مع حلول عام 1979، بدأت الساحة السياسية البريطانية تشهد تصدعا متزايدا فى الاجتماع القائم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بين الحزبين الرئيسيين (المحافظون والعمال) حول السياسة الدفاعية بوجه عام والنووية بوجه خاص، وكانت البواعث الأساسية الكامنة وراء هذا التصدع تتمثل فى تنامى الاتجاهات الراديكالية داخل حزب العمال وفوز حزب المحافظين بزعامة مارجريت تاتشر فى انتخابات عام 1979 وتأتى أهمية هذا الانقسام حيث أنه يطرح انعكاسات بالغة الأهمية على إمكانية بقاء بريطانيا كدولة نووية، إلى جانب أنه يحدث فى وقت يتسم بعدم الثقة فى الردع النووى فى أوروبا مما يثير المخاوف من أن يؤدى تصاعد المشاعر المعادية للتسلح النووى فى بريطانيا إلى تقوية اتجاهات ممثلة فى القارة الأوروبية وبالذات فى ألمانيا الغربية والأراضى الواطئة . ويهتم هذا التحليل ومحتوياته بدراسة مستقبل البرنامج النووى البريطانى من خلال استعراض خلفياته التاريخية ومحتوياته والمتغيرات المؤثرة عليه ومن ثم يتم التركيز فى القسم الأول من هذا التحليل على الجذور التاريخية للبرنامج النووى البريطانى وتطوره خلال الأربعة عقود الماضية، ثم تركز على محتويات الترسانة النووية البريطانية فى القسم الثانى، وأخيرا نتعرض لمستقبل القوة النووية البريطانية فى ضوء الانقسامات القائمة بين الأحزاب البريطانية فى هذا الصدد، بالإضافة إلى الانعكاسات التى تطرحها التطورات الدولية على برنامج النووى البريطانى . أولا: الخلفية التاريخية للقوة النووية البريطانية: نظرت الحكومات البريطانية المتعاقبة إلى دور السلاح لنووى منذ بدء التفكير فى إنتاجه وطوال فترات تطوره من منطلق سياسى أكثر منه عسكرى، حيث تمحور الاهتمام بصورة مستمرة حول فكرة أن بريطانيا تحتاج إلى امتلاك القوة النووية حتى يمكنها استعادة هيبتها ومكانتها كقوة عالمية من الطراز الأول ولتوفير الحماية ضد الابتزاز والتهديد النووى وتقديم مساهمة متميزة فى الدفاع عن التحالف الغربى، وذلك إلى جانب توفير عنصر للطمأنينة ضد الخشية من ألا تستخدم الولايات المتحدة أسلحتها النووية للدفاع عن بريطانيا ما لم تكن هناك مشاركة فى المصالح مما يعنى أن التصورات البريطانية لدور القوة النووية كانت تعكس فى مضمونها مجمل الظروف الموضوعية التى تمر بها بريطانيا على الصعيد الخارجى خاصة فيما يتعلق بسعيها إلى تعويض فقدانها لإمبراطوريتها فى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ومحاولة البحث عن دور قيادى جديد فى القارة الأوروبية من خلال ملكية هذه الأسلحة . وقد بدأت الجهود البريطانية الرامية إلى امتلاك السلاح النووى منذ عام 1940 حينما كانت بريطانيا تواجه موقفا صعبا أمام الجهات الألمانية، ففى أبريل من ذلك العام تشكلت لجنة وزارية عرفت باسم (لجنة مايد) Maude Committee لدراسة مدى قدرة العلماء البريطانيين على إنتاج قنبلة اليورانيوم، ومدى استطاعة بريطانيا وحلفائها تحقيق ذلك قبل ألمانيا وقد أوضحت اللجنة فى تقريرها الذى فرغت منه عام 1941 بضرورة استمرار البحوث فى هذا المضمار وإعطائها أولوية قصوى نظرا لأهمية الموضوع والمزايا التى يوفرها، إلى جانب التوقعات الوظيفية والمزية للقنبلة النووية والتى من شأنها الإبقاء على مكانة بريطانيا كقوة عزمى فى النظام الجديد لعالم ما بعد الحرب . وفى منتصف عام 1942، أصبح من الواضح تماما أن الأمريكيين قد تفوقوا على البريطانيين فى ميدان تطوير التكنولوجيا النووية ومن ثم أصبح الاشتراك مع الولايات المتحدة يمثل الوسيلة الوحيدة أمام بريطانيا لتحقيق مطامحها وأغراضها ولذلك تم التوقيع على عدد من الاتفاقيات بين بريطانيا والولايات المتحدة فى هايد بارك عام 1942 Hyde Park Agreement وفى كوبيك عام 1943 Quebec Agreement Of 1943 On Anglo American Collaboration In Atom Bomb Research And Development والتى نصت مواردها على إقامة تبادل كامل للمعلومات والأفكار الخاصة بمشروع صنع القنبلة النووية لاسيما فى مجال التطوير والبحث العلمى وتصميم وتشييد وإدارة المحطات النووية وقد تركت هذه الاتفاقيات انطباعا لدى رئيس الوزراء ونستون تشرشل بأن هذه المشاركة الأنجلو أمريكية سوف تستمر حتى ما بعد انتهاء الحرب . غير أن ما حدث فى نهاية الحرب كان على العكس تماما، فقد نظرت الولايات المتحدة إلى مصالحها آنذاك من منظور مختلف، كما أن (الدبلوماسية) النووية خضعت للسياسات التشريعية الأمريكية، إلى جانب أن الروابط الأنجلو أمريكية نفسها تعرضت لمناقشات حادة فى الكونجرس الأمريكى وفى 27 أكتوبر 1945 قرر الرئيس هارى ترومان فى خطاب يوم البحرية توضيح الموقف الأمريكى لفترة ما بعد الحرب حيث قال: إننى أؤكد مرة ثانية كما أكدت من قبل أن هذا النقاش (حول التبادل الحر للمعلومات العلمية الأساسية) لن يتطرق إلى عملية تصنيع القنبلة النووية أو إلى أية أدوات أو وسائل أخرى متعلقة بالحرب إننا ننظر إلى ما فى أيدينا من هذه القوة التدميرية الجديدة على أنه أمانة مقدسة . والواقع أن بواعث هذا الموقف الأمريكى الجديد لم تكن ترجع إلى الأمانة المقدسة بقدر ما كانت تعود إلى حقائق الموقف الدولى لفترة ما بعد الحرب والذى كانت الولايات المتحدة تنفرد فيه بملكية القنبلة النووية، بالإضافة إلى أنها كانت قد قطعت شوطا طويلا فى ذلك الحين فى ميدان تطوير الأسلحة النووية والمفاعلات ذات الاستخدامات العسكرية بفضل مواردها وإمكاناتها الهائلة، بل واتخذت أيضا عدة خطوات فى سبيل تصنيع القنبلة الهيدروجينية، ومن ثم كان استمرار العمل بالاتفاقات التى أبرمت لحرب فى ظل هذه الظروف الجديدة يعنى أن تعطى الولايات المتحدة كل ما لديها بدون أدنى مقابل . وكان المفهوم من مجمل هذه التطورات أن الولايات المتحدة قد نفضت عن كاهلها أية التزامات بالمشاركة فى معرفة كيفية تصنيع القنبلة النووية لفترة ما بعد الحرب بأية صورة من الصور وقد أبدى الموقف الأمريكى الجديد إلى إحساس البريطانيين بأنهم يواجهون تحديا للكرامة والكبرياء الوطنى أكثر من أى شئ آخر وأصبح على بريطانيا أن تتخلى عن مكانتها كقوة عظمى، أو أن تقوم باتخاذ خطوات لتصنيع القنبلة النووية بالاعتماد على نفسها ومهما كانت الظروف ولهذا قررت الحكومة البريطانية إعطاء أولوية قصوى لمشروع القنبلة خاصة بعد إقرار الكونجرس الأمريكى للائحة الطاقة النووية لعام 1946 والمعروفة ب (لائحة مكماهون) Atomic Energy Act Of 1946 (McMahon Act) والتى نصت على فرض حظر كامل على تبادل أسرار الطاقة النووية، مما أدى إلى توقف تدفق المعلومات إلى بريطانيا منذ الأيام الأولى لعام 1947 بعد هذا التاريخ بأيام قليلة، قامت الحكومة البريطانية (العمالية) المصغرة برئاسة كليمنت اتلى باتخاذ قرار تصنيع القنبلة النووية البريطانية بصورة سرية وبدون إجراء مناقشة داخل مجلس الوزراء الموسع وبدون مناقشة علنية مسبقة حول الجوانب السياسية والاقتصادية والأخلاقية المتعلقة بهذا القرار وفيما بعد لم تؤثر التغيرات الوزارية على الجهود البريطانية فى هذا الميدان حيث حظيت السياسة النووية بدرجة عالية من الإجماع بين الحزبين الرئيسيين . وفى الثالث من أكتوبر عام 1952 فجرت بريطانيا قنبلتها النووية الأولى فى اختيار سرى تم إجراؤه فى جزر مونتى بيلو الواقعة شمال غرب استراليا وأدى هذا الحدث إلى إثارة ردود فعل قوية فى عواصم العالم كان أبرزها ظهور اتجاه فى الولايات المتحدة نحو إدخال تعديلات هامة على لائحة مكماهون بحيث تسمح بتبادل المعلومات الخاصة بالطاقة النووية ليس فقط بين الولايات المتحدة وبريطانيا، وإنما بينها وبين حكومات الدول الأعضاء فى حلف شمال الأطلنطى وعلى الجانب البريطانى ظهرت اتجاهات مماثلة أيضا فقد أعلن المستر ونستون تشرشل فى 23 أكتوبر 1952 عن اعتقاده بأن هذا التطور يؤدى إلى تبادل المعلومات مع الأمريكيين بشكل أكبر كان قائما فى السنوات القليلة الماضية وبعد مرور حوالى تسع سنوات على إقرار لائحة مكماهون، كانت الظروف قد تغيرت تماما، فقد استطاعت بريطانيا أن تمتلك سلاحها النووى من خلال الجهود الذاتية، علاوة على أنه تمكنت من إحراز تقدم حتى على الولايات المتحدة فى ميدان تطوير التطبيقات السلمية للطاقة النووية فى مختلف الميادين لاسيما فى مجال توليد الطاقة الكهربائية حتى أنها أعلنت فى 15 فبراير 1955 عن برنامج واسع النطاق مدته 10 سنوات لإقامة 12 محطة للطاقة النووية بتكلفة تصل إلى حوالى 300 مليون جنيه إسترلينى، كما أعلنت الحكومة البريطانية فى نفس الفترة أنها ترى أنه من واجبها أن تقوم بإنتاج وتطوير الأسلحة الهيدروجينية خاصة بعد أن أعلنت الحكومة الأمريكية أنها تسير نحو الإنتاج الواسع النطاق لهذه الأسلحة وبعد أن بدا من الواضح أيضا أن الاتحاد السوفيتى بدوره يتبع سياسة مماثلة . ونتيجة لكل هذه التطورات، ورغبة فى توحيد وتنسيق الجهود أعلن الرئيس ايزنهاور فى 20 يونيو 1955 أن الولايات المتحدة وبريطانيا وقعتا قبل خمسة أيام على اتفاقيتين للتعاون فى ميدان الاستخدامات المدنية والعسكرية للطاقة النووية وأشار فى خطاب أرسله إلى السناتور كلينتون أندرسون رئيس اللجنة التشريعية المشتركة للطاقة النووية أن هذه الاتفاقية سوف تتيح للولايات المتحدة أن تتبادل مع بريطانيا معلومات تعتبر ضرورية لأغراض تطوير الدفاع وتدريب الأفراد على أساليب الدفاع ضد الهجمات النووية بالإضافة إلى إتاحة قدرات الأعداء المحتملين فى مجال استخدام الأسلحة النووية وفى 14 يونيو 1956 قام الجانبان الأمريكى والبريطانى بالتوقيع على اتفاقية من شأنها توسيع نطاق العمل بالاتفاقية السابقة من خلال قيام بريطانيا بإرسال كميات من اليورانيوم المستنفذ Depleted Uranium إلى الولايات المتحدة لإعادة معاملته وتحويله إلى وقود ذرى صالح للاستخدام فى مقابل قيام الولايات المتحدة بتقديم كميات مماثلة من اليورانيوم المخصب Enriched Uranium إلى بريطانيا، إلى جانب تبادل المعلومات الخاصة بالمفاعلات النووية ذات الاستخدامات العسكرية وأجهزة الدفاع النووية الخاصة بالسفن الحربية وقد أعلن فى كل من الصحافة الأمريكية والبريطانية أن المملكة المتحدة سوف تستفيد بمقتضى هذه الاتفاقية من الخبرة الأمريكية فى بناء غواصات تعمل بالطاقة النووية كما أشير أيضا إلى أن الولايات تتوقع فى المقابل أن تستفيد من خبرة المملكة المتحدة فى ميدان استخدام الطاقة النووية فى توليد الكهرباء وفى المجالات الأخرى ومن ناحية أخرى كان البرنامج النووى البريطانى يسير فى تقدم مذهل، ففى 27 فبراير 1957 أعلنت شركة فيكرز للهندسة النووية أنها تعمل منذ عام فى مشروع لبناء غواصة بريطانية تعمل بالطاقة النووية، وأن المشروع يسير فى تقدم مطرد، وقد أطلق على هذه الغواصة اسم (دريدنوت) Dreadnought كما قامت بريطانيا فى 15 مايو من نفس العام بتفجير قنبلتها الهيدروجينية الأولى فى جزيرة كريسماس بالمحيط الهادى فى أول تجربتى ضمن سلسلة من التجارب النووية، وقد ألقيت القنبلة من الجو بواسطة قاذفة نفاثة من طراز فاليانت Valiant من على ارتفاع شاهق .وبالرغم من التعاون الأنجلو أمريكى كان يتم بمعدلات طيبة حتى ذلك الحين إلا أن التطور الأكثر أهمية قد حدث خلال زيارة هارولد ماكميلان رئيس الوزراء البريطانى المحافظ للولايات المتحدة فى 25 أكتوبر 1957 حيث نص الإعلان المشترك الذى صدر فى ختام الزيارة على أن يطالب الرئيس الأمريكى من الكونجرس أن يقوم بتعديل لائحة مكماهون حتى تسمح بالتعاون الوثيق والمثمر بين العلماء والمهندسين التابعين لبريطانيا والولايات المتحدة وباقى الدول الحليفة . وتطبيقا لهذا الإعلان المشترك أرسل ايزنهاور مذكرة إلى الكونجرس تتضمن ذلك الطلب وقد أعرب أعضاء اللجنة التشريعية المشتركة للطاقة النووية عن ترحيبهم بالطلب، كما صرح المستر هارولد فانس رئيس اللجنة وقتذاك بأن لوقت قد حان لتحقيق معدل أكبر من التعاون مع الحلفاء فى ميدان الطاقة النووية واستخداماتها العسكرية وذلك لضمان توفير تدريب وتخطيط على أعلى مستوى فى مجال استخدام السلاح النووى ومواكبة التقدم الذى استطاع السوفيت التوصل إليه وأضاف أنه أصبح من الضرورى أيضا أن يتم تزويد حلفاء معنيين تحت شروط معينة بمواد نووية وبأجزاء غير نووية من الأسلحة النووية وبمعدلات خاصة بالمفاعلات وقد أقر كل من مجلسى الكونجرس تعديلا من جانبه يختلف بدرجة طفيفة عن الآخر وإن كانت فى مجملها تسمح للإدارة بإمداد الدولة الحليفة التى استطاعت بالفعل تحقيق تقدم جوهرى فى ميدان تطوير تكنولوجيا الأسلحة النووية، بتصميمات الأسلحة النووية وبالمواد الانشطارية اللازمة لصنعها وبأجزاء غير نووية من الأسلحة النووية أما بالنسبة للدول الحليفة الأخرى فيجرى تزويدها بالمعلومات التفصيلية من حجم وتأثيرات الأسلحة النووية والتطبيقات العسكرية للطاقة النووية وقد قامت اللجنة التشريعية المشتركة للطاقة النووية بتقديم صيغة وسط بين التعديلين تم إقرارها من قبل مجلسى الكونجرس فى أواخر يونيو 1958 وفى عام 1975 أعلنت بريطانيا عن بادرة حسن نية من جانبها عن اعتزامها عدم التحرك نحو بناء جيل جديد من الأسلحة النووية الإستراتيجية، وذلك فى استجابة لأجواء السلام التى شاعت بين الشرق والغرب خلال النصف الأول من السبعينات وعقد خلالها مؤتمر الأمن والتعاون فى أوروبا ومحادثات الخفض المتبادل والمتوازن للقوات ومحادثات نزع السلاح واتفاقية سالت 1 وأن كان ذلك بالطبع لم يمنع بريطانيا من التفكير منذ عام 1974 فى تحديث الصاروخ بولاريس فى إطار برنامج سرى أطلق عليه اسم (نشيفلين) Chevaline وبلغت تكاليفه حوالى مليار جنيه إسترلينى واشتمل على أجراء تطوير رئيسى ومعقد فى مقدمة الصاروخ وزيادة تنويع الرؤوس النووية وتغيير أنظمة إدارة النيران وبالرغم من أن هذه التحسينات لم تؤد إلى تحويل الصاروخ بولاديس إلى مركبة حاملة للرؤوس المتعددة المستقلة MIRV إلا أنها أدت إلى زيادة قدرات الصاروخ على المناورة واختراق النظام الدفاعى الباليستيكى المضاد للخصم ABM SYSTEM وقد بدأ الصاروخ المعدل بالفعل فى دخول الخدمة العاملة خلال النصف الأول من الثمانينات وخلال عام 1981 خلصت الحكومة البريطانية إلى أن الخيار الأفضل والأكثر فاعلية الذى يمكنه أن يحل محل الصاروخ بولاريس فى منتصف التسعينات يتمثل فى النظام الصاروخى الباليستيكى الأمريكى ذى الرؤوس المتعددة المستقلة (ترايدنت) Trident Mirv يطلق من الغواصات وقد تمت الموافقة على قرار الحكومة بشراء هذا الصاروخ من قبل مجلس العموم فى 29 مارس 1982 بالرغم من احتياج المعارضة العمالية بشدة فى هذا الإجراء فحجة أنه يشكل إضافة جدية إلى تعقيدات سباق التسلح النووى ويقوض روح اتفاقية حظر الانتشار النووى المبرمة عام 1968 ويعرقل مفاوضات نوع التسلح التى كانت تجرى وقت ذاك فى جنيف أما بالنسبة لعقيدة استخدام الأسلحة النووية، فقد ظهرت ملامحها الرئيسية منذ النصف الثانى من الخمسينات حين أدركت بريطانيا أن الحماية ضد الأسلحة النووية تعد أمرا مستحيلا، وذلك ركزت على إتباع عقيدة الردع من خلال التهديد بالانتقام النووى الجسيم Retaliation Deterrence Through Threat Of Massive وقد ظلت هذه الاستراتيجية غامضة فى بعض جوانبها حتى على البريطانيين أنفسهم ولعل ذلك يرجع بالدرجة الأولى إلى تغليب المنظور السياسى على المنظور العسكرى إلى جانب أن التخطيط العسكرى نفسه كان يركز على منع الحرب أكثر من الاستعداد لها وكانت وجهة النظر البريطانية تقوم فى مجملها على أن امتلاك السلاح النووى سوف يشكل رادعا ضد الحرب، وأن معرفة الخصم أن عدوانه سوف يوجه بالانتقام النووى الجسيم يمثل أكثر الضمانات تأكيدا على مثل هذا العدوان لن يحدث أصلا، ثم أن القوة النووية الهجومية المضادة تعتبر من ناحية أخرى الدفاع الأكثر فاعلية ضد الاعتداء إذا وقع بالفعل وبالرغم من أن هذه الإستراتيجية لا تحدد على وجه الدقة ما الذى سوف يحدث إذا فشل الردع، وضد أى نوع من أنواع الاعتداء سوف تستخدم الأسلحة النووية، إلا أن المنطق الداخلى الذى استندت عليه كان كما فسره ونستون تشرشل فى خاطبه أمام مجلس العموم فى أول مارس 1955 بأنه يقوم على أن السلاح النووى يلبى الحاجة إلى ردع العدو المحتمل (الاتحاد السوفيتى) من خلال وضع أساس متكافئ للردع يحقق التساوى بين معدلات التعرض للخطر لكل من الاتحاد السوفيتى من ناحية والجزر البريطانية وأوروبا الغربية من ناحية أخرى، وأن الأسلحة النووية خاصة القنبلة الهيدروجينية تجعل من الكثافة السكانية العالية والمساحة الشاسعة التى يتمتع بها الاتحاد السوفيتى غير ذات قيمة نظرا لما تتميز به هذه الأسلحة من قدرة فائقة على نشر الدمار لمساحات مترامية الأطراف بعد هذا الاستعراض التاريخى، فإن السؤال المطروح هو: هل استطاعت بريطانيا بالفعل تحقيق الأهداف المرجوة من وراء امتلاك السلاح النووى؟ لقد ركزت الأدبيات العسكرية البريطانية فى كثير من الأحيان على القدرات النووية هى التى أتاحت لبريطانيا مكانة متميزة فى الساحة لدولية لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية بالرغم من فقدانها لإمبراطوريتها الشاسعة، وأن هذه القدرات هى التى ساعدتها فى ممارسة النفوذ والتأثير السياسى وتقديم مساهمة متميزة فى صيانة الأمن الأوروبى على نحو لم يكن هناك عضوا آخر فى الناتو يستطيع أن يحل محل بريطانيا فى تقديمها والواقع انه إذا كانت لبريطانيا مكانة متميزة فى الساحة الدولية، فإن القوة النووية لم تكن العامل الرئيسى فى تحقيق هذه المكانة، وإنما تعود بالدرجة الأولى إلى منظومة متكاملة من الأدوات والأساليب اعتمدت عليها السياسة الخارجية البريطانية فى فترة ما بعد الحرب، وكانت أبرز مرتكزاتها: رابطة الصادقة الوثيقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، إقامة علاقات سياسية واقتصادية ذات طابع خاص مع دول أوروبا بصفة عامة وغرب أوروبا بصفة خاصة، إلى جانب وجود حوالى أربعين دولة فى جميع قارات العالم تربط سياستها الخارجية إلى حد ما بالسياسة البريطانية فى نطاق دائرة الكومنولث أما المساهمة النووية البريطانية فى الأمن الأوروبى، فهى وإن كانت فريدة حقا فى نوعها من حيث الشكل بين الحلفاء الأوروبيين داخل الناتو، إلا أنها تفتقر إلى القيمة من حيث المضمون فالقوة النووية البريطانية لا تضيف شيئا إلى التوازن الإستراتيجى الكلى بين القوتين الأعظم، أضف إلى ذلك أن هذه القوة تفتقر إلى إمكانيات الاستخدام المستقل من ناحية أنها لا تتيح إلا القيام بهجمات مضادة على أكثر تقدير لذلك فإن القيمة الحقيقة للقوة النووية البريطانية تكمن فقط فى قدرتها على حماية بريطانيا من التعرض للابتزاز النووى فى أوقات الأزمات، وفى توفير الضمان الذى يتيح إلى حد ما الحفاظ على المصالح الحيوية البريطانية فى حالة الصراعات التى قد يكون للولايات المتحدة فيها ترتيب مختلف أولويات اختيار الأهداف عن مثيلتها البريطانية ثانيا: محتويات الترسانة النووية البريطانية: مازالت سياسة التسلح النووى البريطانى تسير وفق نفس الخطوط التى حددتها السياسة المعلنة منذ فبراير 1960 والتى تضمنت التحول من الاعتماد على الأسلحة النووية المنصوبة على قواعد أرضية إلى الاعتماد على صواريخ نووية باليستيكية تطلق من الغواصات والطائرات، وهى السياسة التى تبنتها حكومة هارولد ماكيلان من جراء الرغبة فى تفادى القصور التى تتسم بها الصواريخ الباليستيكية متوسطة المدى خاصة ازدياد معدلات تعرضها للتدمير فى الضربة الأولى قبل إطلاقها لإمكانية تحديد موقعها سلفا فى حالة نشوب حرب نووية شاملة وضيق فترة الإنذار المتاحة أمامها وعلى الرغم من أن هذه السياسة جاءت انعكاسا لضرورات موضوعية من وجهة النظر البريطانية، إلا أنها أدت إلى افتقار الترسانة النووية البريطانية تسببا إلى التنوع والتعدد المطلوب فى وسائل إيصال الرؤوس النووية والتى عادة ما ينظر إليه على أنه إحداهم العوامل التى من شأنها إضفاء المصداقية على قوة الردع النووى وفى الوقت الراهن تشير بعض المصادر إلى أن إجمالى عدد الرؤوس النووية البريطانية لا يقل عن 185 رأسا نوويا، وتشمل على 80 قنبلة من طراز WE 177 و 25 قنبلة أعماق نووية، و 8 رأس تشيفلين A3 TK 1 الغواصات النووية: تمثل الغواصات النووية مركز الثقل الرئيسى فى القوة النووية البريطانية حيث تمتلك بريطانيا فى الوقت الراهن أربع غواصات نووية من طراز بولاريس دخلت الخدمة عامى 1969-1970 بمقتضى اتفاقية ناسو الأنجلو أمريكية سالفتى الذكر وتحمل الغواصة الواحدة 16 صاروخا من طراز بولاريس أ 3 مزودا بثلاث رؤوس نووية، ويصل مدى الصاروخ إلى 4600 كيلو مترا وتبلغ طاقته التدميرية 200 كيلو كن ومنذ دخول هذه الغواصات إلى الخدمة تقوم اثنتان منها بدوريات طوال العام بصورة تبادلية بحيث توجد غواصتين فى الأعماق بصفة دائمة وفيما بين عامى 1982-1987 بدأت الصواريخ الباليستيكية الجديدة بولاريس A3 TK تدخل محل الصواريخ القديمة من طراز A3 وتتميز الصواريخ الجديدة بالزيادة فى مدى الرمى وفى القدرة على اختراق النظام الدفاعى الباليستيكى السوفيتى، وإن كانت أقل فى عدد الرؤوس وفى قوتها التدميرية كما بدت البحرية الملكية منذ عام 1986 فى تصنيع محركات جديدة من طراز A 3R للصواريخ بولاريس فى إطار برنامج شامل بلغت تكاليفه الإجمالية حوالى 437 مليون جنية إسترلينى وذلك نظرا لتقادم لمحركات الأصلية التى صنعت ما بين عامى 1967 1968، وأصبح من الضرورى استبدالها بمحركات جديدة لتمكين الصاروخ بولاريس من البقاء فى الخدمة العاملة حتى منتصف التسعينات وابتداء من عام 1981 بدأت بريطانيا بالتعاون مع الولايات المتحدة فى العمل على بناء أربع غواصات نووية جديدة من طراز ترايدنت لتحل محل الغواصات بولاريس بدءا من منتصف التسعينات على أن تكتمل قوتها مع نهاية القرن وتقوم بريطانيا فى إطار هذا التعاون بشراء الصواريخ ترايدنت من الولايات المتحدة وفقا لنفس بنود اتفاقية بيع صواريخ بولاريس التى أبرمت عام 1963 بين الجانبين وسوف تزود هذه الغواصات بصواريخ Trident II DS التى تتميز بأنها ذات رؤوس متعددة مستقلة وفردية التوجيه MIRVS ويصل مدى الصاروخ إلى 12 ألف كيلو مترا، وسوف تتحمل كل غواصة حوالى 16 ماسورة لإطلاق الصواريخ، ومن المعتقد أن كل صاروخ سوف يحمل حوالى رؤوس نووية على الأكثر، وتصل الطاقة التدميرية لكل رأس على حدة إلى حوالة100 كيلو طن وتتصف هذه الغواصات بأنها أهدأ وأسرع، ومدى منطقة عملياتها أوسع من غيرها وسوف تزود بنظام للدفع النووى من طراز PWR 2 وقد وقعت الحكومة البريطانية بالفعل عقدا فى أبريل 1987 مع شركة فيكرز لبناء أول غواصة من هذا الطراز ويعتقد أن تكون بريطانيا قد بدأت منذ عام 1986 فى إنتاج الرؤوس الحربية اللازمة وسوف تستغرق ما بين 8 10 أعوام فى صنعها أم المواد الانشطارية اللازمة لهذه الصواريخ فسوف تؤخذ من رؤوس الصواريخ بولاريس حين يتم سحبها من لخدمة ويتم إحلالها فى الصواريخ الجديدة وبالرغم من أن الغواصات والرؤوس الحربية سوف تصمم وتصنع أساسا فى بريطانيا، إلا أن العديد من المكونات الأخرى سوف تقوم الولايات المتحدة بتقديمها بما فى ذلك: الصواريخ Trident II DS ومواسير الإطلاق، وجميع مكونات الصواريخ، وأنظمة إدارة النيران، والأنظمة الملاحية الفرعية، وبيانات التوجيه والتصويب اللازمة للصواريخ وفى الوقت الراهن يقوم الجانبان أمريكى والبريطانى بتنفيذ برنامج واسع النطاق للتعاون والتنسيق فى ميدان تصنيع وتطوير الغواصات وسوف يؤدى دخول هذه الغواصات إلى البحرية الملكية إلى زيادة القدرات الهجومية النووية البريطانية وذلك لما تتميز به هذه الغواصات من المقدرة على مهاجمة أية بقعة فى أراضى الخصم بما تحمله من صواريخ نووية باليستيكية، إضافة إلى ما تتسم به من الحصانة ضد الضربات المجهضة فى حالة نشوب الحرب النووية الشاملة نظرا لقدرتها على الاختفاء تحت الماء، إلا أنه يعيبها فى المقابل التقليدى فى خطوط الاتصال بين الغواصات وبين القيادة الرئيسية لاسيما فى ظروف الحرب، إلى جانب قلة دقة الصواريخ المركبة على الغواصات مقارنة بالصواريخ التى تطلق من الأرض بسبب تعذر موقع الغواصة على وجه القطع واليقين 2 وسائل الإيصال الجوية: بالإضافة إلى الغواصات النووية، تمتلك بريطانيا نوعين من الطائرات ذات القدرة النووية، أولهما القاذفة المقاتلة التكتيكية تورنادوج ر 1 التى يستهدف السلاح الجوى الملكى أن يمتلك 220 طائرة من هذا الطراز، وقد وصلت أعداد ما دخل منها الخدمة العاملة بالفعل حتى متصف 1987 إلى حوالى 190 طائرة تنتظم فى تسعة أسراب تكتيكية، توجد أربعة أسراب منها فى الوقت الراهن منتشرة فى قاعدة بروجن بألمانيا الغربية، مع التخطيط لزيادة عدد الأسراب المرابطة بالخطوط الأمامية فى ألمانيا الغربية إلى سبعة أسراب أما ثانى هذه الطائرات فهى طائرة مكافحة الغواصات بوكانير البالغ عددها 25 طائرة والتى بدأت بريطانيا فى إنتاجها منذ نهاية الخمسينات وتستطيع كل طائرة من هذين الطرازين حمل قنبلتين نوويتين من طراز WE 177 وذلك بالإضافة إلى قوة طائرات الهيلوكبتر ذات القدرات النووية والخاصة بأعمال حرب الغواصات والتى تستطيع الواحدة منها حمل قنبلة أعمال نووية، إلى جانب المقاتلة سى هاديير التى تعمل من فوق ظهر حاملة الطائرات (هيرمس) وبدأت فى دخول الخدمة العاملة فى يونيو 1979 وتعتبر القاذفات المقاتلة Tornado GR I العمود الفقرى فى أسلحة الإيصال الجوية البريطانية، ويمكن للواحدة منها قصف أهداف داخل الاتحاد السوفيتى إذا ما أقلعت من قواعدها الأمامية فى ألمانيا الغربية على أن يعاد تزويدها بالوقود من الجو وفى الفترة الأخيرة الماضية أعربت مصادر السلاح الجوى الملكى عن اهتمامها بإيجاد صواريخ جو أرض تحل محل القنابل WE 177 حتى يمكن للطائرات تورنادو استخدام الصواريخ الجديدة فى أداء مهام القصف النووى من خارج أراضى الخصم حتى تستطيع تفادى مخاطر اختراق أراضيه التى تحميها شبكات الدفاع الجوى والفضائى الكثيفة والقوية، وإن كانت هذه الرغبة لم تعد بعد إلى حيز التنفيذ حيث لم تتخذ حتى الآن أية قرارات بشأن تصميم أو إنتاج الرؤوس الحربية الخاصة بهذا الصاروخ المقترح ثالثا: مستقبل القوة النووية البريطانية بين الانقسامات الداخلية والتطورات الدولية: يمكن القول أن أخطر مشكلة تواجه البرنامج النووى البريطانى فى الوقت الراهن تتمثل فى الانقسام القائم بين الأحزاب البريطانية حول التسلح النووى، والذى برز بوضوح خلال انتخابات عام 1987 حينما أكدت قيادة حزب العمال آنذاك على التزامها بفكرة نزع السلاح النووى من جانب واحد والاتجاه إلى الاعتماد على الدفاع التقليدى، فى الوقت الذى أبدى فيه معظم القادة المحافظين تأييدهم للإبقاء على الرادع النووى المستقل وتحديثه، بينما انقسم طرفى التحالف (حزب الأحرار والحزب الديمقراطى الاجتماعى) على أنفسهم حول هذه القضية والواقع أن جذور هذا الانقسام ترجع إلى أواخر السبعينات عندما أدى الإعلان عن خطط نشر الصواريخ كروز الأمريكية الخاصة بالمسرح الأوروبى فى الأراضى البريطانية، إلى تنشيط حملة حركات نزع التسليح النووى، كما تزامن هذا الحديث مع تصاعد نفوذ أقصى اليسار داخل حزب العمال بعد هزيمته فى انتخابات عام 1979 ووصول أحد أشد المعارضين للتسليح النووى (المستر مايكل فوت) إلى رئاسة الحزب ثم جاء قرار حكومة المحافظين عام 1981 باختبار الصاروخ Tridentii D5 كبديل للصاروخ بولاريس ليزيد المعارضة إشعالا ومع أن الهزيمة الساحقة التى تعرض لها حزب العمال فى انتخابات عام 1983 كانت ترجع فى جانب منها إلى ضعف البرنامج الدفاعى للحزب وتنبيه لفكرة نزع السلاح النووى من جانب واحد، إلا أن الجناح اليسارى المتطرف قد نظر إلى الانقسامات الداخلية فى صفوف العمال بوصفها السبب فى الهزيمة، ومن ثم كان على الحزب أن يعيد النظر فى سياساته الراديكالية أو أن يواصل الإصرار عليها بعزيمة أقوى وقد اختار الأعضاء البديل الثانى، وانتخبوا اليسار الشاب (نيل كينوك) زعيما للحزب، وجاءت أفكار كينوك المعادية للتسلح النووى لتقدم المزيد من الدعم إلى العناصر الراديكالية فى الحزب وفى انتخابات يونيو 1987 اتخذ كل حزب من الحزبين الرئيسيين مواقف وواضحة وثابتة إزاء هذه القضية، فقد حزب العمال يرى إجراء تخفيضات مكثفة فى التسليح النووى البريطانى حتى يمكن على الأقل تخليص ميزانية الدفاع من المشكلات التمويلية التى تعانى منها وتوجيه مخصصات أكبر لتصنيع الأسلحة التقليدية، فى حين كان المحافظون لا ينوون فقط الإبقاء على القوة النووية لبريطانيا، وإنما أيضا تدعيمها لمزيد من القدرات الهجومية إليها وفى إطار هذا الجدل كان موقف العمال يتسم بالضعف وعدم الجاذبية، لذلك حاولت قيادة حزب العمال الابتعاد عن مناقشة قضايا الدفاع خلال الحملة الانتخابية وحاولت التركيز على موضوعات أخرى مثل الاختلافات الشخصية بين مارجريت تاتشر ونيل كينوك غير أنه بالرغم من وجود العمال، فقد لعبت قضايا الدفاع دورا هاما فى الحملات الانتخابية لمختلف الأحزاب خاصة المحافظين الذين سعوا إلى انتهاز الفرصة ودفع جهود الناخبين إلى الاهتمام بهذه القضية بغرض تدعيم الشعور العام بأن قيادات حزب العمال غير جديرة بالثقة، وجاءت نتائج الانتخابات لتؤكد على موافقة الناخبين على سياسات الحكومة المحافظة، خاصة وأن اتجاهات الرأى العام البريطانى إزاء الأسلحة النووية كانت دائما فى جانب الإبقاء على هذه الأسلحة وأن كانت نسبة الأغلبية التى يحظى بها هذا الاتجاه قد اتسمت بالتذبذب الشديد، فعلى سبيل المثال أظهر استطلاع للرأى أجراه معهد جالوب فى أغسطس 1986 أن 46% من الأفراد المشاركين فى الاستطلاع يوافقون على الحفاظ على الأسلحة النووية فى مقابل 44% يؤيدون التخلص منها ثم أسفرت نتائج استطلاع آخر أجراه نفس المعهد فى نوفمبر 1986 عن أن 66% من المشاركين يوافقون على الحفاظ على الأسلحة النووية فى مقابل 27% من غير الموافقين وبصفة عامة كانت كل الاستطلاعات المجراه خلال الخمس سنوات الماضية تؤكد فى مجملها بالرغم من التذبذب فى النتائج على أن أغلبية البريطانيون يؤيدون فكرة الإبقاء على الأسلحة النووية، ومع ذلك فإن تطورات الأحداث تشير إلى أن حزب العمال مصر بثبات على غرمه لإزالة الأسلحة النووية فى بريطانيا حيث جدد أعضاء الحزب فى المؤتمر السنوى المنعقد فى أكتوبر 1987 إلزامهم بتبنى سياسة دفاعية غير نووية وعلى عزمهم تنفيذ سياسة لنزع التسلح النووى من جانب واحد فى حالة وصول لحزب إلى السلطة الواضح إذن من خلال التطورات أن إبقاء بريطانيا كدولة نووية قد يكون مرهونا باستمرار المحافظين فى الحكم، ولكن مع ذلك فإننا لو افترضنا على سبيل الجدل أن حزب العمال قد فاز فى انتخابات عام 1993، وقرر فور توليه السلطة المضى فى تعهداته باتباع سياسة لنزع التسلح النووى وتوجيه الميزانية الدفاعية بالكامل نحو أغراض الدفاع التقليدى، فإنه فى هذه الحالة سوف يجد أن برنامج ترايدنت قد دخل فى مراحله النهائية وسيكون إجمالى ما تم إنفاقه آنذاك لا يقل عن ثمانية بلايين جنيه إسترلينى (من قيمة البرنامج البالغة عشرة بلايين جنيه) أى أن النفقات ستكون قد وصلت بالفعل إلى معدلات لا يمكن إلغاء البرنامج من وجه النظر الاقتصادية فماذا سيكون العمل؟ السيناريو الأول أن يضطر العمال إلى التراجع عن التزامهم مثلما كان الحال مع حكومة هارولد ويلسون العمالية التى اضطرت بعد انتخابها عام 1964 إلى عدم الوفاء بوعودها الانتخابية الخاصة بعدم الاستمرار فى شراء الصواريخ بولاريس (التى كانت حكومة هارولد ماكميلان المحافظة قد اتفقت بشأنها مع الولايات المتحدة فى العام السابق) وذلك لأن النفقات كانت أيضا بلغت معدلات لا يمكن التراجع عنها ومما يدعم هذا الاحتمال أن حزب العمال بالرغم من التزامه القوى بفكرة لدفاع غير النووى فى الوقت الراهن، إلا أنه لم يستطع حتى الآن صياغة برنامج متماسك حول الكيفية التى يمكن لبريطانيا من خلالها أن تدافع عن نفسها بدون أسلحة نووية، أما السيناريو الثانى فيتمثل فى أن تدفع بريطانيا فعلا نحو نزع سلاحها النووى مهما كانت التكاليف وثمة مشكلة أخرى تواجه البرنامج النووى البريطانى تتعلق بالتطورات الدولية فى ميدان الحد من التسلح الإستراتيجى، وتتمثل فى تصاعد مخاوف الحكومة البريطانية من أن تتعرض لضغوط أمريكية من أجل إلغاء مشروع الغواصات ترايدنت فى حالة اتفاق القوتين العظميين على إجراء تخفيضات فى الأسلحة الإستراتيجية وقد بدأت هذه المخاوف فى الزهور بشكل واضح بعد توقيع الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى على معاهدة إزالة الصواريخ متوسطة المدى من أوروبا خلال قمة واشنطن فى ديسمبر من العام الماضى ومن المعروف أن بريطانيا والدول الغربية ترى أن عملية نزع الأسلحة النووية أو الحد منها يجب أن تكون مرهونة باستعداد الاتحاد السوفيتى لتخفيض قواته التقليدية وتحييد عناصر أخرى من عناصر تفوقه مثل الحرب الكيماوية وفى ظل هذا الوضع فإنه من المعتقد إذا ما اتفقت القوتان العظيمتان على الحد من التسلح الإستراتيجى وفق صيغة لا تفى بالشروط والمطالب الأوروبية الغربية، فقد يؤخذ ذلك على أنه مؤشر على اتجاه الولايات المتحدة نحو التخلى بعض الشىء عن التزامها بالدفاع عن أوروبا الأمر قد يؤدى ببريطانيا إلى أن تجد نفسها مضطرة إلى الموافقة على الأفكار الداعية إلى إقامة تحالف أكثر قوة وفاعلية بين دول أوروبا الغربية لتعتمد على نفسها فى تقوية وسائل الدفاع سواء فى مجال الأسلحة التقليدية أو النووية، وهى الأفكار التى ترفضها بريطانيا حتى الآن بحجة أن وجود كيان عسكرى جديد فى أوروبا يمكن أن يؤدى بطريقة غير مباشرة إلى تفويض التحالف الغربى أما فى حالة موافقة الاتحاد السوفيتى على إجراء تخفيضات حقيقية فى قواته التقليدية قبل التفاوض بشأن نزع السلاح النووى من أوروبا، فإن ذلك من شأنه تجريد بريطانيا من الحجج التى تتذرع بها لرفض وضع رادعها النووى على مائدة التفاوض، كما أنه سوف يجعل من فكرة نزع السلاح النووى أكثر قبولا لدى جمهور الناخبين البريطانيين مما سيهتم بالتالى على المحافظين إظهار درجة كبيرة من المرونة والتخلى عن أفكار المكانية والهيبة، إلا وجدوا أنفسهم فى موقف ضعيف أمام الرأى العام البريطانى ثم إننا إلى جانب المشكلتين السابقتين لا نستطيع أيضا أن نتجاهل احتمالات التقلص المتوقع فى قيمة الفاتورة النووية من جراء التطور المتزايد فى تكنولوجيا أسلحة الطاقة الموجهة DIRECTED ENERGY WEAPONS (أشعة الليزر/ أشعة الجزيئات) والتى بدأت القوتان العظيمتان فى تطويرها بعد وصول عقيدة الردع النووى المتبادل فى أوروبا إلى طريق مسدود نتيجة للتطور الهائل فى دقة إصابة الهدف من خلال الصواريخ ذات الرؤوس المتعددة المستقلة الأمر الذى أدى لاسيما على الجانب الأمريكى إلى بروز الشكوى فى مناعة القوة الإستراتيجية وقدرتها على البقاء والنجاة من هجود مفاجئ وبالرغم من أن تأثيرات التطور فى أسلحة الطاقة الموجهة غير مرشحة للحدوث فى المستقبل القريب بسبب المشكلات الفنية والجدل العقائدى بشأنها واقتصار خطط إنتاج هذه الأسلحة حتى الآن على الاستخدامات الدفاعية، إلا أن انعكاساتها تظل واردة بالتأكيد لأنه متى أمكن بناء نظام كامل وفعلى من هذه الأسلحة سواء بصورة منفردة أو بالتكامل مع أنظمة دفاعية أخرى كما هو الحال فى مبادرة الدفاع الإستراتيجى الأمريكية فلن يؤدى ذلك إلى تضاؤل دور الأسلحة النووية فحسب وإنما ستتحول إلى أسلحة عاجزة وغير مؤثرة على حد قول الرئيس ريجان إلى جانب هذه الانعكاسات سوف تتضاعف بالضرورة فى حالة التوصل إلى تطوير قدرات هجومية لهذه مما سيجعلها تشكل بديلا للأسلحة النووية ذات التكاليف الاقتصادية والمعنوية الباهظة خاصة بين الدول التى تستطيع امتلاك مثل هذه التكنولوجيا والتى قد تكن بريطانيا من بينها الخلاصة: يشير الانقسام الحالى بين الأحزاب البريطانية حول التسلح النووى إلى أن اعتبارات المكانة المتميزة فى الساحتين الدولية والإقليمية التى يمكن لبريطانيا تحقيقها من خلال امتلاك السلاح النووى، لم تعد تحظى بالأولوية والإجماع بين معظم الأحزاب السياسية البريطانية ويعتقد الكثير من المراقبين السياسيين أن استمرار بريطانيا كقوة نووية يرتبط ببقاء حزب المحافظين فى السلطة، ومن المعتقد أيضا أن حكومة المحافظين سوف تستمر فى السعى نحو دعم وتحسين قدراتها فى ميدان الردع النووى طالما ظل التفوق السوفيتى فى القوات التقليدية قائما على الساحة الأوروبية كما يتوقع أن تكون قضية الصواريخ ترايدنت إحدى القضايا الرئيسية فى الانتخابات العامة القادمة، وبصفة عامة تبقى النقطة المحورية فى الجدل الدائر حاليا بين العمال والمحافظين حول التسلح النووى متمثلة فى عدم اقتناع قطاع هام من جمهور الناخبين البريطانيين حتى الآن بالدعاوى العمالية، والتى تقوم على فرضية خاطئة من وجهة نظر هؤلاء الناخبين مفادها أن الرادع النووى لا يقدم سوى القليل إلى الأمن البريطانى أو حتى لا يقدم شيئا على الإطلاق . الهوامش:ـ 1 ـ Agatha Wong Fraser:ـ The Political Utility Of Nuclear Weapons, Expectation And Experience, University Press Of ـ Ameriea, Washington, 1980 2 ـ Ernest Dupuy And Treuor Dupuy:ـ The Encyclopedia Of Military History From 3500 B C To The Present ـ Harper ـ And Row Publisher, U S A, 1970 3 ـ Francois De Rose:ـ Nato And Nuclear Weapons, Strategic, No 4, U S Strategic Institute, Washington, Fall 1987 4 ـ Jane ـ S Fighting Ships 1987 ـ 1988 5 ـ Keesing ـ s Contemporary Archives (Form The Year Of 1950 To 1988) Keesing ـ S Publication, Longman Group ـ Limited, London 6 ـ Robbin Laird And David Robertson:ـ Grenades From The Candy Stores ـ :ـ British Defense Policy In The 1990 ـ S? ORBIS Journal Of The World Affairs, Foreign Policy Research Institute, USA, Summer 1987 7 ـ SIPRI Yearbook, 1986 8 ـ SIPRI Yearbook, 1987 9 ـ د. بطرس بطرس غالى، د محمود خيرى عيسى:ـ المدخل فى علم السياسة،مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة السادسة، 1982 10 ـ د ثناء فؤاد عبد الله:ـ التحفظات الأوروبية على اتفاقية واشنطن ومستقبل التحالف الغربى، السياسة الدولية، العدد ـ 92، القاهرة، أبريل 1988 11 ـ د/ محمد قدرى سعيد:ـ حرب النجوم والعودة إلى استراتيجية الدفاع، السياسة الدولية، العدد 88، القاهرة، أبريل 1987. |
إعـــــــلان
تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.
القوة النووية البريطانية
تقليص
X
-
القوة النووية البريطانية
سحابة الكلمات الدلالية
تقليص
ما الذي يحدث
تقليص
المتواجدون الآن 0. الأعضاء 0 والزوار 0.
أكبر تواجد بالمنتدى كان 182,482, 05-21-2024 الساعة 06:44.
تعليق