الولايات المتحدة الأمريكية بقيت قوة لاعبة من غير منافس وخصم قوي يتناطح معها في الميادين السياسية والاقتصادية في المستوى الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. فرأى القادة الأمريكيون أن الطرق ممهدة لهم لتحقيق طموحاتهم السياسية والعسكرية والاقتصادية وغيرها. ثم فكروا بعد مدة أن الطرق وإن كانت ممهدة أمامهم الآن والميادين مفتوحة لنزواتهم، لكن يوجد خطر ظهور خصوم ومنافسين جديدين في المستقبل ينغصون صفو الحياة المطمئنة للقادة الأمريكين، وينهون تفرداتهم السياسية والاقتصادية والعسكرية.
بعض الدراسات التاريخية والتصورات أوصلتهم إلى هذه النتيجة بأنه إن كان هناك خصم ومنافس جديد لهم في القادم، فلا شك أن ذلك الخصم هو الإسلام، وأن الإسلام سيصبح يوما قوة قيادية ومؤثرة، فلابد من اتخاذ التدابير والقرارات قبل وقوع الحادثة، والقضاء على هذا الخصم المحتمل في أسرع وقت ممكن.
هذا هو السبب في تخصيص الأمريكيين أموال باهظة لقمع الصحوات الإسلامية واحتواء المراكز الفكرية والثقافية في العالم الإسلامي. هذه الأوهام هي التي حملت الولايات المتحدة الأمريكية على شنّ حرب على أفغانستان، وإقامة مجازر بحق أهلها، وتعيث في تلك البلاد علوا وفسادا منذ أربعة عشر سنة. كذلك الهجوم على العراق واحتلال هذا البلد كان من تبعات هذه التصورات العابثة والأهداف السلطوية للولايات المتحدة الأمريكية.
الولايات المتحدة انسحبت من العراق بعد ما أيقنت أن الشعب العراقي تقسّم نتيجة سياستهم الفرعونية إلى مكونات طائفية وقومية متناحرة بعضها مع بعض. هذه السياسة أيضا كانت مؤامرة لتبرير الاحتلال الأمريكي والعودة الأخرى لها إلى هذ البلد والاستمرار في تصرفاتها الشيطانية. كما نشهد الآن غاراتها الجوية وهجماتها في تحالف جديد مع حلفائها القدامى والجدد بحجة مكافحة "داعش" واستئصال الإرهاب في العراق وسوريا. إلى متى تستمر هذه الغارات وإراقة الدماء والكوارث المؤلمة؟ لا يعلمها سوى الله تعالى. لكن هل يعقل أن تمتد الأعين رغم هذه الكوارث المستمرة والمجازر والمآزق إلى سراب الحلول الأمريكية والغربية وتناط بها الآمال؟!
هل الهدف الأساسي لهذه التحالفات العالمية ضد "داعش" بالقيادة الأمريكية والتي شهدنا أمثالها في العقود الأخيرة، في الحقيقة لأجل مكافحة "داعش" وتنظيمات متطرفة؟ هل "داعش" بمكانة من الخطر والتهديد تتطلب تحالفا عابرا للقارات؟ فهل دول المنطقة عاجزة عن احتواء هذه الحركة وأمثالها؟ فهل منظمة الدول الإسلامية التي تضم أكثر من 57 دولة إسلامية عاجزة عن التصدي لهذه الحركة؟ ما هي أسباب نشوء هذا التطرف والإفراط؟ ما دور الأنظمة الاستبدادية في المنطقة في نشوء الحركات المتطرفة؟
ما هو مدى تأثير الإرهاب الحكومي للكيان الإسرائيلي المحتل والمشاريع طويلة المدى والمكلفة للنفقات في مكافحة الإرهاب في المستوى العالمي بقيادة الولايات المتحدة وصناعة الأزمات في الدول الإسلامية في القرن الماضي، في نشوء هذه الظاهرة؟
هذه الأسئلة وأسئلة كثيرة أخرى لا توجد لها إجابات مقنعة، تؤلم ضمير كل إنسان حر وضمير كل مسلم.
الحقيقة أن الولايات المتحدة والدول الغربية يكافحون استقلال المسلمين والحرية الحقيقية في بلادهم، وإنها خائفة من أن تبدل الصحوات الإسلامية وكذلك النهضات الدينية الأمة المسلمة إلى قوة عظيمة مؤثرة في المستوى العالمي وتكون سدا منيعا تجاه أهدافهم السلطوية و التلاعب بمصائر الأمنم من خلال خلق الأزمات.
كذلك هذه الدول خائفة من أن تبرز في الساحة العالمية نماذج جديدة من الدول والحكومات تستلهم قيمها وأساليبها من التعاليم الحضاري للشريعة الإسلامية، وتعيد تجارب العزة والسيادة والقيادة إلى المسلمين بعد قرون، وتتحدى القيم الفاسدة والنماذج الباطلة في الحكم والإدارة للأنظمة العميلة في العالم الإسلامي.
فأعداء الأمة خائفون اليوم من أن تستعيد هذه الأمة عزتها ومجدها وسيادتها على العالم من جديد، ويتصدى لطموحات الغرب المادية وتفرداته العسكرية والاقتصادية.
في مثل هذه الظروف يخطر ببال كل مسلم غيور هذا السؤال: كيف يساير بعض الأنظمة العربية والاسلامية، العفريت الأمريكي في تهاجمه العسكري الأخير رغم أنهم يعلمون جيدا أن الهدف الحقيقي من هذا الهجوم كغيره من الهجومات هو تثبيت سيطرة الاستكبار العالمي في المنطقة، وضمان أمن إسرائيل، وغارة ثروات النفط، واختبار التسليحات الجديدة، وإنقاذ بعض الأنظمة المستبدة والعميلة من الانهيار، كما أن الهدف النهائي من ذلك هو تحقيق حلم الإمبريالية الإمريكية وإثبات أن الكلمة المسموعة والقرار القيادي بيدهم لينفخوا بذلك روح اليأس والإحباط في جيلي المعاصر والقادم من أبناء الأمة المسلمة حول حاكمية الإسلام والمسلمين، ويفرضوا عليهم أفكارهم وقيمهم وثقافتهم.
في مثل هذه الأوضاع يجدر التركيز على النقاط التالية:
1-على العالم الإسلامي أن يقوم بالاستعداد الروحي والجهود المستمرة والأهلية العلمية والصناعية والعسكرية للدفاع عن عزته وسيادته، قياما يشمل كافة جوانب الحياة، متمسكا بقول الله تعالى "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم".
2- على الخبراء والقادة السياسين والمفكرين أن يتطرقوا إلى دراسات تخصصية لمعرفة مؤامرات الأعداء القديمة والجديدة وخططهم، ومن ثمّ يلقوا الضوء على الحقائق التي يتوصلون إليها لشعوبهم.
3- على العلماء الربانيين والمخلصين أن يقوموا بمهمة الدعوة بين مختلف طبقات الشعب، وينشطوا ليلا ونهارا في نشر المعروفات بين الناس. "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر".
4- يجب على قادة الجمعيات والحركات والأحزاب والمذاهب، التركيز على المشتركات وإضاحتها بدل إثارة الخلافات والاهتمام بها، وبدل تبادل التهم بعضعم مع بعض، وبدل الحزبية والطائفية، ويرفعوا خطوات نحو وحدة الأمة الإسلامية ومراعاة مصالحها المشتركة. "واعتصوا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا".
5- على القادة والزعماء الذين يملكون ذرة غيرة دينية أن يعودوا إلى شعوبهم بدل الأمم المتحدة ومجلس الأمن والتبعية للقوى العظمى الاستكبارية، ويفكروا في تقوية علاقاتهم وصلاتهم بشعوبهم، ويعلموا جيدا لو أن الشعوب عزموا طردهم فلا يجدون ملجأ عند دولة ولا قوة من دول العالم، ويكونون حينئذ مخذولين غير منصورين في الدنيا والآخرة. "إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون".
6ـ على الشعوب المسلمة، العودة إلى الدين الحق، عودة صادقة، والاجتناب من المعاصي والمنكرات وما يخالف الشريعة والسنة النبوية؛ لأن كل تمرد على الأحكام الشرعية والسنة النبوية يثير الفتن ويستجلب الآفات الفردية والاجتماعية، وفي النهاية يكون سببا للوهن والذل.
"فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم".
الکاتب: فضيلة الشيخ محمد قاسم القاسمي (رئيس تحرير مجلة نداي اسلام)
التعريب: عبد الله البلوشي
تعليق