فضيلة الشيخ عبدالله الجبرين (إمام من أئمة أهل السنة)
يقول الشيخ العلامة عبداله بن عبدالرحمن الجبرين رحمه الله : أما بالنسبة إلى ذمهم فمثلا فسروا قول الله تعالى:يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ يقولون: (الجبت): أبو بكر و (الطاغوت): عمر قاتلهم الله أنى يؤفكون، هكذا أكاذيبهم.
يقولون كذلك تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ يَدَا أَبِي لَهَبٍيقولون: هما أبو بكر وعمر قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً يقولون: عائشة بنت أبي بكر هي البقرة التي أمروا أن يذبحوها، أعاجيب وأكاذيب، لكن كيف راجت عليهم؟ لأنهم سلبوا المعرفة وما زالوا على هذه العقيدة، وما زالوا مصرين عليها، يعني غلاتهم. في آخر ولاية بني أمية، خرج رجل من ذرية علي وهو أخو زين العابدين اسمه زيد بن الحسين ولما خرج دعا الناس إلى بيعته، فجاءه بعض الذين في العراق، فقالوا: نبايعك على أن تتبرأ من أبي بكر وعمر وذلك لأنهم قد ارتسم في أذهانهم أنهما أكفر من أبي جهل وفرعون فلا بد أن يتبرأ منهما، ولكنه رضي الله عنه امتنع من ذلك وقال: هما صاحبا جدي فلا أتبرأ منهما، قالوا: إذن نرفضك، فرفضوه، فمن ثم عرفوا بهذا الاسم، هذا هو اسمهم الذي ينطبق عليهم في ذلك الوقت، هم الآن لا يعترفون به، بل يشنعون على من سماهم بهذا الاسم مع أنهم هم الذين سموا أنفسهم وسماهم زيد أخو أحد أئمتهم، الذي هو زين العابدين أحد الأئمة الاثني عشر، ثم إن الذين بايعوه سموا بالزيدية، فالزيدية هم الذين يوالون أبا بكر وعمر وأكثر الصحابة، ولكنهم يتبرءون من بني أمية،
أما الذين خالفوه فهم معروفون بالرافضة. أما تسميتهم بالشيعة فهم يتمدحون بذلك، ويقولون: نحن من شيعة علي من شيعته يعني: أنصاره، الشيعة في الأصل هم: الأنصار والأعوان، كقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ وكقوله تعالى: هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ يعني: أتباعه، لكنهم في الأصل نسميهم نحن شيعا، والشيع هم الفرق الضالة الذين ذمهم الله بقوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ . الأصل: أنهم فِرَق كثيرة متشعبة، منهم الباطنية، الذين خرجوا في أواخر القرن الثالث وصار لهم قوة ونفوذ، وهم الذين في سنة 317 هـ قتلوا الحُجَّاج في الحرم وهم يطوفون بالبيت، دخلوا مع كبيرهم وقائدهم على أنهم حُجاج، ولما توسطوا في المسجد الحرام سلوا سيوفهم وأخذوا يقتلون الحُجاج في الحرم نفسه، فصار الحُجاج يلوذون بالكعبة ويتعلقون بأستارها، ولكن كبيرهم جعل يقتلهم وهم كذلك ويقول:
وأخذ كسوة الكعبة وشققها بين أصحابه، وقلع الحجر الأسود وذهب به معه إلى بلاده، وبقى معهم إلى سنة 332 هـ حيث ضعفت دولتهم وقويت دولة الإسلام وهددوا بأن يردوه وإلا غزاهم المسلمون وقتلوهم، فردوه وهم كارهون والحمد لله وأعيد إلى مكانه. هذه الطائفة من أكفر الطوائف ومن أخبثها، وذلك أن بعض العلماء يقول: إنهم يظهرون الرفض، ولكنهم كذبة، فظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض، ولا شك أن ورثتهم اليوم الذين يظهرون أنهم مع المسلمين، وأنهم بين المسلمين، ويظهرون أنهم إخواننا كما يقولون، ويدعون إلى التقارب، ويدعون أنهم على الحق، وأن مذهبهم الذي يذهبون إليه كسائر المذاهب الفرعية كمذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد وكذبوا؛ لأنهم مخالفون للمسلمين في العقيدة التي هي الأصل والأساس، فكيف يجتمعون مع المسلمين وكيف يأمنهم المسلمون؟ ولا شك أنهم يضمرون للمسلمين العداوة والبغضاء، ولعلكم تحفظون من الحكايات عنهم أكثر مما أحفظ، ولقد بلغكم أو بلغ أفرادكم أكثر مما بلغني، إذن فهم أعداء لله وأعداء للإسلام والمسلمين، فلا يغتر بدعوتهم إلى ما يسمونه: التقريب، ولا شك أن هذا الاعتقاد كفر وضلال، وعلى المسلم أن يعرف أعداء الله، وأن لا ينخدع بدعاياتهم وبأقوالهم وبما هم عليه، بل نأخذ حذرنا منهم. نقول: إذا عرفنا سبب نشأتهم، فما موقف الأولين منهم؟ العلماء الأولون كانوا منتبهين لهم في القرن الأول، إنهم كانوا يتسترون في القرن الأول وفي القرن الثاني والثالث ولا يظهرون أمرهم، ولكن مع الأسف، تولوا ولايات ووثق بهم أكثر العامة، وصاروا يروون عنهم تلك الأخبار، وصار منهم إخباريون وإن لم يكونوا من غُلاتهم، ولذلك دخل الكذب في كتب التاريخ بسبب الرواية عنهم، أو عن كثير منهم، فتجدون مثلا في كتب التاريخ حتى ما يكتبه أهل السنة، الكتب التاريخية مملوءة بما يدل على أنه من وضع أعداء الصحابة.
فمثلا من المشهورين بالأخبار شيعي من الغلاة ولكن يقولون: إنه يروي الأخبار ويحفظها يقال له: لوط بن يحيى ويشتهر بأبي مخنف يروون عنه في كتب التاريخ، فيقول ابن جرير قال أبو مخنف وذكر عن أبي مخنف هذا الراوي يظهر أنه من أهل السنة، ولكنه يميل إلى من يعادون الصحابة، دليل ذلك أنه يتتبع أخبار أهل البيت ويبالغ في نقلها ويطيل فيها، ويتابعها المتابعة الزائدة، ويستقصي أخبارها، فمثلا في تاريخ ابن جرير مقتل الحسين واقعة واحدة قتل فيها الحسين ومعه من أهل البيت نحو الأربعين، ففي العادة أن مثل هذه الواقعة يكفيها ثلاث صفحات أو أربع صفحات، ولكن استغرقت نصف مجلد، أي أكثر من 250صفحة من تاريخ ابن جرير والذي اعتماده على هؤلاء الإخباريين، فابن جرير -رحمه الله- من أهل السنة، ولكن بلاده طبرستان في إيران كانت مليئة في زمانه بهؤلاء الذين يبغضون الصحابة فكانوا يدخلون عليه شيئًا من أخبارهم وإن كان محدثًا ومفسرًا وإمامًا إلا أنه انخدع بهم، ألّف كتابًا في مجلدين في خبر غدير خم يقول ابن كثير ذكر فيه ما لم يصلح أن يذكر، حشد فيه الطيب والخبيث، والغث والسمين، والصحيح والسقيم، واستوفى فيه -كعادة المؤلفين في ذلك الوقت- ما بلغه من حق وباطل، وذلك دليل على أنه قد كثرت عنده تلك الأخبار، وهو دليل كذلك على أن أخبار أعداء الدين في ذلك الزمان قد اشتهرت.
وفي القرن الرابع استولى على العراق - بل وعلى مصر وعلى إيران ونحوها- دولةٌ يقال لها: بنو بُويه وهذه الدولة ممن يعادون الصحابة رضوان الله عليهم، مع أن الخلافة لبني العباس، ولكن هؤلاء من جملة السلاطين الذين يديرون الخلافة وهم شيعة أعلنوا مذهب الرفض وزادوا فيه وتوغلوا فيه، ونشروه النشر الزائد، وانتشر في زمانهم وتمكن في العراق لأنها وطنهم، وتمكن في إيران وما حولها، وصاروا يدعون إليه بالقول وبالفعل، ويشجعون كل من يعتنقه ويولونه الولايات، ولا شك أن هذه من الدعايات التي ساهمت في تمكين هذا المذهب، وإلا فهو مذهب باطل خبيث.
ولما تمكن وكثر معتنقوه صار لهؤلاء مراجع ولهم مؤلفات، وصاروا يحشدون في الكتب التي يؤلفون في مذهبهم وفي تقرير معتقدهم ما لا يصدقه العقل، ثم انتشر هذا المذهب وانتشرت كتبهم، وعندهم الآن من الكتب ما لا يحصيه العدد وكله يؤيد هذا المذهب.
ولما انتشرت تلك المؤلفات فيما بينهم وكثر المؤلفون تمكن وظهر وقوي، وانخدع به من انخدع، ولا يزالون يخدعون الناس إلى هذا اليوم،
لا يزالون يزينون للناس اعتقاد هذا المذهب الباطل واعتناقه، وينخدع كثير من الناس بحسن معاملتهم، وبملاطفتهم ولين الكلام منهم ومدحهم في أنفسهم ويقولون: إن معهم شيئًا من الأخلاق ومن الأدب ومن الصدق ومن الوفاء بالوعد ومن كذا وكذا، يجتذبون الناس بمثل هذه المعاملة اللينة، وإلا فالأصل أنهم كفرة وعقائدهم سيئة، نقول هذا بموجب ما يحكى لنا عنهم، ولا أتجرأ أن أذكر تلك الحكايات التي يذكرها لنا بعض الإخوان الذين اشتغلوا معهم من احتيالهم على أهل الخير والصلاح ومقتهم وبغضهم لهم وحقدهم عليهم، ولكن ينخدع الكثير بإعلاناتهم وبدعاياتهم أنهم مسلمون، وأنهم على مذهب متبع ومعترف به. ويذكر لنا بعض المشايخ الذين عملوا في مناطقهم أنهم وجدوا أهل السنة هناك يعتقدون أنهم مسلمون، وليس بينهم من الفَرق إلا كما بين من يقول: إني شافعي وإني مالكي، ولم يدروا أنهم على باطل حتى ظهر لهم الحق، لا شك أن هذا هو المعتقد السيئ عندهم.
نقول: لما كان الأمر كذلك اهتم العلماء -رحمهم الله- بذكر فضائل السلف وفضائل الصحابة رضي الله عنهم، وذكروا ذلك في عقائدهم كما ذكر ذلك الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى، وكما ذكر ذلك أصحاب العقائد نظمًا ونثرًا، يقول أبو الخطاب الكلوذانى في عقيدته . مبينًا فضل الصحابة وعلى رأسهم الخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم:
وعلى هذا فقد اهتم السلف بذكر فضائل الصحابة في العقيدة؛ لأنا لو نزلنا على عقيدتهم لرددنا الكتاب والسنة، فمن أين جاءنا الكتاب إلا بواسطتهم، ومن أين جاءتنا الأحاديث النبوية إلا عن نقلهم، فإذا كانوا كفارًا -كما يقول هؤلاء- فإن أخبارهم لا تقبل.
أما شبههم التي يرمون بها أهل السنة، فمنها الآيات التي ذكرت في المنافقين، فإنهم يحملونها على الصحابة رضي الله عنهم، فمثلا قول الله تعالى في قصة بدر: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ قالوا: هؤلاء جادلوا الرسول كأنما يساقون إلى الموت، فقد كفروا بذلك لما جادلوا الرسول، فكفروهم بذلك والله تعالى ما كفرهم،وسماهم مؤمنين وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ كيف تكفرونهم مع أن الله تعالى سماهم بالمؤمنين؟ نعم كرهوا مقابلة الكفار مخافة أن يقضى عليهم وهم عدة الإسلام والمسلمين، ومعهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومعهم خيار الصحابة، ولكن الله تعالى نصرهم وأيدهم، وسبب هذه الكراهية، وهذه المجادلة أنهم يقولون: إنما ذهبنا إلى العير، فيقال: هل يخرجهم من الإيمان؟ الجواب أنه ما أخرجهم، ولكن هؤلاء السفهاء جعلوه كالدليل على أنهم كفارٌ، فلأجل ذلك كفروهم بمثل ذلك.
وذكروا آية ثانية وهي الآية التي في آخر سورة الجمعة، وهي قول الله تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قالوا: هؤلاء الذين انفضوا عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو يخطب وتركوه قائمًا ارتدوا بذلك، هكذا قالوا، مع أن الله تعالى لم يكفرهم بذلك بل أقرهم على هذا وعفا عنهم. ثم نقول: من هم الذين بقوا ومن الذين نفروا، ومعلوم أنهم خرجوا ينظرون إلى هذه الإبل، ثم رجعوا وأتموا صلاتهم ولا يليق بهم أن يتركوا الصلاة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قد يكون معهم بعض أهل البيت، قد يكون معهم سلمان -رضي الله عنه- وقد يكون معهم بعض الذين يمدحونهم كعمار وصهيب رضي الله عنهما وغيرهم. وما دام كذلك فلا حجة لهم في مثل هذه الآيات التي يستدلون بها، ثم لو قدر أنهم صادقون وأن تلك الأشياء وقعت منهم حقيقة، فهل يليق أن نكفرهم بها؟ لا يليق بنا ذلك فلهم من السوابق ما يكفر به عنهم إذا صدر منهم أي ذنب من الذنوب، فنقول: لعلهم قد تابوا منه، والتوبة تجب ما قبلها، أو محيت عنهم بسوابقهم وحسناتهم التي عملوها، وسوابقهم وأعمالهم مضاعفة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا تسبوا أحدًا من أصحابي؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهبًا ما أدرك مُدّ أحدهم ولا نَصيفه فالحسنات يُذهبن السيئات، فكيف ننسى حسناتهم ونتذكر أشياء طفيفة وسيئات خفيفة، على حد قول بعضهم:
ينقبون الذرات والأشياء الصغيرة عليهم وينسون فضائلهم وجهادهم، ولكنهم قوم لا يفقهون. إذن فعلى المسلم أن تكون عقيدته نحو الصحابة محبتهم، والترضي عنهم، والثناء عليهم، والاعتراف بما لهم من المزية وبما لهم من السبق، ومعرفة أنهم خير قرون هذه الأمة، لم يكن ولا يكون مثلهم، وأن فضائلهم لا يدركها غيرهم، فإذا اعترفنا بذلك عرفنا بذلك كُفر مَن كفّرهم وضلال من ضلّلهم، وبعد الذين عادوهم ونصبوا لهم العداوة، بل نصب العداوة لكل من والاهم من أهل السنة والجماعة، وما علينا إلا أن نشهر ونعلن فضائل الصحابة كما أعلنها وكما أشهرها الأئمة قبلنا، وقد ذكرنا أن العلماء أظهروا فضائلهم؛ فالبخاري في الصحيح جعل كتابًا في صحيحه لفضائل الصحابة بدأها بفضائل الخلفاء الأربعة، وهكذا فعل مسلم في كتابه كتاب فضائل الصحابة، وهكذا فعل الترمذي وهكذا ألف الإمام أحمد كتابه: فضائل الصحابة المشهور، وهكذا الكتب المؤلفة في ذلك. كل ذلك في الثناء على الصحابة وعلى أتباعهم، فإذا قرأ المسلم تلك الأخبار وعرف صحتها، عرف بذلك أن من عاداهم فهو ضال مضل، خارج عن الإسلام، طاعن في عقيدة الإسلام، بل في أصل الإسلام الذي هو الكتاب والسنة. أما ما يتعلق بأحوال هؤلاء الذين يبغضون الصحابة وأعمالهم، فهم وأعمالهم والعياذ بالله في ضلال نبرأ إلى الله منهم ومن عقائدهم ومن أعمالهم السيئة، ونتمسك بما نحن عليه، ونسأل الله أن يحيينا على محبة الخير وأهله، وأن يميتنا وإخواننا المسلمين على الإسلام والتمسك بالسنة.
وبعد ذلك نقول إن صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- هم الذين اجتمعوا به بعد إسلامهم، وأدركوا حياته، ورأوه وهم مؤمنون مصدقون به، وقد اشتهر أنهم جاهدوا معه، وأنفقوا أموالهم في سبيل الله، ونصرة لرسوله، وقد مدحهم الله تعالى في القرآن الكريم، كقوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا وهذا الوصف يعم جميع المهاجرين الذين ذكرهم الله تعالى بقوله: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ فإنهم تركوا بلادهم وعشائرهم وأموالهم، حبا لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وتصديقًا بالرسالة، مع ما لقوه قبل الهجرة من الأذى والعذاب في الله تعالى. ثم تكبدوا الصعوبات في سفر الهجرة، وركبوا الأخطار، ثم إن العرب جميعًا رمتهم بقوس العداوة، وقاطعتهم، فتعرضوا لحرب جميع البشر من العرب وغيرهم، ولا شك أن الحامل لهم قوة الإيمان، والجزم بصحة ما هم عليه، والثقة بنصر الله تعالى الذي ذكره في قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا وقد أخبرهم قبل ذلك بأنهم سوف يبتلون ويختبرون، فقال تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ولهذا لما تسلط عليهم الأحزاب، وضيقوا عليهم، ثبتوا وقالوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا .
وقد أخبر الله تعالى بأنه قد رضي عنهم كما في قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ومن رضي الله عنه فقد غفر له ورضي عمله فلا يسخط بعد ذلك عليهم، بل يوفقهم ويحميهم، ويتوفاهم على الإسلام.
ولقد ورد في السنة ما يدل على فضلهم على من بعدهم، كقوله صلى الله عليه وسلم:خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم الحديث، ويريد بالقرن: أهله، ففضل أصحابه على من بعدهم، وكذا نهي عن سبهم بقوله: لا تسبوا أحدًا من أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحد ذهبًا ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه وروى مسلم في حديث أبي بردة عن أبيه قال: صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء! قال فجلسنا. فخرج علينا. فقال (مازلتم ههنا؟)، قلنا: يا رسول الله! صلينا معك المغرب. ثم قلنا: نجلس حتى نصلي معك العشاء. قال: (أحسنتم أو أصبتم)، قال فرفع رأسه إلى السماء. وكان كثيرًا ما يرفع رأسه إلى السماء.فقال: (النجوم أمنةٌ للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما تُوعَدُ، وأنا أمنةٌ لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنةٌ لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون أي: من الفتن والخلاف وكثرة البدع.
يقول الشيخ العلامة عبداله بن عبدالرحمن الجبرين رحمه الله : أما بالنسبة إلى ذمهم فمثلا فسروا قول الله تعالى:يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ يقولون: (الجبت): أبو بكر و (الطاغوت): عمر قاتلهم الله أنى يؤفكون، هكذا أكاذيبهم.
يقولون كذلك تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ يَدَا أَبِي لَهَبٍيقولون: هما أبو بكر وعمر قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً يقولون: عائشة بنت أبي بكر هي البقرة التي أمروا أن يذبحوها، أعاجيب وأكاذيب، لكن كيف راجت عليهم؟ لأنهم سلبوا المعرفة وما زالوا على هذه العقيدة، وما زالوا مصرين عليها، يعني غلاتهم. في آخر ولاية بني أمية، خرج رجل من ذرية علي وهو أخو زين العابدين اسمه زيد بن الحسين ولما خرج دعا الناس إلى بيعته، فجاءه بعض الذين في العراق، فقالوا: نبايعك على أن تتبرأ من أبي بكر وعمر وذلك لأنهم قد ارتسم في أذهانهم أنهما أكفر من أبي جهل وفرعون فلا بد أن يتبرأ منهما، ولكنه رضي الله عنه امتنع من ذلك وقال: هما صاحبا جدي فلا أتبرأ منهما، قالوا: إذن نرفضك، فرفضوه، فمن ثم عرفوا بهذا الاسم، هذا هو اسمهم الذي ينطبق عليهم في ذلك الوقت، هم الآن لا يعترفون به، بل يشنعون على من سماهم بهذا الاسم مع أنهم هم الذين سموا أنفسهم وسماهم زيد أخو أحد أئمتهم، الذي هو زين العابدين أحد الأئمة الاثني عشر، ثم إن الذين بايعوه سموا بالزيدية، فالزيدية هم الذين يوالون أبا بكر وعمر وأكثر الصحابة، ولكنهم يتبرءون من بني أمية،
أما الذين خالفوه فهم معروفون بالرافضة. أما تسميتهم بالشيعة فهم يتمدحون بذلك، ويقولون: نحن من شيعة علي من شيعته يعني: أنصاره، الشيعة في الأصل هم: الأنصار والأعوان، كقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ وكقوله تعالى: هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ يعني: أتباعه، لكنهم في الأصل نسميهم نحن شيعا، والشيع هم الفرق الضالة الذين ذمهم الله بقوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ . الأصل: أنهم فِرَق كثيرة متشعبة، منهم الباطنية، الذين خرجوا في أواخر القرن الثالث وصار لهم قوة ونفوذ، وهم الذين في سنة 317 هـ قتلوا الحُجَّاج في الحرم وهم يطوفون بالبيت، دخلوا مع كبيرهم وقائدهم على أنهم حُجاج، ولما توسطوا في المسجد الحرام سلوا سيوفهم وأخذوا يقتلون الحُجاج في الحرم نفسه، فصار الحُجاج يلوذون بالكعبة ويتعلقون بأستارها، ولكن كبيرهم جعل يقتلهم وهم كذلك ويقول:
أنـا باللـه وبالله أنا | يخلق الخلق وأفنيهم أنا |
وأخذ كسوة الكعبة وشققها بين أصحابه، وقلع الحجر الأسود وذهب به معه إلى بلاده، وبقى معهم إلى سنة 332 هـ حيث ضعفت دولتهم وقويت دولة الإسلام وهددوا بأن يردوه وإلا غزاهم المسلمون وقتلوهم، فردوه وهم كارهون والحمد لله وأعيد إلى مكانه. هذه الطائفة من أكفر الطوائف ومن أخبثها، وذلك أن بعض العلماء يقول: إنهم يظهرون الرفض، ولكنهم كذبة، فظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض، ولا شك أن ورثتهم اليوم الذين يظهرون أنهم مع المسلمين، وأنهم بين المسلمين، ويظهرون أنهم إخواننا كما يقولون، ويدعون إلى التقارب، ويدعون أنهم على الحق، وأن مذهبهم الذي يذهبون إليه كسائر المذاهب الفرعية كمذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد وكذبوا؛ لأنهم مخالفون للمسلمين في العقيدة التي هي الأصل والأساس، فكيف يجتمعون مع المسلمين وكيف يأمنهم المسلمون؟ ولا شك أنهم يضمرون للمسلمين العداوة والبغضاء، ولعلكم تحفظون من الحكايات عنهم أكثر مما أحفظ، ولقد بلغكم أو بلغ أفرادكم أكثر مما بلغني، إذن فهم أعداء لله وأعداء للإسلام والمسلمين، فلا يغتر بدعوتهم إلى ما يسمونه: التقريب، ولا شك أن هذا الاعتقاد كفر وضلال، وعلى المسلم أن يعرف أعداء الله، وأن لا ينخدع بدعاياتهم وبأقوالهم وبما هم عليه، بل نأخذ حذرنا منهم. نقول: إذا عرفنا سبب نشأتهم، فما موقف الأولين منهم؟ العلماء الأولون كانوا منتبهين لهم في القرن الأول، إنهم كانوا يتسترون في القرن الأول وفي القرن الثاني والثالث ولا يظهرون أمرهم، ولكن مع الأسف، تولوا ولايات ووثق بهم أكثر العامة، وصاروا يروون عنهم تلك الأخبار، وصار منهم إخباريون وإن لم يكونوا من غُلاتهم، ولذلك دخل الكذب في كتب التاريخ بسبب الرواية عنهم، أو عن كثير منهم، فتجدون مثلا في كتب التاريخ حتى ما يكتبه أهل السنة، الكتب التاريخية مملوءة بما يدل على أنه من وضع أعداء الصحابة.
فمثلا من المشهورين بالأخبار شيعي من الغلاة ولكن يقولون: إنه يروي الأخبار ويحفظها يقال له: لوط بن يحيى ويشتهر بأبي مخنف يروون عنه في كتب التاريخ، فيقول ابن جرير قال أبو مخنف وذكر عن أبي مخنف هذا الراوي يظهر أنه من أهل السنة، ولكنه يميل إلى من يعادون الصحابة، دليل ذلك أنه يتتبع أخبار أهل البيت ويبالغ في نقلها ويطيل فيها، ويتابعها المتابعة الزائدة، ويستقصي أخبارها، فمثلا في تاريخ ابن جرير مقتل الحسين واقعة واحدة قتل فيها الحسين ومعه من أهل البيت نحو الأربعين، ففي العادة أن مثل هذه الواقعة يكفيها ثلاث صفحات أو أربع صفحات، ولكن استغرقت نصف مجلد، أي أكثر من 250صفحة من تاريخ ابن جرير والذي اعتماده على هؤلاء الإخباريين، فابن جرير -رحمه الله- من أهل السنة، ولكن بلاده طبرستان في إيران كانت مليئة في زمانه بهؤلاء الذين يبغضون الصحابة فكانوا يدخلون عليه شيئًا من أخبارهم وإن كان محدثًا ومفسرًا وإمامًا إلا أنه انخدع بهم، ألّف كتابًا في مجلدين في خبر غدير خم يقول ابن كثير ذكر فيه ما لم يصلح أن يذكر، حشد فيه الطيب والخبيث، والغث والسمين، والصحيح والسقيم، واستوفى فيه -كعادة المؤلفين في ذلك الوقت- ما بلغه من حق وباطل، وذلك دليل على أنه قد كثرت عنده تلك الأخبار، وهو دليل كذلك على أن أخبار أعداء الدين في ذلك الزمان قد اشتهرت.
وفي القرن الرابع استولى على العراق - بل وعلى مصر وعلى إيران ونحوها- دولةٌ يقال لها: بنو بُويه وهذه الدولة ممن يعادون الصحابة رضوان الله عليهم، مع أن الخلافة لبني العباس، ولكن هؤلاء من جملة السلاطين الذين يديرون الخلافة وهم شيعة أعلنوا مذهب الرفض وزادوا فيه وتوغلوا فيه، ونشروه النشر الزائد، وانتشر في زمانهم وتمكن في العراق لأنها وطنهم، وتمكن في إيران وما حولها، وصاروا يدعون إليه بالقول وبالفعل، ويشجعون كل من يعتنقه ويولونه الولايات، ولا شك أن هذه من الدعايات التي ساهمت في تمكين هذا المذهب، وإلا فهو مذهب باطل خبيث.
ولما تمكن وكثر معتنقوه صار لهؤلاء مراجع ولهم مؤلفات، وصاروا يحشدون في الكتب التي يؤلفون في مذهبهم وفي تقرير معتقدهم ما لا يصدقه العقل، ثم انتشر هذا المذهب وانتشرت كتبهم، وعندهم الآن من الكتب ما لا يحصيه العدد وكله يؤيد هذا المذهب.
ولما انتشرت تلك المؤلفات فيما بينهم وكثر المؤلفون تمكن وظهر وقوي، وانخدع به من انخدع، ولا يزالون يخدعون الناس إلى هذا اليوم،
لا يزالون يزينون للناس اعتقاد هذا المذهب الباطل واعتناقه، وينخدع كثير من الناس بحسن معاملتهم، وبملاطفتهم ولين الكلام منهم ومدحهم في أنفسهم ويقولون: إن معهم شيئًا من الأخلاق ومن الأدب ومن الصدق ومن الوفاء بالوعد ومن كذا وكذا، يجتذبون الناس بمثل هذه المعاملة اللينة، وإلا فالأصل أنهم كفرة وعقائدهم سيئة، نقول هذا بموجب ما يحكى لنا عنهم، ولا أتجرأ أن أذكر تلك الحكايات التي يذكرها لنا بعض الإخوان الذين اشتغلوا معهم من احتيالهم على أهل الخير والصلاح ومقتهم وبغضهم لهم وحقدهم عليهم، ولكن ينخدع الكثير بإعلاناتهم وبدعاياتهم أنهم مسلمون، وأنهم على مذهب متبع ومعترف به. ويذكر لنا بعض المشايخ الذين عملوا في مناطقهم أنهم وجدوا أهل السنة هناك يعتقدون أنهم مسلمون، وليس بينهم من الفَرق إلا كما بين من يقول: إني شافعي وإني مالكي، ولم يدروا أنهم على باطل حتى ظهر لهم الحق، لا شك أن هذا هو المعتقد السيئ عندهم.
نقول: لما كان الأمر كذلك اهتم العلماء -رحمهم الله- بذكر فضائل السلف وفضائل الصحابة رضي الله عنهم، وذكروا ذلك في عقائدهم كما ذكر ذلك الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى، وكما ذكر ذلك أصحاب العقائد نظمًا ونثرًا، يقول أبو الخطاب الكلوذانى في عقيدته . مبينًا فضل الصحابة وعلى رأسهم الخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم:
قــالوا: فمـن بعـد النبـي خليفــة؟ | قلــت: الموحــد قبــل كــل موحــد |
حاميـه فـي يـوم العـريش ومـن لـه | فـــي الغـار مسـعد يالــه مـن مسـعد |
خــير الصحابــة والقرابــة كــلهم | ذاك المؤيـــد قبـــل كـــل مؤيـــد |
قــالوا: فمـن صـديق أحمد ؟ قلت: من | تصديقــه بيــن الــورى لــم يجحــد |
قــالوا: فمن تـالي أبـي بكـر الرضا؟ | قلـت: الإمـارة فـــي الإمــام الأزهـدي |
فـاروق أحـــمد والمهــذب بعــده | نصــر الشـــريعة باللســان وبـاليـد |
قــالوا: فثـالثهم؟ فقلــت: مسـارعًا | مـــن بــايع المختـــار عنـه بـاليـد |
صهـر النبي علـى ابنتيـه ومـن حوى | فضليـــن فضــــل تلاوة وتهجــــد |
أعنـي ابـن عفــان الشهيد ومن دعي | فـي النـاس ذا النـورين صهــر محمــد |
قــالوا: فـرابعـهم؟ فقلـت: مبــادرًا | مـــن حــاز دونهــم أخــوة أحــمد |
زوج البتول وخـير من وطـئ الحـصى | بعــد الثلاثـــة والكــريـم المحــتـد |
أعنـــي أبا الحسـن الإمام ومــن له | بيــن الأنــام فضــائل لــم تجحـد |
وعلى هذا فقد اهتم السلف بذكر فضائل الصحابة في العقيدة؛ لأنا لو نزلنا على عقيدتهم لرددنا الكتاب والسنة، فمن أين جاءنا الكتاب إلا بواسطتهم، ومن أين جاءتنا الأحاديث النبوية إلا عن نقلهم، فإذا كانوا كفارًا -كما يقول هؤلاء- فإن أخبارهم لا تقبل.
أما شبههم التي يرمون بها أهل السنة، فمنها الآيات التي ذكرت في المنافقين، فإنهم يحملونها على الصحابة رضي الله عنهم، فمثلا قول الله تعالى في قصة بدر: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ قالوا: هؤلاء جادلوا الرسول كأنما يساقون إلى الموت، فقد كفروا بذلك لما جادلوا الرسول، فكفروهم بذلك والله تعالى ما كفرهم،وسماهم مؤمنين وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ كيف تكفرونهم مع أن الله تعالى سماهم بالمؤمنين؟ نعم كرهوا مقابلة الكفار مخافة أن يقضى عليهم وهم عدة الإسلام والمسلمين، ومعهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومعهم خيار الصحابة، ولكن الله تعالى نصرهم وأيدهم، وسبب هذه الكراهية، وهذه المجادلة أنهم يقولون: إنما ذهبنا إلى العير، فيقال: هل يخرجهم من الإيمان؟ الجواب أنه ما أخرجهم، ولكن هؤلاء السفهاء جعلوه كالدليل على أنهم كفارٌ، فلأجل ذلك كفروهم بمثل ذلك.
وذكروا آية ثانية وهي الآية التي في آخر سورة الجمعة، وهي قول الله تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قالوا: هؤلاء الذين انفضوا عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو يخطب وتركوه قائمًا ارتدوا بذلك، هكذا قالوا، مع أن الله تعالى لم يكفرهم بذلك بل أقرهم على هذا وعفا عنهم. ثم نقول: من هم الذين بقوا ومن الذين نفروا، ومعلوم أنهم خرجوا ينظرون إلى هذه الإبل، ثم رجعوا وأتموا صلاتهم ولا يليق بهم أن يتركوا الصلاة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قد يكون معهم بعض أهل البيت، قد يكون معهم سلمان -رضي الله عنه- وقد يكون معهم بعض الذين يمدحونهم كعمار وصهيب رضي الله عنهما وغيرهم. وما دام كذلك فلا حجة لهم في مثل هذه الآيات التي يستدلون بها، ثم لو قدر أنهم صادقون وأن تلك الأشياء وقعت منهم حقيقة، فهل يليق أن نكفرهم بها؟ لا يليق بنا ذلك فلهم من السوابق ما يكفر به عنهم إذا صدر منهم أي ذنب من الذنوب، فنقول: لعلهم قد تابوا منه، والتوبة تجب ما قبلها، أو محيت عنهم بسوابقهم وحسناتهم التي عملوها، وسوابقهم وأعمالهم مضاعفة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا تسبوا أحدًا من أصحابي؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهبًا ما أدرك مُدّ أحدهم ولا نَصيفه فالحسنات يُذهبن السيئات، فكيف ننسى حسناتهم ونتذكر أشياء طفيفة وسيئات خفيفة، على حد قول بعضهم:
ينسى من المعروف طَوْدًا شامخًا | وليس ينســـى ذرة ممـــن أســـا |
ينقبون الذرات والأشياء الصغيرة عليهم وينسون فضائلهم وجهادهم، ولكنهم قوم لا يفقهون. إذن فعلى المسلم أن تكون عقيدته نحو الصحابة محبتهم، والترضي عنهم، والثناء عليهم، والاعتراف بما لهم من المزية وبما لهم من السبق، ومعرفة أنهم خير قرون هذه الأمة، لم يكن ولا يكون مثلهم، وأن فضائلهم لا يدركها غيرهم، فإذا اعترفنا بذلك عرفنا بذلك كُفر مَن كفّرهم وضلال من ضلّلهم، وبعد الذين عادوهم ونصبوا لهم العداوة، بل نصب العداوة لكل من والاهم من أهل السنة والجماعة، وما علينا إلا أن نشهر ونعلن فضائل الصحابة كما أعلنها وكما أشهرها الأئمة قبلنا، وقد ذكرنا أن العلماء أظهروا فضائلهم؛ فالبخاري في الصحيح جعل كتابًا في صحيحه لفضائل الصحابة بدأها بفضائل الخلفاء الأربعة، وهكذا فعل مسلم في كتابه كتاب فضائل الصحابة، وهكذا فعل الترمذي وهكذا ألف الإمام أحمد كتابه: فضائل الصحابة المشهور، وهكذا الكتب المؤلفة في ذلك. كل ذلك في الثناء على الصحابة وعلى أتباعهم، فإذا قرأ المسلم تلك الأخبار وعرف صحتها، عرف بذلك أن من عاداهم فهو ضال مضل، خارج عن الإسلام، طاعن في عقيدة الإسلام، بل في أصل الإسلام الذي هو الكتاب والسنة. أما ما يتعلق بأحوال هؤلاء الذين يبغضون الصحابة وأعمالهم، فهم وأعمالهم والعياذ بالله في ضلال نبرأ إلى الله منهم ومن عقائدهم ومن أعمالهم السيئة، ونتمسك بما نحن عليه، ونسأل الله أن يحيينا على محبة الخير وأهله، وأن يميتنا وإخواننا المسلمين على الإسلام والتمسك بالسنة.
وبعد ذلك نقول إن صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- هم الذين اجتمعوا به بعد إسلامهم، وأدركوا حياته، ورأوه وهم مؤمنون مصدقون به، وقد اشتهر أنهم جاهدوا معه، وأنفقوا أموالهم في سبيل الله، ونصرة لرسوله، وقد مدحهم الله تعالى في القرآن الكريم، كقوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا وهذا الوصف يعم جميع المهاجرين الذين ذكرهم الله تعالى بقوله: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ فإنهم تركوا بلادهم وعشائرهم وأموالهم، حبا لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وتصديقًا بالرسالة، مع ما لقوه قبل الهجرة من الأذى والعذاب في الله تعالى. ثم تكبدوا الصعوبات في سفر الهجرة، وركبوا الأخطار، ثم إن العرب جميعًا رمتهم بقوس العداوة، وقاطعتهم، فتعرضوا لحرب جميع البشر من العرب وغيرهم، ولا شك أن الحامل لهم قوة الإيمان، والجزم بصحة ما هم عليه، والثقة بنصر الله تعالى الذي ذكره في قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا وقد أخبرهم قبل ذلك بأنهم سوف يبتلون ويختبرون، فقال تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ولهذا لما تسلط عليهم الأحزاب، وضيقوا عليهم، ثبتوا وقالوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا .
وقد أخبر الله تعالى بأنه قد رضي عنهم كما في قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ومن رضي الله عنه فقد غفر له ورضي عمله فلا يسخط بعد ذلك عليهم، بل يوفقهم ويحميهم، ويتوفاهم على الإسلام.
ولقد ورد في السنة ما يدل على فضلهم على من بعدهم، كقوله صلى الله عليه وسلم:خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم الحديث، ويريد بالقرن: أهله، ففضل أصحابه على من بعدهم، وكذا نهي عن سبهم بقوله: لا تسبوا أحدًا من أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحد ذهبًا ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه وروى مسلم في حديث أبي بردة عن أبيه قال: صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء! قال فجلسنا. فخرج علينا. فقال (مازلتم ههنا؟)، قلنا: يا رسول الله! صلينا معك المغرب. ثم قلنا: نجلس حتى نصلي معك العشاء. قال: (أحسنتم أو أصبتم)، قال فرفع رأسه إلى السماء. وكان كثيرًا ما يرفع رأسه إلى السماء.فقال: (النجوم أمنةٌ للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما تُوعَدُ، وأنا أمنةٌ لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنةٌ لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون أي: من الفتن والخلاف وكثرة البدع.