريكي لإيران، وقد تغيّرت إيران كثيرًا، إذ انطفأت تمامًا نار الثورة فيها، كما تبيّن التغطية الخاصة لإيران في عدد هذا الأسبوع من مجلة الإيكونوميست. فبنزوح الكثيرين من القرى إلى المدن، أصبحوا أكثر غنى، وزادت رغبتهم في الحصول على السلع الاستهلاكية والتكنولوجيا الغربية. يلتحق أكثر من نصف الإيرانيين بالجامعات، بعد أن كان يلتحق الثُلث فقط منذ خمس سنوات. هذا بينما فقدت السياسة الردايكالية بريقها وارتفع رصيد الوسطيين البراجماتيين بعد رئاسة أحمدي نجاد الكارثية، وفشل الانتفاضة الخضراء — التي سعت لإسقاطه في 2009 — وأثار الربيع العربي الفوضوية. كذلك تراجع المجتمع الديني التقليدي الذي طالما حلم به الملالي. بمرور الوقت، أصبحت أعداد المصلين بالمساجد تتضائل، ولم يعد يُسمَع الأذان باستمرار، خاصة وأن الكثيرين يشكون الضوضاء. في قم، العاصمة الدينية، يضاهي مركز تسوق عملاق الحوزات العلمية هناك. وبينما تتأسس خلافة على أرض العراق وسوريا، يبدو على الناحية الأخرى أن هناك دولة إسلامية يتراجع الدين فيها.
إيران ليست ديكتاتورية صِرفة. المرشد الأعلى، آية الله على خامنئي، هو صاحب القول الفصل، ولكنه دوره هو الفصل بين أجنحة النُخبة المختلفة، وهي مكونة من آلاف من السياسيين ورجال الدين والجنرالات والأكاديميين ورجال الأعمال ممن يشكلون فرقًا متصارعة ومُربِكة ومتغيرة باستمرار. ورُغم أن هذا لا يجسد ديمقراطية بأي شكل، إلا أنه بمثابة “سوق” سياسي، وكما لاحظ الرئيس السابق أحمدي نجاد، السياسات التي تنشأ دون إجماع أو اتفاق تلك الفرق، لا تعيش طويلًا. لذلك، اختارت إيران العام الماضي حسن روحاني رئيسًا، وهو الذي يعتزم الانفتاح على العالم، وكبح جماح الحرس الثوري المتشدد. ينتمي روحاني إلى النظام الإيراني، وهذا طبيعي، غير أن حكومته تضم حاصلين على درجات الدكتوراه الأمريكية أكثر من حكومة أوباما نفسه، وهو ما يقول لنا الكثير عن الواقع الإيراني اليوم.
الطريق إلى التسوية
ماذا يعني كل ذلك لاتفاق نووي؟ في البداية، يعني أن إيران تتعامل براجماتيًا لتصل إلى ما يصُب في مصلحتها، وليس بشكل درامي لإسقاط النظام العالمي، أي أنه يمكن أن يؤدي التفاوض معها إلى نتاج مثمر. ويعني أيضًا أن القوة في إيران تتحرك بين أجنحة مختلفة، تمامًا كالولايات المتحدة، وبالتالي يجب حماية أي اتفاق معها في المستقبل من عواقب وصول رئيس متشدد مرة أخرى للرئاسة. وأخيرًا، وهو الأهم، أن الوقت في صالح الغرب.
فكلما طال الوقت، كلما تزايد تراجع أرصدة ثورة 1979، وكلما أصبحت إيران أكثر انفتاحًا. ستتراجع المفاهيم الصلبة أكثر تحت وطأة مخاوف الحياة اليومية، مثل زيادة الدخل والتجارة. لن تتنازل إيران بين ليلة وضحاها عن برنامجها النووي، وهو ما قد يراه الإيرانيون بمثابة إهانة، وهي كذلك لن تصبح فجأة على علاقة جيدة بالولايات المتحدة، ولن تتوقف عن التدخل في جوارها. ولكن إذا ما شعر النظام في إيران بأنه يمكنه تفادي مصير القذافي، الذي تنازل عن برنامجه النووي وسقط نظامه في النهاية، لن يكون كبح البرنامج النووي في نظره سوى مقامرة.
سيساعد الوقت أيضًا لأن الوصول لاتفاق يصب في مصلحة إيران أكثر مع الوقت، فروحاني يحتاج إلى مخرج من العقوبات. فبعد معدل نمو سنوي بلغ ٥٪ على مدار العقد الماضي، انكمش الاقتصاد بـ٥.٨٪ في 2012. يساهم النفط في دفع فواتير الحكومة، ولكن تراجع أسعار النفط مؤخرًا بـ٢٥٪ يضغط على الاقتصاد أكثر. تقع إيران أيضًا في منطقة مضطربة، إذ تهدد داعش حلفاءها الشيعة في العراق، بينما يقع نظام الأسد وحزب الله تحت نيران الحرب الجارية في سوريا. هذا بينما ترسل إيران الإشارات بين الحين والآخر للولايات المتحدة بأنها يجب أن تهتم بالمفاوضات لتضمن الدعم الإيراني في الشرق الأوسط. في الواقع، إيران الشيعية هي المستفيد الأكبر مما يجري: فالولايات المتحدة قد تواجه ردود فعل عكسية من حلفائها السنة في السعودية، ومن السنة الذين تحاول كسب ثقتهم في سوريا والعراق.
رُغم أن هذا الشهر هو الموعد الأخير للاتفاق، إلا أنه على مجموعة الخمسة زائد واحد أن تتحلى بالصبر. فالاتفاق الانتقالي الذي مهّد للمزيد من المحادثات، هو السبب في عدم وضع أي أجهزة طرد مركزي جديدة، وهو ما يخلق حالة التوقف في البرنامج النووي. على العالم ألا يغلق باب المفاوضات في وجه مطالب إيرانية مستحيلة، وكذلك ألا يستسلم لإيران خوفًا من ألا تكون هناك فرصة أفضل للوصول لاتفاق في المستقبل. بدلًا من ذلك، على مجموعة الخمسة زائد واحد أن تصبر حتى تنال الاتفاق المطلوب. سيكون جيدًا إن توصلوا لذلك بالفعل هذا الشهر، ولكنها لن تكون كارثة إن لم يتم.
(2) البطيخ للجميع
الاقتصاد الإيراني هو ثالث أكبر اقتصادات الشرق الأوسط، لدى إيران قاعدة صناعية كبيرة، قوة عاملة متعلمة، وقطاع خدمات استحوذ على أكثر من نصف الاقتصاد في 2012، وهذا العام، انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5.8٪ وفقًا للبنك المركزي، وفي العام الماضي انخفض بنسبة 2٪ أكثر من ذلك، والأرقام غير الرسمية أسوأ بكثير
لم تلعب الاعتبارات الاقتصادية أدوارًا كبيرة في السياسة الإيرانية، فقد قال روح الله خميني، الذي قاد الثورة عام 1979 "نحن لم ننتفض للحصول على بطيخ أرخص!"، وعلى مدى العقود الماضية طارد المحافظون الإيرانيون الرؤى المثالية مهما كلف ذلك الإيرانيين، في حين كان الليبراليون جائعين لإجراء إصلاحات سياسية.
هذا الأمر تغير في السنوات الأخيرة، فقد تركز الجدل في انتخابات العام الماضي حول الاقتصاد، وفاز "حسن روحاني" لأن الإيرانيين نظروا إليه باعتباره أقدر المرشحين على تحقيق ذلك، اعتاد المحافظون أن يكونوا مناهضين للتجارة الخارجية، تماشيًا مع المشاعر الثورية وأفكار الاكتفاء الذاتي الاشتراكية، أما الآن، فإن الجميع بما فيهم المرشد الأعلى للثورة الإيرانية يوافق على الرأسمالية المعولمة، في إجابة على سؤال "لماذا؟" أجاب أحد المسئولين الكبار "ابني في الصف الثاني، وقد رشح نفسه في الفترة الأخيرة لانتخابات الفصل الدراسي، كان يعلق آمالا كبيرة، وهو ذو شعبية واضحة، لكنه خسر، لم أستطع أن أصدق ذلك، لكنني سألته عما كانت حملته فأجاب: العدالة والكرامة، فسألته: وخصمك؟ فأجاب: وعدهم بوجبات غذائية أفضل واستراحات أطول".
الإيرانيون يعيشون اليوم بشكل أكثر راحة كثيرًا مما كانوا عليه قبل جيل واحد، لكن السنوات الثلاث الأخيرة كانت صعبة، تعاني الشركات ويعاني المستهلكون من آثار تشديد العقوبات المفروضة كثيرًا منذ عام 2011، يقول أحد المصرفيين في طهران "يمكنك أن ترى عددًا أقل من الأشخاص يحملون أكياس التسوق"، ويتابع "السباك الخاص بي الذي عادة ما يكون مشغولاً دومًا، يقول إنه في كثير من الأحيان يحصل على أول زبائنه في منتصف الأسبوع، أما التجار في قزوين فقد أبلغوا عن انخفاض الإيرادات بنسب تراوحت بين 50٪ و75٪"، وحسب تقدير بائع طماطم فإن هذه هي أسوأ الأوقات منذ 25 سنة، يقول متسوق "لقد دُمر السوق! .. أشعر بالخجل من عدم قدرتي على تحمل تكلفة نفس الطعام كما كنت أفعل في السابق، لا استطيع الآن دعوة أي شخص إلى بيتي".
الاقتصاد الإيراني هو ثالث أكبر اقتصادات الشرق الأوسط، لدى إيران قاعدة صناعية كبيرة، قوة عاملة متعلمة، وقطاع خدمات استحوذ على أكثر من نصف الاقتصاد في 2012، أما في العام الجاري، فقد انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5.8٪ وفقًا للبنك المركزي، وفي العام الماضي انخفض بنسبة 2٪ أكثر من ذلك، والأرقام غير الرسمية أسوأ من ذلك.
خلال العقد الماضي، كان الاقتصاد ينمو بمعدل متوسط 5.1٪ سنويًا، وعندما انقلب الأمر انطلق التضخم ليصل إلى أكثر من 50٪ دفعة واحدة، وعندها فشلت الرواتب في مواكبة الانهيار، انخفضت الأجور في القطاع الخاص بنسبة 35٪ - 40٪، وخسر موظفي الحكومة حتى 50٪ من رواتيهم، وعانى أكثر من نصف السكان من خسارة درامية في دخلهم، وفي أسبوع واحد في أكتوبر 2012 هبطت العملة بنسبة 40٪ مقابل الدولار في السوق السوداء وخلقت حالة من الذعر، وفي أدنى مستوياته انخفض الريال بنسبة 75٪ وقفز معدل البطالة، انخفض إنتاج السيارات التي كانت تمثل 10٪ من الناتج القومي الإجمالي ويوظف أكثر من مليون شخص بنسبة 70٪ وفقًا لمصادر صناعية، مصنع مرسيدس في تبريز كان ينتج 80 محركًا يوميًا قبل عدة سنوات، الآن ينتج اثنين فقط.
كل ذلك تسبب في موجة من السخط الشعبي، الثوريون السابقون، قادة البلاد الحاليون يدركون المخاطر لكنهم يكافحون لأن البلاد بالفعل لا تمتلك المال، في الماضي كان الوضع مختلفًا بفضل تدفق عائدات النفط، وكانت الحكومات دومًا قادرة على خلق فرص عمل وإطعام الفقراء وإنقاذ البنوك التي على وشك الإفلاس ودعم وحتى رشوة منتقدي الحكومة! لكن للمرة الأولى منذ عشر سنوات، خزائن البلاد فارغة والميزانية في عجز، وفقًا لتقديرات الحكومة الأمريكية، فإن الاقتصاد الإيراني اليوم أقل 25٪ من التوقعات ما قبل 2012.
كان السبب المباشر لهذا الهبوط الأكثر دراماتيكية هو إطلاق الحكومات الغربية واحدًا من نظم العقوبات الأكثر صرامة ضد إيران، بهدف إجبار الإيرانيين على إيقاف برنامجهم النووي الإيراني، بين عشية وضحاها، توقف عملاء إيران النفطيين في أوروبا عن الشراء، حظرت الحكومة الأمريكية التعامل بالدولار مع البنك المركزي الإيراني أو أي شخص يتعامل معه، جُمدت أصول الحكومة الإيرانية في الخارج بالإضافة إلى استهداف مئات الشركات المرتبطة بالدولة بشكل مباشر، انخفضت صادرات النفط من 2.5 مليون برميل في 2011 إلى أقل من النصف، أصبح مستحيلاً الحصول على المكونات الصناعية المستوردة؛ ما أدى لزيادة البطالة والتضخم.
بعض الدول غير الغربية (مثل تركيا) تجاهلت العقوبات واستمرت في التجارة مع إيران، تحاول الحكومة الإيرانية أن تدفع لهم بالذهب وتغض الطرف عن التهريب والأرباح التي أطلقت طفرة العقارات، من الصعب معرفة كم التجارة الذي لا يزال مستمرًا، لكن العقوبات كان لها بالتأكيد أثر خطير.
النقاش حول جدوى العقوبات خلق بعضًا من الشراكات الغريبة، المتشددون الغربيون والإيرانيون يقولون إن انهيار مستوى المعيشة في إيران يرجع أساسًا إلى العقوبات الغربية، وهذا ما يعتبره الغربيون نصرًا سياسيًا، لكن الإيرانيين يلومون أعداءهم بسبب ذلك المرض، رغم أنهم مسئولون عنه بشكل جزئي.
حفرة سوداء مليئة بالنفط
الاقتصاد الإيراني يعاني من انعدام الفعالية والفساد والتضخم وكان مقدرًا له الانهيار حتى قبل العقوبات، جميع الإيرانيين تقريبًا تلقوا مساعدات مالية مخصصة للفقراء، وخلال العام الماضي أنفقت الحكومة 100 مليار دولار على الدعم، أي ما يوازي ربع الناتج المحلي الإجمالي.
حتى وقت قريب، كانت تكلفة الديزل بما يعادل 2 سنتًا أمريكيًا للتر، تركيا التي يبلغ عدد سكانها نفس عدد الإيرانيين، ورغم أنها دولة صناعية أكثر من إيران، تستهلك حوالي وقود بنسبة 60٪ أقل من إيران، مكاتب الحكومة الإيرانية مكتظة بشكل كبير، ويعمل في وزارة النفط 260 ألف موظف اليوم بعد أن كانوا 100 ألف في 2005، مجموعة الشفافية الدولية ومقرها برلين، تصنف إيران على أنها "فاسدة جدًا".
المسئولون الإيرانيون يستخدمون الأموال العامة لشراء عقارات في بلدان أجنبية، ووفقًا لأحد المراقبين فإن "السياسة هي مجرد إلهاء عن جمع المال"، أعطى أحد المحققين البرلمانيين تحذيرًا بأنه إذا تم الكشف عن حجم الفساد السياسي فإنه سيتسبب في "صدمة اجتماعية"، واردات السيارات الفاخرة زادت خمسة أضعاف بين 2011 و2013، في حين أن مبيعات السيارات إيرانية الصنع المتواضعة انخفض إلى النصف.
أضر سوء توزيع الثروة بالقطاع الخاص بشكل أساسي، القطاع يشكل ربع إيرادات الشركات في الدولة، والعديد من الشركات تترنح على حافة الإفلاس، والرقم الرسمي للقروض المتعثرة والذي يقول بأنها 18٪ من كامل القروض، يبدو منخفضا جدًا، يقول السيد لايلاز، وهو خبير اقتصادي إن "عدم وجود رأس المال الاستثماري هو أكبر مشكلة تواجه البلاد"، ومنذ 2006، انخفض الاستثمار في الصناعة بنسبة 10 - 15٪ سنويًا.
القطاع المصرفي مختل! البنوك تقرض الشركات التابعة للدولة بشكل حصري تقريبًا، الشركات الصغيرة والمتوسطة لا تستطيع الحصول على القروض، ندرة التمويل ولدت بعض الحلول العبقرية، فعلى سبيل المثال، يستخدم أصحاب العقارات عقاراتهم كضمان للاقتراض من المستأجرين بدلاً من الإيجار.
إدارة الاقتصاد الإيراني كانت سيئة منذ الثورة، لكن في ظل سلف روحاني، أحمدي نجاد، كانت أسوأ كثيرًا، خلال فترته التي بلغت 8 سنوات في الرئاسة، ارتفعت أسعار النفط لأكثر من ثلاثة أضعاف، وذلك بفضل ارتفاع الأسعار الحاد، ودخلت الأموال خزائن الحكومة بأكثر مما تفعل عادة، وبلغت أكثر من 800 مليار دولار في المجموع، أنفق نجاد كل ذك! فقد استهلك مبالغ طائلة في مشاريع البناء، وتناثرت الجسور والطرق الجانبية غير الضرورية، كما أنشأ مشروعه "إسكان مهر" الذي وفر 200 ألف شقة في جميع أنحاء البلاد بدون إيصال المياه والغاز أو المجاري لها، ومعظمها الآن فارغة لم يقطنها أحد.
نظريًا، كانت بعض سياسات أحمدي نجاد سليمة، حاول تعزيز القطاع الخاص من خلال بيع الأصول المملوكة للدولة، وتم إدراج تسعة من أكبر عشر شركات في بورصة طهران خلال العقد الماضي، مجالس الإدارة والمساهمون لم يعودوا بلا سلطات، والإدارة يجب أن تقدم حسابات صحيحة، كما أن اجتماعات الشركات السنوية من الممكن أن تكون مثيرة للجدل، أحد أصحاب الأسهم صرخ في وجه مدير شركة أسيا للتأمين قائلاً "إن حمارًا كان ليدير هذه الشركة أفضل مما تفعل!"
لكن برامج الخصخصة ما زالت تترك آثارًا أكثر مما هو مرغوب، فمعظم الأسهم تم بيعها إلى كيانات قريبة للدولة بما في ذلك صناديق أصحاب المعاشات الذين تلقوا حصصهم على شكل أسهم في بعض الأحيان بدلاً من النقود، وعلى الرغم من أن عمليات البيع والشراء كانت مفتوحة لأي شخص، إلا أن المستثمرين في إيران يفتقرون لرأس المال، كما أن الأجانب لم يكونوا قادرين على الشراء بسبب العقوبات، يتحدث المحللون الآن عن صعود ما يسمى "قطاع شبه خاص".
تخفيض القيمة جعلت بعض قطاعات الاقتصاد أكثر قدرة على المنافسة، فلسنوات كانت البضائع الإيرانية غالية في العراق بسبب المبالغة في قيمة العملة الإيرانية، وعندما تسببت العقوبات في انخفاض الطلب على العملة، انخفضت أسعار المنتجات الإيرانية بين عشية وضحاها لتصبح أرخص من تلك التي في الدول الصناعية المجاورة مثل تركيا، وفي داخل البلاد، بينما أبقت العقوبات المنافسين الأجانب خارجًا، امتلأت محال السوبر ماركت الإيرانية بالمنتجات المحلية للمرة الأولى منذ عشر سنوات.
سحر الاكتفاء الذاتي
بعيدًا عن الإدارة الاقتصادية السيئة، قامت الحكومة الإيرانية بدون قصد بزيادة فعالية العقوبات بطريقتين أخرتين، أولاً: تم إبقاء الضرائب منخفضة للغاية على مدار عقود؛ وهذا ما أجبر الدولة على الاعتماد فقط على عائدات النفط، الآن، اضطرت الدولة لتقليل الإنفاق وزيادة الضرائب في نفس الوقت، وثانيًا: عندما جاء أحمدي نجاد إلى السلطة قبل عشر سنوات، قام بالتخلي عن سياسة البلاد بالاكتفاء الذاتي، فقبل ذلك، كانت إيران تقريبًا مكتفية ذاتيًا، ولديها رؤى لتعزيز النمو، لكن الرئيس الجديد أمر بصك علاقات تجارية جديدة وبخفض الجمارك، كانت هذه السياسة ناجحة بشكل كبير، لكنها جعلت إيران أكثر هشاشة وأكثر عُرضة لتأثير العقوبات.
ربما توقعت الحكومة ذلك، كما قال السيد جواد ظريف، وزير خارجية البلاد، في مقال كتبه قبل بضعة أشهر "إن عملية العولمة الجارية، سواء تمت الإشادة بها أو احتقارها، جلبت معها وزنًا لا مفر منه في التأثير على السياسات الخارجية للدول، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، متقدمة أو نامية … لكن اليوم، معظم الدول القومية بغض النظر عن حجمها أو قوتها أو نفوذها، تدرك أن الانعزالية سواء كانت مفروضة أو طوعية، فهي ليست ميزة على الإطلاق!"، إن قائل تلك الكلمات هو الذي يعطيها الأهمية في هذه الحالة وليست المشاعر التي تحملها، لقد أدركت إيران أنها ضُربت بثلاث ضربات قوية هي النفط والعقوبات والتستر على سنوات من الإنفاق غير المحسوب.
في السنة الأولى من عمله استطاع روحاني تحقيق قدر من الاستقرار في الاقتصاد؛ ارتفعت قيمة العملة وازداد الفائض التجاري، انخفض التضخم من 45٪ إلى 15٪، ويتوقع فريق الرئيس من التكنوقراط أن يبدأ الاقتصاد في النمو مرة أخرى هذا العام، ربما لو قللت الحكومة الدعم بنسبة 1.5٪ ستتحسن ماليتها، على الرغم من أنها رفعت أسعار الوقود بنسبة 75٪ بين عشية وضحاها.
لكن هناك طريق طويل، معظم أسعار الطاقة لا تزال مدعومة من قبل الدولة؛ البنزين لا يزال يكلف 28 سنتًا للتر الواحد، البطالة لا تزال مرتفعة بعناد، وهناك حاجة إلى مزيد من الإصلاحات لتسريع النمو، يقول خبراء إن الإصلاحات يجب أن تشمل الحد من الدعم النقدي للفقراء، وكبح جماح دولة الرفاه السخية، وخفض الدعم عن الصناعات والتخلي عن مئات الآلاف من الموظفين الحكوميين.
الإيرانيون تحملوا مصاعب أكبر في الماضي، تسببت العقوبات الأمريكية في الثمانينيات في نقص الوقود والغذاء، الآن، لا يعاني الإيرانيون من الجوع، ولا يُتوقع أن ينهار الاقتصاد في أي وقت قريب، لكن على المدى الطويل ستصبح الإصلاحات أمرًا لا مفر مه، وإذا تمكن للسيد روحاني أن يعقد صفقة مع الغرب لتخفيف العقوبات، فإن تلك الإصلاحات قد تصبح أكثر تدريجية وأقل إيلامًا.
(3) التدين في الجمهورية الإسلامية!
المساجد خالية، ومراكز التسوق مزدحمة، ورجال الدين يتراجعون، تحت أعين الجمهورية الإسلامية، التي تحكم واحدة من أقل الشعوب تدينًا في العالم الإسلامي
طبقًا للقانون في إيران، يجب على كل المباني الحكومية أن تحتوي على غرف للصلاة، ولكن بجولة في أنحاء البلاد المختلفة، يتكشف للناظر أن الأحذية المتناثرة خارج هذه الغرف في محطات الحافلات، والمباني الإدارية، ومراكز التسوق، قليلة للغاية. يقول أحد العاملين في تلك المباني: “نحن نتجه لتلك الغرف للنوم بعد الغذاء”.
رفع الأذان كذلك أصبح نادرًا جدًا، وقد بدأ المسؤولون في إسكات المؤذنين لكسب ود المواطنين الذين يشتكون من الضوضاء. في السابق، كانت يتم قطع مباريات كرة القدم لبث الأذان مباشرة، أما الآن فتظهر علامة صغيرة في ركن الشاشة.
إيران هي الثيوقراطية الدستورية الأولى والوحيدة في العالم، وهي أيضًا واحدة من البلدان الأقل تديّنًا في الشرق الأوسط، إذ يتضائل الدور الذي يلعبه الدين في المجال العام اليوم عمّا كان عليه الحال منذ عقد. تقول واحدة من بنات رجل دين معروف: “لقد مات الاعتقاد الديني، وحل الاشمئزاز محل الإيمان”.
بينما جاهدت القيادات العلمانية في العالم العربي لقمع الإسلام لعقود، خالقة نقطة التفت حولها الكثير من الاحتجاجات السياسية، حدث في إيران العكس تمامًا. فقد أدى تحوّل الإسلام الشيعي لأيديولوجية إلى تراجع صورة كلٍ من الدولة والمسجد، ولسخرية القدر، أدت سياسات الثورة الإسلامية إلى علمنة اجتماعية أكثر مما أدت سياسات الشاه الاستبدادية منذ انقلاب ١٩٥٣، والتي قمعت رجال الدين. بفرض الدين على الناس، أصبحت التعبّد علقمًا. فقد سأم الناس أن يقول لهم أحد ما الذي يجب أن يفعلوه، وتوقفوا عن الاستماع لصوت الدين.
البعض يجد ملاذًا اليوم في المادية، إذ تزداد المحال ومراكز التسوق بشدة، كما يلاحظ سعيد ليلاز، اقتصادي معروف: “لا يمكنك أن تُغدق على شعبك بتريليون دولار في عقد من الزمن، ثم تنتظر منه أن يظل تقيًا وثوريًا. لقد اعتاد الناس على الراحة والرفاهة”.
تراجع كثيرًا نفوذ رجال الدين اليوم في إيران، وأصبح غير مباشر، والكثير منهم اكتفى بالحوزات العلمية، ولم يعد يشارك في الإدارة اليومية للاقتصاد والعلاقات الدولية، رُغم أن الدولة لا تزال تستشيرهم في الأمور الرئيسية. يقول المفاوضون الغربيون في المباحثات بخصوص البرنامج النووي، أن نظراءهم الإيرانيين كثيرًا ما كانوا يغيرون مواقفهم في المفاوضات بعد رحلات إلى قم، معقل الثورة الإسلامية. يملك رجال الدين ثروات هائلة، وبالتالي لا يزالون يتمتعون بنفوذ اقتصادي.
يظل الإيرانيون روحانيين كشعب، ويرون الإسلام جزءًا من هويتهم، ولكن الشيء الذي نفر منه الجميع قدر استطاعته هو الدين المؤسسي. لا يزال على النساء ارتداء الحجاب في الشارع، ولا زلن ممنوعات من دخول الملاعب. الفصل في الحافلات بين الرجال والنساء كذلك لا يزال ساريًا، إذ تجلس النساء في مؤخرة الحافلة وخلف حاجز. بيد أن نساء الخليج يقُلن أنهن يشعرن بحرية أكبر حين يزرن إيران مقارنة ببلدانهن، حيث تقول إحداهن أن كراهية النساء متجذرة في الدولة ربما أكثر في إيران، ولكنها ليست منظمة كما في الخليج.
تطغى النساء على الجامعات في إيران، وأحيانًا تشكلن ثلثا الطلبة، وهو ما دفع إلى مطالبات بوجود كوتة للرجال. كذلك أظهر استطلاع رأي أجري مؤخرًا أن ٨٠٪ من النساء غير المتزوجات لديهن علاقات خارج إطار الزواج.
لا يدلل على هذا التغيّر في إيران أكثر من النظر إلى قُم نفسها، العاصمة الدينية. فقُم، التي يتدفق لها الآلاف ليسمعون الخطب المعادية للغرب من قبل آيات الله، قد تخدعك بهذه القشرة. فالمدينة التي تضاعف سكانها عشر مرات، ليصل إلى مليون ونصف اليوم، تضاءلت فيها مكاتب الحكومة والحوزات العلمية، تحديدًا في شارع الشهيد الذي يسميه الناس شارع المرح، نظرًا لظهور مركز تسوق ضخم — وتُعرَض فيه سراويل النساء الضيقة دون تدخل.
الوافدون من طلبة علوم الدين وآيات الله أيضًا لهم من الخيرات جانب. فرُغم أنه يُفرَض عليهم ارتداء ملابس رجال الدين، ويقضون ساعات يوميًا في الدراسة، يقول واحد من أصحاب محال النظارات أنهم ينفقون لشراء أكثر أنواع النظارات بذخًا. يقول واحد من طلبة الحوزات العلمية، والحزين على هذه الحال: “الحرام يملأ العالم الشخصي للإيرانيين في قُم. لدينا هنا أعلى معدلات استهلاك للكحول في إيران.”
هذه هي إيران إذن، حيث يختلط النساء بالرجال بحرية في المقاهي، والتي اعتادت في السابق أن تغلق أبوابها مبكرًا، ولكنها تظل اليوم حتى المساء. غطاء الوجه الذي كان شائعًا يومًا ما بين النساء، منعته الدولة بعد أن استخدمه رجال لدخول مدرسة حكومية والاعتداء على الطالبات فيها.
الحالة الإيرانية ليست استثناءً، إذ يبدو أنها تقترب من النمط الأوربي. يقول دبلوماسي أوربي: “البلد هنا إسلامي بنفس المعنى الذي نعنيه حين نقول أن إيطاليا بلد كاثوليكي. الكل هنا بشكل رسمي مؤمن، ولكن في بيوتنا الجميع يغش. يغش في دفع الضرائب، وحتى يغش زوجته”.
(4) الهلال الشيعي والكمّاشة السلفية
لطالما راودت إيران طموحات كبرى فيما يخص دورها الإقليمي، لا سيما قيادة العالم الإسلامي، بما فيه العالم العربي والخليج الذي انطلق منه الإسلام إليها في الأصل، رُغم كونها معزولة ثقافيًا نسبيًا نظرًا لمذهبها ولغتها، وانفصالها السياسي لعقود عن العرب على عكس الأتراك الذين حكموا المنطقة حتى أوائل القرن العشرين.
شرعت إيران بُعَيد نهاية الحرب مع العراق، في تطوير علاقاتها العربية، لا سيما نظام الأسد، والذي أصبحت راعيه الأول بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، كما طورت علاقاتها قدر الإمكان لفك عزلتها الدولية مع دول أفريقيا وأمريكا اللاتينية، مثل السودان وفنزويلا وغيرهما. كذلك، وطدت إيران علاقاتها بلاعبين آخرين غير الدول القومية، مثل حزب الله، والذي يُعَد الآن لاعبًا أساسيًا في لبنان، وحماس في فلسطين، والميليشيات الشيعية في العراق التي انتشرت إبان سقوط نظام صدام.
بعد حادثة الحادي عشر من سبتمبر، قدمت الولايات المتحدة هديتين على طبق من ذهب للنظام الإيراني: إزاحة النظامين المعاديين لإيران في أفغانستان (2001) والعراق (2003)، وقد عملت إيران بلا تواني منذ ذلك الحين لتعزيز مكتسبات حلفائها في البلدين. يخشى جيران إيران السنة من الهلال الشيعي الذي تطمح له، والممتد من طهران عبر بغداد ودمشق وإلى بيروت، وقد دأب أعداؤها، وهم السعودية وإسرائيل بشكل رئيسي، على جذب أنظار العالم لبرنامجها النووي وضرورة وضع الخيار العسكري ضدها على الطاولة. بيد أن الولايات المتحدة التي خاضت حروبًا مكلّفة في أفغانستان والعراق لم يكن باستطاعتها تبني ذلك الخيار، لا سيما بالنظر للرأي العام الأمريكي الحالي، واهتمام أمريكا المنصب على شرق آسيا.
شاءت الأقدار إذن أن تدخل الولايات المتحدة بسهولة دولًا مجاورة لإيران كالعراق وأفغانستان في مطلع القرن الحالي، لتُفسِح لإيران مجالًا للتمدد، وألا يكون باستطاعتها اليوم دخول دول مثل سوريا بشكل مباشر كما أرادت في وقت ما لأسباب كثيرة. يقول الكثيرون أن ما جرى ببساطة وضع إيران في موقع قوة يحسدها عليه كثيرون. ولكن هل هذا حقيقي فعلًا؟
ربيع المفاجأت العربي
حين بدأ الربيع العربي في 2011، بدا الأمر فرصة للتمدد مجددًا من المنظور الإيراني، حيث كانت الثورات موجهة لبلدان حكمتها نظم علمانية، أو نظم ادّعت أنها علمانية، في مقابل صعود المجموعات المرتبطة بالإخوان المسلمين، والذين اعتبرتهم إيران حلفاء مستقبليين لها، لا سيما وقد أثاروا قلق الدول السنية الكبرى المعادية لإيران مثل السعودية.
غير أن الربيع أثبت مع الوقت أنه لم يكن مماثلًا لما جرى في إيران عام 1979، بل على العكس، كان أكثر شبهًا بالاحتجاجات التي جرت في إيران عام 2009. أضف إلى ذلك أن الربيع لم يكن موجهًا ضد علمانية النظم التي قامت ضده بقدر ما قام ضد المظالم الواقعة على الشباب، وهم شباب لم يكن الكثير منهم مهتم بالرؤى الإسلامية ولا بمعاداة الغرب، وحتى الكثير من الحركات الإسلامية لم تتبنى الرؤية الإيرانية بقدر ما جذبها النموذج التركي.
كان الربيع العربي يخبّئ لإيران الصدمة الأكبر، والتي وقعت باهتزاز أركان نظام بشار الأسد في سوريا. ورُغم أنه لم يسقط حتى الآن، إلا أن إيران تحارب من أجله حربًا مريرة، لا تستنزف قوتها فقط، خصوصًا بعد صعود داعش، بل وتدمر شعبيتها وشعبية حلفاء لها كحزب الله بين العرب السنة، وهي شعبية بُنيَت على مدى سنوات طويلة، كما تثير المعارضة في الداخل، والذي يعارض الإنفاق المستمر للموارد التي يرى الإيرانيون أنهم أولى بها. فقدت إيران أيضًا علاقتها القوية بحماس، والتي ابتعدت عن نظام الأسد وغلبت كفة الانتماء العربي السني على حساب المصلحة الآنية الضيقة.
لم يكن هذا فقط ما خبأه المستقبل لإيران، إذ امتدت مؤخرًا نيران الحرب السورية إلى العراق لتهز الحليف الثاني المتمركز في بغداد حيث يقبع نظام شيعي آخر، مستحوذة على مساحات شاسعة من غرب البلاد. تلك المرة لم يكن الربيع هو السبب، بل أسوأ، واحدة من أكثر التنظيمات الإسلامية السنية تطرفًا وكرهًا للشيعة — داعش.
لم يعد هناك هلال شيعي يتمدد إذن بهدوء، كما كان على مدار العقد المنصرم، متشحًا بالراية الإسلامية الجامعة ومعاداة إسرائيل والولايات المتحدة. فقد أسفر الربيع العربي وما تلاه عن كمّاشة سلفية تحيط بإيران تدريجيًا، خصوصًا وطالبان تنتفض مجددًا في أفغانستان، لم تعد معها إيران تستطيع إخفاء وجهها الحقيقي. هذه الحرب العلنية بين السنة والشيعة في المنطقة تهدد إيران، الشيعية المعزولة، أكثر من أي دولة أخرى.
ها هي إيران إذن تعود للعزلة النسبية مجددًا. فحتى الصين، وهي المشتري الأكبر لنفط إيران، صوتت لصالح العقوبات على إيران، فالعملاق الصيني الاقتصادي البراجماتي أصبح حساسًا مؤخرًا للتمرد المسلح، أيًا كان مصدره. السودان كذلك طردت في أغسطس الماضي دبلوماسيًا إيرانيًا وأغلقت مركزها الثقافي، كما تم حبس عميل إيراني في نيجيريا التي تشهد هي الآخرى انتفاضة سنية تقودها بوكو حرام.
فليرقد الخميني في سلام
انتهت صلاحية حلم قيادة العالم الإسلامي ضد الغرب الذي وضعه الخميني. فمصالح الغرب لم تعد متنافرة مع مصالح إيران كما في السابق، بالنظر لمواقفهما من داعش وطالبان، وهي تتفاوض معه علنًا الآن بشأن برنامجها النووي وتتبنى خطاب محاربة الإرهاب الرائج بين ساسته، عوضًا عن خطاب الموت لأمريكا الذي ظل حتى رحيل الرئيس السابق أحمدي نجاد. “في السابق، كانت إيران تستخدم خطابها الأيديولوجي لترسيخ قوتها. اليوم هي تستخدم قوتها لترسيخ أيديولوجيتها”، هكذا يقول أحد المحللين.
على إيران الآن أن تتعاون مع القوى المختلفة في المنطقة والعالم، والتي تشاركها هدف الحفاظ على المنظومة كما هي، وإن ظل خطابها ثوريًا، وذلك لأن المكتسبات التي بنتها بهذا الخطاب الثوري في الثمانينيات والتسعينيات، أصبحت اليوم للمفارقة جزءًا من الأمر الواقع الذي هب الربيع العربي بوجهه.
بالفعل، اتخذت حكومة الرئيس روحاني خطوات لتطبيع العلاقات مع الدول المجاورة، مدفوعة بالأساس بالقلق من داعش التي قلبت حسابات الجميع. فقد عقدت الجمهورية الإسلامية محادثات، ليس مع الغرب فقط، ولكن مع دول الخليج، بما فيها السعودية، والتنسيق العسكري يمكن أن يكون نتيجة محتملة لهذه العلاقات في مواجهة عدو مشترك. رُغم أن التنسيق غير مرجح مع الخليج حتى اللحظة، إلا أنه جارٍ بالفعل مع الولايات المتحدة لحماية الأهداف المشتركة في العراق، حيث أفسحت الطائرات الأمريكية المجال للميليشيات الشيعية على الأرض لمساعدة بغداد. بالطبع، قدمّت إيران بعض التنازلات أيضًا، أبرزها التخلي عن المالكي، رئيس الوزراء العراقي السابق.
لا تزال السياسة في الشرق الأوسط صراع محتدم على النفوذ بالأساس، ولكن القوى الكبرى، التي مرت بتلك المرحلة في وقت سابق، تعرف أن الحميع سيجلس في مرحلة ما ويتفاوض لأجل سلام طويل الأجل، تعتمد بالطبع قابلية حدوث انفراجة في المنطقة على المحادثات بشأن البرنامج النووي، ولكن التوصل لاتفاق مع الغرب لن يحل وحده أزمات الشرق الأوسط، فالاتفاق قد يزيل الخيار العسكري ضد إيران من على طاولة الغرب، ولكن الشك سيظل متبادلًا لوقت طويل بين إيران والسعودية.
إذا تم التوصل بالفعل لاتفاق، ستتمكن إيران من تعزيز مكانتها الإقليمية، وقد يؤدي هذا إلى تخفيض تعداد القوات الأمريكية في الخليج، والتي ازدادت على مدار العقود الماضية لاحتواء الخطر الإيراني ليس إلا (لم يكن للولايات المتحدة وجود تقريبًا على شواطئ الخليج الفارسي قبل عام 1986، في حين تضع اليوم 35 ألفًا من قواتها في قواعد بالخليج). بتحولّ أنظار واشنطن نحو شرق آسيا، وخفض الميزانية العسكرية الخاصة بها، وثورة غاز شيل الذي سيجعل الولايات المتحدة أقل اعتمادًا على الطاقة الآتية من المنطقة، سيكون من الممكن تخيّل حدوث ذلك إبان التوصل لتسوية في الشرق الأوسط.
ظهرت مؤخرًا بوادر ابتعاد الإدارة الأمريكية بالفعل عن حلفائها التقليديين بالمنطقة، وتحوّلها نحو موازنة القوى المختلفة بدلًا من ترجيح كفة معسكر على آخر، وإن ظل المحللون التقليديون على اعتقادهم بأن هذه ما هي إلا مناورات وتمويهات أمريكية من قبل واشنطن التي لم ولن تغيّر مواقفها. إذا استطاعت إيران أن ترى هذا، وتستغله لصالحها، فهي على موعد مع مكاسب كبيرة.