إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

السياسة النووية الدولية وأثرها على منطقة الشرق الأوسط

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • السياسة النووية الدولية وأثرها على منطقة الشرق الأوسط




    السياسة النووية الدولية وأثرها على منطقة الشرق الأوسط .


    دراسة تحليلية شاملة لواقع السياسة الدولية النووية خلال أكثر من نصف قرن،
    وصولاً لِفهْم مدى خطورة انعكاسها على منطقة الشرق الأوسط ومستقبل الحدث في تلك المنطقة.

    الأُستاذ الدكتور هيثم غالب الناهي



    المُقدمة
    دخل السلاح النووي حيّز الدراسات الإستراتيجية العالمية مَعَ نهاية الحرب العالمية الثانية، ومُنْذُ ذلك الحين والكثير الكثير من هذه الدراسات وبكافة اللغات على الأرجح قَدْ كُتبتْ ونُشرتْ مُعللة أهمية السلاح النووي في صراعات بسط النفوذ العالمي على مصادر الحياة الحيوية. هذا الصراع الذي بدا واضحاً وجلياً في منتصف الستينات وحَتَّى قُبيل نهاية الثمانينات بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي المُنهار. فيا تُرى ما هو تأثير النوويات سواء كانت منها السلمية أو الحربية على منطقتنا العربية خاصة ومنطقة الشرق الأوسط عامة؟ وما مدى تأثيرها على تنفيذ ما يسمى بالنظام العالمي الجديد؟ وهل استعمل هذا السلاح الخطير كأداة لحماية استمرار تدفق البترول من الشرق العربي للغرب العالمي السياسي؟ كُلّ هذه الأسئلة وربما أخرى تبحث عن جوابٍ شافٍ يتناسب مَعَ ما يَحدث من أزمات وَويلات في هذه المنطقة الغنية بمواردها وحضارتها وكفاءة شعوبها.
    وعليه فَفِي هذا البحث سوف نحاول طرح المشكلة من كُلّ زواياها، وحسب المصادر العلمية الأكاديمية والسياسية والتاريخية المتوفرة لدينا لكي نَصِلَ إِلى فهم مدى تأثير السياسية النووية العالمية على منطقة الشرق الأوسط ومستقبل المنطقة وشعوبها.
    وبناءاً على ما طُرِح أعلاه، حاولنا أن نبتدأ من حَيْثُ ابتدأ البحث النووي بين يدي الباحثين والعلماء الغربيين في هذا المضمار، وقبل أن تستشري فيه دوافع القوة والسيطرة التي حولته من بحث نووي علمي يخدم شعوب العالم إِلى وحش سياسي يتلاعب بموازين الحرب والسلم تارة واستعباد شعوب العالم مرة أخرى، أو إشعال فتيل الحرب فيها لمدة تَطول أكثر من بضع سنين ليخلو الجو لممتلكيه كَي يجنوا خيرات العالم بدون منازع. وعلى الرغم من تشابك الأحداث هنا وهناك على هذا الكوكب الأزرق الصغير واتصالها المتين، فَقَدْ حاولنا جاهدين أن نعطي الأهمية المطلوبة لتأثيرها على منطقة الشرق الأوسط بصورة عامة وعلى المنطقة العربية بصورة خاصة. وذلك لارتباط الموازين النووية الدولية القوية بخلق وبناء وتحصين وتسليح الكيان الصهيوني الذي بات اليوم حقيقة موجودة بين الأقطار العربية، في حين نرى التراث الفلسطيني يتزايد مُسرعا نحو الانقضاض والتناسي. ناهيك عن تصريحات جورج بوش الابن الأخيرة الطامحة إِلى بناء شرق أوسط كبير يكون فيه للصهيونية العالمية اليَدّ الطولي في المنطقة.
    ولِما للدول المالكة للقوة النووية من عمق استراتيجي في المنطقة العربية وخاصة تلك التي لعبت دوراً كبيراً للسيطرة على مخلفات الدولة العثمانية المنهارة السيئة الصيت والتاريخ، فَقَدْ حاولنا في هذا البحث طرح الأمور السياسة المتعلقة بواقع الأنظمة الحاكمة في المنطقة ودور الأحزاب التي أدت أدواراً لا يمكن إغفالها مُطلقاً. راجين أن نعطي القارئ صورة حية لما كان يدور من نزاع وصراع بين الدول الكبرى، أو ما بين المعسكر الشرقي والغربي حول مناطق النفوذ العالمي للسيطرة على الموارد البترولية التي تمثل بحجمها ما يقارب 77% من احتياطي البترول العالمي والتي سوف تصل مَعَ نهاية 2015 إِلى 86.1% بعد إن يتناقص احتياطي البترول الأمريكي دولياً إِلى 3%.
    كما لم يغفل البحث التطور التاريخي للصناعة النووية بشقيها السلمي والحربي، محاولاً ربط التطور النووي التكنولوجي بواقع القوى المتواجدة المتنازعة وكيفية استعماله سياسياً لابتزاز شعوب العالم. إضافة إِلى مدى التغيرات التاريخية السياسية المرتبطة بالواقع النووي الدولي وواقع التعامل مَعَ دول منطقة الشرق الأوسط. ولم يقف البحث عند تلك الحدود بل استرسل لربط موازين القوى الدولية بأهمية المنطقة العربية وضرورة السيطرة عليها اقتصادياً وسياسياً وذلك ضمن ما أُبرم من معاهدات واتفاقات بين الدول الكبرى أو من خلال النشاطات غير المرئية لضمان تدفق البترول العربي للغرب.
    وعلى الرغم من ترابط الأحداث وصعوبة فصلها فَقَدْ أقدم البحث على ضرورة تبسيط الوقائع التاريخية النووية السياسية والعسكرية، وذلك من خلال طرح الأحداث بصورة منفصلة لِكُلِّ عقد من الزمان في القرن العشرين وما تلاه في القرن الحادي والعشرين، متوخياً ضرورة إعطاء نبذة عن أهم ما حدث في السنوات التي سبقت العقد لضرورة ربط الوقائع بعضها ببعض. فعلى سبيل المثال قام البحث بالتحدّث عن أهم مجريات الأمور في العقد السادس من القرن العشرين (1950-1959) قبل الشروع بسرد أحداث العقد السابع من القرن العشرين (1960-1969)، إذ من خلال هذا الأسلوب يرى القارئ نفسه وكأنه باتصال مستمر مَعَ واقع الأحداث التي عايشها العربي بسبب بزوغ نجم السلاح النووي.
    كما لم يغفل البحث قَطّ وضوح صلة المعسكر الغربي المتمثل بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بالكيان الصهيوني. فلذا نرى في فقرات كثيرة قَدْ تطرق البحث لنشاط المنضمات الصهيونية ودورها في الحرب النووية التي أول ما بدأت ما بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية. ناهيك عن الدور الفعال لما يسمى اليوم بإسرائيل في تطور أحداث الشرق الأوسط وما مدى مفهوم الحرب والسلم بالنسبة لأمن إسرائيل الذي طالما طبلت وزمرت له الولايات المتحدة الأمريكية. وَقَدْ ناقش البحث وجهات النظر الغربية المزدوجة للتعامل بين العرب وإسرائيل وخاصة في الفترة الديغولية الواقعة ما بين عام 1958م إِلى عام 1967م، والفترة الميترانية التي انتهت عام 1995م.
    ولعل من أهم الأمور التي ناقشها البحث وغُطيت بمساحة كبيرة في عدة أقسام على مدى الخمسين سنة الماضية كانت موقف الدول الكبرى بشقيها الغربي والشرقي من مسألة امتلاك دول منطقة الشرق الأوسط (ما عدا إسرائيل) للخبرة النووية، وما مدى تأثيرها على مستقبل المنطقة ومصالح الدول الكبرى. كما جاب البحث غمار المشاكل التي حلّت بتلك المنطقة للحفاظ على بقاء الكيان الصهيوني وحماية أمنه وبناء اقتصادياته وبصورة واضحة ومركزة. إذ من خلاله تمكنت الدول الغربية والشرقية المالكة للسلاح النووي من إجبار دول منطقة الشرق الأوسط بالدخول في معاهدات دولية تحت مظلة الأمم المتحدة تعطي الولايات المتحدة الأمريكية حَقّ التدخّل في خبايا الأمور النووية لأيّ بلد تحت شرعية ما يسمى بمنظمة الطاقة النووية الدولية، تاركة إسرائيل دون أيّ إجبار أو تضييق للدخول في ذلك المأزق كي تمتلك وحدها السلاح الشرس وبمساعدة أمريكية فرنسية بريطانيا إيطالية بحتة.
    ولإتمام مكامن البحث للوصول إِلى نتيجة حتمية ومُرضية لا شائبة فيها، راح البحث يصول في بواطن الصراع الجاسوسي الذي خلق الانهيار والتأزم ما بين بلدان العالم وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا من جهة والمعسكر الاشتراكي المتمثل بالاتحاد السوفيتي المُنهار من جهة أخرى. فمن بين سطور هذا الصراع نشبت حروب ودمرت مدن على أراضٍ في دول بعيدة كُلّ البعد عن أراضي المعسكرين خوفاً من استعمال السلاح النووي الذي قَدْ يفتك بإحداهما إِلى حال لا رجعة فيه أبداً، فكانت الحرب الكورية والحرب الفيتنامية وغيرها، حَيْثُ برز التكتيك السياسي والتطور التكنولوجي بشقيه التقليدي والنووي بروزاً لا شائبة فيه، جعل من الدارسين والمحللين الاستراتيجيين يهابون من فِقْدان زمام الأمور وإنهاء الحياة على كوكبنا هذا كنتيجة لأيّ تهور سياسي أو شخصي. وهو ما برز في منتصف عام 1962م ما بين سكرتير عام الحزب الشيوعي السوفيتي خروشوف ورئيس الولايات المتحدة الأمريكية جون كندي حول مسألة زَرع الصواريخ النووية السوفيتية في كوبا.


    وبسرد تلك الأحداث المريرة التي عَصفت بمنطقتنا العربية وخاصة الشرقية منها، توخى البحث الحذر والدقة للغوص في أعماق الأحداث ليتفهم الصورة المرسومة للمنطقة من قبل أصحاب المصالح العليا فيها. حَيْثُ بان من بين طيّات الحديث الكثير من التغيرات السياسية والتوجهات الفكرية في المنطقة مَعَ إطلالة العقد الثامن من القرن العشرين والذي بدا فيه الصراع العربي الصهيوني يأفل نوره، ويتوج نتاج زواج العوانس الغربي الشرقي بالحرب العراقية الإيرانية الضروس التي استمرّت حوالي ثمان سنين. تمكنت خلالها من إيقاف عجلة التطور في تلك المنطقة وممتصة سيل الأموال المتدفقة من البترول الشرق أوسطي لدفع فواتير الأسلحة التي بات تشكل مخزوناتها عبئاً اقتصادياً ثقيلاً ينذر بسقوطها وغروب شمسها. ومن دواع الأسف واليأس تطرق البحث إِلى المعطيات والأسباب التي جعلت من منطقة الخليج العربي منطقة حرب مدمرة في أوائل العقد الأخير من القرن العشرين لتكون المنطقة العربية بأجمعها دول ضعيفة غير قادرة على قتال ذُبابة، في حين باتت إسرائيل تُعدّ من الدول المالكة للأسلحة النووية الفتاكة لتفرض نفسها على شعوب منطقة الشرق الأوسط ولتصبح حقيقة بعد أن كانت حُلُم صهيوني.
    وَقَدْ تَفَحصت محاور البحث المعلومات المتعلقة بالاتحاد السوفيتي وقادته ومدى تأثير القيادة السوفيتية في إنهاء الوجود النووي تدريجياً، وذلك من خلال التوقيع على معاهدات الحَدّ من امتلاك وتصنيع الأسلحة النووية ما بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي. ونظراً للسياسة السوفيتية الجديدة التي انبثقت في منتصف الثمانينات، أيّ بعد اعتلاء غرباتشوف دَفة الحكم في الاتحاد السوفيتي وتوقيعه على اتفاقيتي عام 1987م وعام 1991م الخاصة بامتلاك الأسلحة النووية مَعَ الولايات المتحدة الأمريكية، فَقَدْ أصبحت اليَدّ العليا للولايات المتحدة الأمريكية لتنفرد بامتلاك النوويات بلا هوادة لترسم خريطة عالمية جديدة تكون السيطرة فيها لها ولأوامرها التي لا تحوي سوى امتصاص ممتلكات الدول الضعيفة واستعبادها. ولم يتوقف البحث عند تلك الحدود فحسب، بل راح يدور حول التحركات الجديدة للولايات المتحدة الأمريكية وخاصة تلك التي لها علاقة بالشرق الأوسط.
    فَفِي الحين الذي تُعلن فيه الصين الشعبية عن استعدادها لمساعدة أية دولة في بناء مفاعلها النووي بعد أن أصبحت قوة اقتصادية وبشرية وتكنولوجية قوية تضاهي الولايات المتحدة الأمريكية مَعَ حلول عام 2010م، أنتبه الساسة الأمريكان لذلك وراحوا يبحثون لتنشيط العلاقة مَعَ الصين الشعبية وَحَلّ المسائل العالقة بينهم مُنْذُ عام 1953م، أيّ مُنْذُ الحرب الكورية لكي تُقنع أو تُجبر ساسة الصين وقادتهم بضرورة عدم مدّ أيّ بلد بأية معلومة نووية وخاصة تلك الدول الشرق أوسطية، مقابل تسهيل الكثير من المتطلبات الصينية التكنولوجية. إضافة لتنازل الولايات المتحدة الأمريكية عن الكثير من مصالحها التي تعد إستراتيجية في منطقة شمال آسيا لتضمن بذلك عدم امتداد يَدّ الصين الشعبية إِلى منطقة الشرق الأوسط وخاصة الواقعة في الخليج العربي، كي تبقى القوة والاقتدار والسيطرة والتقدم متجسداً فقط في إسرائيل لا بغيرها من دول المنطقة سواء كانت عربية أم إسلامية.
    وتطرق البحث بإسهاب عن العلاقة النووية بالحرب العراقية الكويتية واحتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية في مطلع هذا القرن والنشاط الأمريكي لزعزعت الشرق الأوسط وجعله أكبر من الناحية السياسية، تكون اليد الطولي فيه للكيان الصهيوني.
    ولعلنا أن نشير بهذا الصدد الذي يتطرق لاحتلال العراق مَعَ بداية القرن الحادي والعشرين من لدن القوى الأمريكية المعادية للاستقرار العالمي؛ إلى الكتاب القيم الذي صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان "الاعتراف الأخير: حقيقة البرنامج النووي العراقي"؛ ولهذا المُؤَلف أهمية قصوى لكونه حمل بين طياته حقائق؛ صرح بها أكبر عالمين نوويين عرفهما التاريخ الغربي قبل العربي والشرق الأوسطي وهما كُلّ من العالم جعفر ضياء جعفر والعالم نعمان سعد الدين النعيمي. وبالتالي نرى هناك ضرورة أن يطلع القارئ على ما حوى الكتاب من حقائق علمية وسياسية ألمت بالعراق والمنطقة ليكون بعد ذلك قَدْ تمكن من معرفة ما حدث وما سيحدث. ولعلنا لا نخف حقيقة إذا قلنا أن كتاب جعفر والنعيمي قَدْ غطى حلقة قَدْ لم نتمكن من تغطيتها فلذا نهيب بالقارئ الكريم أن يطلع عليه.
    ولإكمال معرفة الألعوبة السياسية المرسومة للشرق الأوسط وما يخبئه الأقوياء للسيطرة على المنطقة بحثنا بالمواضيع التي رأيناها مكملة لبحثنا الهادف معالجة تأثير السياسة النووية الدولية على منطقة الشرق الأوسط وخاصة في إيران والهند وباكستان ولو بإيجاز. خصوصاً وقد طرأ حديثاً بعضاً مما توقعناه؛ حين أقدم برويز مشرف رئيس الدولة الباكستانية ليبين مدى أهمية قيام علاقات دبلوماسية واقتصادية وعسكرية مَعَ الكيان الصهيوني.
    وَمَعَ اختصاص البحث بالجوانب التاريخية والسياسة المتعلقة بتطور الأسلحة النووية ومدى تأثر منطقة الشرق الأوسط بتلك الظواهر العجيبة، قام البحث بإعطائنا فكرة مركزة ومختصرة عن التكنولوجيا النووية وهندستها بصنفيها السلمي والحربي ومركزاً على خصائص وصفات وعناصر القنبلة الذرية علمياً وتاريخياً، كي يخرج القارئ بحصيلة متكاملة بما يتعلق بالنواحي النووية من جميع زواياها. وبذلك يمكن للمهتمين بالنزعة النووية من الإلمام الشامل بجوانب الموضوع، مما يسهل عليهم عملية التحليل والاستنتاج لواقع مستقبل المنطقة العربية، وخاصة الشرقية منها. ومما يَلِفّ حولها من دول شرق أوسطية أخرى، ناهيك عن سهولة الوصول للصورة الحقيقية لواقع الصراع العربي مَعَ الكيان الصهيوني الذي امتد لأكثر من خمسين سنة.
    وفي نهاية المطاف لابُدّ لي من وقفة حقّ وشكر للذين أسدوا إلينا النصائح من خلال مراجعتهم للنصّ ومناقشاتهم المفيدة والقيمة؛ أذكر منهم على وجه الخصوص البرفسور جيم هلت Jim Holte والبرفسور نورمن هيو. Norman Hugh كما أُقدّم سديد شكري واعتزازي واحترامي إلى الدكتور جين سلنتاين Jean Sallantin على عمله المضني في ترجمة النصوص الفرنسية للغة الإنكليزية ليتسنى لي قراءتها ومتابعة الأحداث الموجبة للبحث. ومن دواعي اعتزازي وسروري أن أعرب عن شكري وتقدري العميق للدكتور جويل لويس Joel Lewis على ما أبداه من مساعدة قيمة في ترجمة بعض النصوص الروسية للغة الإنكليزية والتي بما لا شكّ فيه قَدْ كانت متممة لما اسرد من أحداث بين سطور هذا البحث. أما عزيز الامتنان والشكر والتقدير فلابد أن أقدمه إلى أستاذي وصديقي الموجه التربوي الدكتور عبد الحسين عواد وذلك امتنانا واحترامنا وإجلالاً مني على ما بذله من مراجعة لغوية ليكون الكتاب بصورة جميلة بين يدي القارئ. ولعل شكري الجزيل والاحترام القدير لابُدّ أن أقدمه بكل اعتزاز وحُبّ واحترام إلى الأستاذ عدنان عيدان ولي؛ الذي لم يبخس علينا بعلمه ومقدرته الثقافية والتاريخية والإلكترونية شيئاً؛ فعكف على الرغم من ضيق وقته يراجع الكتاب من الناحية اللغوية بواسطة الأدوات الإلكترونية. بالإضافة إلى إبداء آرائه القيمة التي لا شكّ إنها أعطت الكتاب قيمة حقيقة خصوصاً عندما نبهنا إلى الإصدار الجديد الخاص بالعالمين جعفر ضياء جعفر ونعمان سعد الدين النعيمي. وفي نهاية المطاف أتمنى أن نكون قَدْ وفقنا الله لما فيه خير الأمة وإعلاء شأنها.

    أ. د. هيثم غالب الناهي
    آب/أُغُسْطُس 2004م
    لندن

    الفصل الأول

    الطاقة النووية والبداية



    بعد عام من انتهاء الحرب العالمية الأولى تبنت الحكومة البريطانية قراراً يدعو إِلى عدم دخول بريطانيا في أية حرب خلال السنوات العشرة القادمة على أن تكثف الجهود لإعادة بناء الجيش وتحسين المعامل الإنتاجية التي أرهقتها الحرب العالمية الأولى وتشجيع البحث العلمي للاستفادة من مصادر الحياة المكتشفة في المستعمرات البريطانية المورثة من الدولة العثمانية المنهارة السيئة الصيت (1). هذا القرار أحدث ثورة علمية كبيرة في العلوم الأساسية والتي كانت إحدى أهم إنتاجياتها البحوث المركزة في مجال البحث النووي الذي انفردت به المملكة المتحدة آنذاك. فمع إطلالة عام 1931م تبنى اللورد ريثرفورد Rutherford مبدأ ضرورة دراسة كيفية استخلاص الطاقة المخزونة في نواة الذرة واستعمالها أن أمكن كبديل للنفط، ولكن سرعان ما تغيرت المفاهيم والمقولات العلمية والبحثية عندما اكتشفت ذرات اليورانيوم المخصب عام 1939م (2). هذا الاكتشاف المهم لليورانيوم المخصب لم يكتسب أهمية لكونه ينتج طاقة نووية هائلة، بل كانت أهميته نابعة من استجلاب النيترونات خلال عملية الإخصاب لنواة اليورانيوم.
    فكلما حدث الإخصاب تولدت نيترونات جديدة يمكن استعمالها للتخصيب مرة أخرى مولدة معها سلسلة من التفاعل النووي الذاتي البقاء والذي يعرف في يومنا هذا، علمياً أو فيزيائياً بـ: Self-Sustaining Nuclear Chain Reaction. وعلى الرغم من تحديد مسار التفاعل النووي نظرياً في عام 1939م إلا أنَّه لم يدخل حيز النجاح العملي والتكنولوجي بشقيه السلمي والحربي إلا في الثاني من كانون الأول عام 1942م حين تمكن بعض الخبراء النوويين الأمريكان في جامعة شيكاغو من توليد تلك السلسة من التفاعلات النووية ذات الطاقة الإشعاعية الهائلة داخل مختبراتهم العلمية المتخصصة في هذا المجال، حَيْثُ تمكنوا بنجاح من بناء أول مفاعل نووي Nuclear reactor في العالم عرف فيما بعد بالمفاعل الذريّ. وبهذا الإنجاز الكبير تكون قَدْ بدأت الولادة الرسمية الفعلية لما يسمى في عصرنا الحاضر بالطاقة النووية التي لم تتمكن وليومنا هذا من أن تكون بديلاً عن الطاقة النفطية التي حظيت بها الكثير من بلدان الشرق الأوسط خاصة العربية منها (2).

    1.1 تاريخ البحث العلمي الذريّ
    بدأت رحلة الاكتشاف النووي من الناحية العملية العلمية مَعَ أول اكتشاف لمعلمها الأول هنري بكيوريل Hanri Becquerel في فبراير عام 1896م. حَيْثُ تمكن ولأول مرة من تحديد أهمية التفاعلات الإشعاعية نظرياً في المواد الفلزّيّة، بعد أن عجزت الجامعات الأوربية ومُنْذُ منتصف القرن الثامن عشر من إثبات أيّ وجود لحركة جزيئات الذرة. ولم تمضِ أكثر من سنة حَتَّى تمكن جي جي تمسون J J Thomson من اكتشاف الحزمة الإلكترونية المتجمعة على الكاثود بطريقة عملية بعد أن بنى مجمل تطبيقاته على نظرية بكيوريل. مهّد هذان الإنجازان الطريق عام 1905م للعالم الألماني ألبرت أنشتاين (Albert Einstein 1897-1955) لينشر بحثاً في المجلة الألمانية الفيزيائية ذُو أهمية بالغة في الفيزياء النووية. بيَّنَ فيه أول معادلة رياضية فيزيائية تشرح العلاقة ما بين الحركة الجزئية للمادة وعلاقتها بتوليد الطاقة غير المرئية، التي قَدْ تُولد طاقة هائلة إذا ما باتت مركزة في جزيئات تكوينها (3).
    استمرّت المختبرات العلمية الأوربية في البحث في كيفية تفعيل حركة الجزيئات وتجميع طاقاتها مُنْذُ اكتشاف أنشتاين عام 1905م، وحَتَّى تمكن اللورد النيوزلندي آرنست راثر فورد Ernest Rutherford 1871-1937 الذي كان يعمل في مختبر الفيزياء الإشعاعية بجامعة مانشستر البريطانية من إجراء أول تجربة علمية مختبريه تخللها قصف الرقائق الذهبية بأشعة ألفا. حَيْثُ تمكن من خلال تلك التجربة من أن يحدد علمياً أن هناك أشعة تنعكس بقوة ثاقبة من تلك الرقائق بصورة متشعبة ما بين زاوية 20 درجة إِلى 110 درجة. وما أن انتهى راثر فورد من تجربته هذه حَتَّى صرح في مؤتمر علمي بجامعة مانشستر عقد لهذا الغرض في ديسمبر عام 1911م: (1, 2, 3)
    "بعد تجربتنا هذه التي أثبتت قوة انعكاس الأشعة المتولدة من الذرات
    المقصوفة بأشعة ألفا، يمكنني القول من خلال تلك المعلومة أن إنتاج الطاقة الذرية بات وشيكاً".
    هذا الإنجاز مكَّنَ العالم البريطاني جيمز جادوك James Chadwick عام 1932 من اكتشاف النيترونات. وساهم مساهمة فعالة في تسيير دفة البحوث النووية في مختبر رانديوم بفرنسا Randium Institute in France والذي مكنهم من إنتاج أول نشاط إشعاعي صناعي Artificial Radioactivity. كما ساهمت نظرية أرثر فورد بتطوير اتجاه البحث في إيطاليا، إذ في عام 1930م بروما بدأ العالم الإيطالي أنريكو فيرمي (Enrico Fermi 1901-1954) البحث عن كيفية خلق نظائر النشاط الإشعاعي Radioactivity Isotopes بواسطة القصف النيتروني. ويبدو أن فيرمي الإيطالي قَدْ نجح في إنتاج نظائر النشاط الإشعاعي بالطريقة المثلى. إلا أنَّه فشل في مراقبة فاعلية اليورانيوم عندما يتم قصفه بالنيترونات. ولكن مَعَ هذا يعتبر علماء الذرة إن ما حققه فيرمي إنجاز لا يمكن تجاوزه أبدا إذ ما أريد أن يؤرخ للحالة العلمية النووية وإنجازاتها البحثية (2, 3).
    هذا الاكتشاف الأخير الذي اكتشفه فيرمي عُرف من خلاله أن امتلاك القنبلة الذرية بات شيئاً مؤكداً بعد أن تمكن العلماء من إثبات نتائج بحثهم عملياً. وحالما تأكد ستراسمان من تلك النتيجة، وقبل إعلانها علمياً، أرسل بتلك المعلومات إِلى قريبته العاملة في منظمة الوحدة اليهودية العالمية بألمانية ليز ميتنر Lise Meitner التي بدورها قامت بنقل تلك المعلومات إِلى ابن أخيها الذي كان يعمل في مختبر مَعَ الدنمركي اليهودي نيلز بوهار( Niels Bohr (1885-1962 بكوبنهاكن، والذي بدوره قام بإبلاغ الأمريكيين بتلك النتائج. وما أن استلم الهنغاري الأصل ليو سزيلارد Leo Szilard الذي كان يعمل في مختبر في الولايات المتحدة الأمريكية تلك النتائج حَتَّى راح بالتعاون مَعَ من يعمل مَعَهُ من الأمريكان بالتأكد من صحة تلك النتائج، حَيْثُ تَمَّ إثبات صحتها حينما تولدت كمية هائلة من الطاقة الإشعاعية باستعمال ثلاثة إِلى أربعة نيترونات قاصفة (4).

    يتبع








  • #2
    رد: السياسة النووية الدولية وأثرها على منطقة الشرق الأوسط

    الخطوة الأولى لفرض القوة والخضوع

    بدأت خطوط اللعبة للسيطرة على العالم مَعَ بداية آب عام 1939م حين تمكن العلماء الفرنسيون والألمان والبريطانيون من تحديد مسار كيفية توليد الطاقة الهائلة نووياً. وَقَدْ استغل هذا الإنجاز بعض العلماء اليهود الذين تابعوا بحفاوة كبيرة البحوث العلمية ونشاط المختبرات المتخصصة بالفيزياء النووية والنظائر الفلزّيّة الكيميائية. فَفِي الثاني من آب عام 1939م بدأ اليهودي الهنغاري ليو ساليزرد يعرب لمعارفه من العلماء الأمريكيين عن مخاوفه من امتلاك الألمان للقنبلة النووية. وذلك بعد أن تعثر عليهم الحصول على معلومات عن النشاط النووي للألمان. ولتعزيز قناعته اتصل بزميله اليهودي الهنغاري أدورد تيللر (Edward Teller 1905-1988) الذي كان قَدْ هاجر إِلى أمريكا عام 1935م وسافر مَعَاً إِلى نيويورك للقاء اليهودي الألماني ألبرت أنشتاين (Albert Einstein 1879-1955) وإقناعه بضرورة الكتابة إِلى الرئيس الأمريكي روزفلت Roosevelt وتحذيره من البرنامج النووي الألماني.
    وتحت تأثير زميله إيجين وينجنر ( Eugene Wngner 1902-1995) وافق أنشتاين التوقيع على الرسالة الموجهة إِلى الرئيس الأمريكي والتي كانت معدة من قبل ساليزرد (راجع نصّ الرسالة باللغة الإنكليزية في ملحق رقم 1). تلك الرسالة التي غيرت مجرى السياسة الأمريكية ليست في تلك الحقبة وحسب، بل مازالت تسير على خطى من رسمها وليومنا هذا. فَقَدْ جاء في بعض من نص الرسالة التي وقعها الألماني اليهودي أنشتاين وأعدها اليهودي ساليزرد ما يلي (4,5,6, 7):
    "إن عنصر اليورانيوم من المحتمل إن يكون مصدراً جديداً لإنتاج الطاقة في المستقبل القريب جداً. ومن المؤكد أن الحالة الجديدة ومظاهرها تحتاج إِلى مراقبة وسيطرة إذا كان ذلك ضرورياً. وأنا اعتقد من موقع الواجب والمسؤولية أن أُنبه سيادتكم إِلى جملة من الحقائق والإرشادات"
    من هنا نرى إن ساليزرد ومَن لَفّ حوله بدأ بصورة أساسية بتحديد موقف من إنتاج اليورانيوم وكيفية برمجته مستقبلاً للحيلولة دون تفرد مَن لا ترغب به اليهودية العالمية بهذا العنصر الجديد، الذي كما سنرى كيف غير مجرى الأحداث العالمية. وأصبح في موقع يسدي النصائح إِلى الرئيس الأمريكي بالاتجاه الذي تراه اليهودية العالمية مهما لمستقبلها في السيطرة على العالم أجمع. فنراه ومُنْذُ اللحظة الأولى يؤكد على واجبه في تنبيه الرئيس الأمريكي وتوجيهه للحقائق التي وردت في رسالته والتي تنص على ما يلي:
    "في الأشهر الأربعة الماضية ومن خلال العمل الذي قام به العالم الفرنسي جوليوت بالإضافة إِلى عمل فرمي وساليزرد في الولايات المتحدة الأمريكية تبين أنَّه من المحتمل إنتاج سلسلة من التفاعلات الإشعاعية بكمية هائلة جداً باستعمال اليورانيوم".
    ويبدو أنَّه لم يتمكن من إغفال النتائج التي تمكن المختبر الفرنسي للتوصل إليها والتي جربت فقط في الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن هُرَّبت المعلومات من فرنسا وألمانية، ليضفي إِلى وقائعه نوع من الصدق والصراحة المبطنين. وَمَعَ الحديث العلمي المشوق الذي يبدو في بداية أمره سلمياً لِكُلِّ من يقرأ تلك الرسالة، نرى ساليزرد لم يتمكن من كتمان مأربه إِلى النهاية. فلذا مَعَ النصف التالي من الرسالة بدا يتحدث بجدية عن السلاح النووي دون مقدمة تذكر. ومُحذراً من القوة الألمانية أو غيرها في امتلاك السيطرة على بقاع العالم. وهو ما يعني فِقْدان اليهود موقعهم عالمياً بعد أن عرف هتلر بتهريب المعلومات العسكرية للحلفاء على أيديهم. فَفِي رسالته إِلى الرئيس الأمريكي يستمرّ ليقول فيها:
    "أن هذه الظاهرة الجديدة لابُدَ من أن تؤدي إِلى إنتاج قنبلة تحمل في بواعثها قوة تفجيرية هائلة. فقنبلة واحدة من هذا النوع محمولة بقارب وتنفجر في ميناء ممكن أن تؤدي إِلى تدميره بالكامل مَعَ ما يحيط به من مناطق أخرى ومحتوياتها. على أية حال إن مثل هذه القنبلة قَدْ يكون مثبتاً علمياً أنها ثقيلة لحملها جوا".
    ولعل هذا المقطع من الرسالة ذُو أهمية قصوى إذ لم يكتفي في شرح أهمية إنتاج القنبلة الذرية ولكن تابع شرح القوة التدميرية لها ولو بأداة نقل بسيطة. وهو ما يجعل من اعتاد على الأسلحة التقليدية يفكر مليّاً لمعرفة سرّ العنصر المكتشف الجديد والذي ما لا شكّ فيه كما جاء في الرسالة سوف يقلب موازين القوة في أرض المعركة على أقل تقدير. وَمَعَ إعطائه فكرة كيفية حمل السلاح الجديد وتفجيره إلا أنَّه لم يغفل بذكاء قَدْ يجمع بُعد الحالة الهستيرية التخريبية وحب السيطرة ونصاعة التفكير العلمي في شرح الأمور المتعلقة بإنتاج مثل هذا السلاح ليبقى فعالاً. لذا لم يغفل ذكر ثقل هذه القنبلة عند حملها جوّاً ليجعل الرئيس الأمريكي يعيش في تصوراته في كيفية إتمام مهمة امتلاك مثل هكذا سلاح إذ ما اقتنع بما أورده ساليزرد. ولعل الأكثر أهمية في الرسالة المبعوثة للرئيس الأمريكي هو نصفها الأخير الذي يبين فيها إن مثل هذا السلاح سوف لا يكون بيد الولايات المتحدة الأمريكية أن لم تكن قَدْ تمكنت من السيطرة على مناجم اليورانيوم. إذ يستطرد أنشتاين ليقول:
    "الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك منجم فقير لليورانيوم وبه كميات معتدلة. إلا أن هناك مناجم لليورانيوم في كندا وجيكسلوفاكيا. علاوة على أن أهم مصدر لليورانيوم هو الكونجو البلجيكية."
    هذا النص من الرسالة يعتبر الأهم في عملية التخطيط لخريطة العالم الجديد في حينه. إذ لابُدَ من خلال وجود مناجم اليورانيوم إن تحدد مصالح الدول وتعهداتها مَعَ الآخرين. وهمّنا نرى في الرسالة إن كاتبها أراد الولايات المتحدة الأمريكية إن تأخذ دوراً مؤثراً وسريعاً للانقضاض على من يحتل تلك البقاع والسيطرة عليها مهما كلف الأمر. وذلك لحصر عملية إنتاج اليورانيوم والحصول عليها بإمرة الولايات المتحدة الأمريكية والتي بدون شكّ سوف لا يمكن لغيرها من إنتاج السلاح النووي الرهيب مستقبلاً ويبقى تحت شارة الولايات المتحدة الأمريكية فقط. وعليه فبعد أن حدد الأسس الرئيسية لأهمية اليورانيوم ونتائجه وعلاقته بإنتاج الطاقة والسلاح المؤثر الجديد وضرورة استغلال مناجم إنتاج اليورانيوم فَقَدْ راح فوراً في الأخر يضع اعتباراته وضروراته كالأتي:
    "عند دراسة وملاحظة الموقف الحالي يجب أن تفكر بشخص مرغوب فيه أن يكون وسيط بصورة دائمية ما بين الإدارة الأمريكية والفيزيائيين العاملين في الحقل النووي في الولايات المتحدة الأمريكية. وهناك احتمال لواحد إن يصل لذلك، وهنا يجب أن تنيط العمل بشخص تثق به ثقة تامة ويمكن أن يعمل بصورة غير رسمية بهذا المضمار. على أن يتلخص عمله بما يلي:
    1. يمكنه الوصول إِلى جميع أقسام الدولة الأمريكية المهمة ويعلمهم بالتطور الحاصل في المجال النووي ويعطيهم الإرشادات الضرورية لكي تتخذ الدولة قراراتها وتحذيراتها المتعلقة بمشاكل توفير اليورانيوم للولايات المتحدة الأمريكية.
    2. العمل على تسريع العمل المختبري والذي في الوقت الحالي لا يتعدى بما يتلاءم مَعَ ميزانية المختبرات العلمية للجامعات الأمريكية. وذلك من خلال تهيئة المنح المطلوبة لإنجاز مثل هذا العمل والتي لابُدَ أن تكون من خلاله ومن الشخصيات والمؤسسات التي ترغب في المشاركة مالياً أو المساهمة صناعياً من خلال توفير الأجهزة اللازمة لذلك.
    ت
    مكن ساليزرد بهاتين النقطتين من تحديد أهمية التعاون مَعَهُ ومجموعته في هذا المضمار لكونه ومن يعمل مَعَهُ أكثر خبرة في هذه الناحية من غيرهم وكونهم أول من أخبر الرئيس الأمريكي بذلك. ولعل مثل هذا الموضوع جعل الإدارة الأمريكية في يَدّ هؤلاء العلماء الذين يرومون مأرب أخر غير مأرب علو وسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية. وذلك من خلال تأكيدهم على حصر الأموال المستثمرة والأجهزة والعمل والعلاقة مَعَ الدولة بصورة سرية بمجموعة صغيرة ومحدودة جداً. ولتفعيل كُلّ ما قيل في الرسالة ولوضع الرئيس الأمريكي أمام مسألة لابُدَ من أن يتخذ في مجالها قراراً. وبالتالي فَقَدْ أنهى ساليزرد رسالته التاريخية إِلى الرئيس الأمريكي بما ترومه ألمانية وما توصلت إليه بقوله:
    "لَقَدْ علِمت إن ألمانية قَدْ توقفت عن بيع اليورانيوم من مناجم جيكسلوفاكيا التي احتلتها توا. وهذا القرار المتخذ من قبل ألمانية حديثاً من المحتمل قَدْ اتخذ بعد أن أعلم مركز كاسير ويلهام في برلين وزير خارجية ألمانية بأن الأمريكيين قَدْ بدأوا أعمالهم العلمية على اليورانيوم."
    ختاماً، كان جوهر الرسالة تعميق الخلاف ما بين الولايات المتحدة الأمريكية وألمانية تحت ظروف ضرورة امتلاك اليورانيوم لبسط النفوذ. إذ من خلال تلك الرسالة يتضح أن من كتبها ووقعها ومن ساهم في ذلك كانوا يبحثون عن ترتيب خريطة العالم بصورة جوهرية لمستقبل قَدْ يطول ليس عشرات السنين بل لقرون كثيرة. وَقَدْ يرى البحث أن السلاح النووي ومؤثراته الاستراتيجية قَدْ أخذت أبعادها ليس مَعَ إنتاج القنبلة الذرية، بل بعد أن تبين أهمية اليورانيوم وكيفية استعماله لتوليد الطاقة ومن ثُمّ القنبلة الذرية. وعليه فلا يمكن أن يغفل التاريخ فحوى الرسالة ومعانيها التي أعدها ساليزرد ووقعها أنشتاين وشارك فيها كثيرون من الجالية اليهودية المتواجدة في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية. ولربما حسب اعتقادنا أن التزام الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا في قيام الكيان الصهيوني وبقاءه وحمايته يكون نابعاً من العلاقة النووية المصيرية ومن خلال الالتزامات السرية التي ربما أقرتها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا لليهود إذا ما أنجز هذا المشروع.
    لم يجب الرئيس الأمريكي فوراً على الرسالة الموقعة من أنشتاين، بل يبدو أنَّه فضَلَ البحث والتروي لكي يصل إِلى فحواها ومدى صحتها. كما يبدو أنَّه كان فَرِحاً جداً على ما جاء فيها من نصائح وإرشادات ليست متداولة من قبل. فأجاب روزفلت في رسالته بتاريخ 19 تشرين الأول عام 1939 بما يلي (نص الرسالة أُنظر ملحق 1) (4, 5, 6, 7):
    "عزيزي البروفيسور: أريد أن أشكرك على رسالتك المؤخرة وما حوتها من معلومات مهمة وقيمة. لَقَدْ وجدت المعلومات هذه مهمة جداً وأنا عقدت اجتماعاً ضَمّ رؤساء مكاتب الرئاسة ممثل عن الجيش وممثل عن البحرية للتحقق من مسألة اليورانيوم الذي ذكرتموه في رسالتكم. أنني فرح جداً لأعلمكم أن الدكتور ساجز سوف يقوم بالتعاون مَعَ المجموعة المنتخبة للتحري عن اليورانيوم وأنني لأشعر إن هذا الموضوع عملي ومؤثر للناحية التي نتعامل معها. رجاء تقبل مني صادق شكري".
    يبدو أن هذا الرسالة قَدْ أثلجت صدور من خططوا لها، خصوصاً بعد أن انتخب ساجز (Sachs 1911-1988) اليهودي الهولندي للمشاركة بهذه المهمة. إذ من خلاله يمكنهم التعرف على مجريات الأمور بعد أن وجهه لهذا الأمر ساليزرد وأنشتاين وفرمي (8).

    1.3 الاكتشاف النووي والحرب العالمية الثانية

    كما بينا مسبقاً أنَّه مَعَ بداية الثلاثينات وحَتَّى قيام الحرب العالمية الثانية كانت الجهود العلمية البريطانية والأمريكية موجهة للبحث في كيفية استخلاص الطاقة النووية واستعمالها للأغراض السلمية كبديل عن النفط على الأقل في بعض المجالات الخدمية اليومية، كتوليد الطاقة الكهربائية وتحلية المياه. إلا أن هذه السياسة اختلفت تَماماً حين اندلعت الحرب العالمية الثانية. وَقَدْ ساعد على ذلك الاكتشاف المبكر لقابلية اليورانيوم المخصب الذي ساعد على تغيير اتجاه البحوث العلمية نحو الاستعمال العسكري، لسهولة توليد الطاقة النووية الكامنة الهائلة من خلال استعماله في حقل التجارب بدلاً من استخراج كوامن الذرات العادية. فَقَدْ أقدمت حكومة الحرب البريطانية عام 1940م بتعيين السير جورج ثومسن Sir George Thomson رئيساً لهيئة البحوث النووية، موعزة لهذه المؤسسة بضرورة دراسة الجوانب الخاصة باحتمال صناعة قنبلة نووية. كما تَمَّ في نفس الوقت وبالاتفاق مَعَ بريطانيا على تأسيس هيئة نووية مماثلة في الولايات المتحدة الأمريكية للقيام بنفس الغرض. تعهدت فيه بريطانيا بتزويد الأمريكان باليورانيوم المخصب المتوفر بكثرة في مستعمراتها مقابل أن يقوم الخبراء الأمريكان بإبلاغ بريطانيا بما يتوصل إليه خبراؤها من نتائج علمية باتجاه صنع القنبلة الذرية أولاً بأول (9¸10).
    وبالاستناد إِلى الاتفاق البريطاني الأمريكي، أقدم الرئيس الأمريكي روزفلت على تعيين لجنة سرية خاصة مهمتها البحث في كيفية إنتاج السلاح الذريّ. وبعد دراسة مستفيضة لِكُلِّ الجوانب الإدارية والعلمية والمالية وكيفية توفير اليورانيوم لهذا المنتج الجديد تمكنت اللجنة من إخبار الرئيس الأمريكي في السابع من يوليو/ تموز عام 1941م بإمكانية بناء مفاعل نووي خلال سنة ونصف تحديداً. أما القنبلة الذرية فلا يمكن أن تكون حقيقة قبل أربعة أعوام من الآن (4,8). ومن خلال تلك الحقائق التي أُعلم بها الرئيس الأمريكي اتصلت اللجنة التي أعطاها الرئيس الأمريكية شرعية صناعة القنبلة الذرية بالعلماء البريطانيين والعلماء الغربيين اللاجئين إِلى الولايات المتحدة الأمريكية والذين جلهم من اليهود الألمان. وذلك بغرض التعجيل في إنتاجها من خلال نتائج بحوث العلماء بهذا الشأن.
    إن الاتفاق المبدئي بين بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية الخاص بضرورة التعاون في مجال البحث النووي، جعل من الاجتماعات العلمية تتوالى. بحيث كان يتبادل فيها الطرفان ما توصلا إليه من نتائج متعلقة بضرورة إنتاج أول قنبلة ذرية وماهية الآلة العسكرية المحتملة للقيام بتلك المهمة النووية المدمرة. إذ كان أول نتاج هيئة البحوث النووية البريطانية أن قدمت تقريرها وتوصياتها بخصوص القنبلة الذرية للحكومة الأمريكية في الرابع عشر من أكتوبر عام 1941م والذي جاء فيه ما يلي (5,6,8):
    1. إن إنتاج القنبلة الذرية باستعمال اليورانيوم تعتبر عملية ناجحة، كما أن العمل لصنع آلة حربية لنقلها شيء من المحتمل تحقيقه أَيضاً ولكن خلال فترة زمنية ليست بالبسيطة.
    2. نوصي أن يكون العمل في هذا الجانب ذُو أهمية قصوى مقارنة مَعَ المهام الأخرى. كما يجب أن يتوفر مثل هذا السلاح بسرعة قصوى وبوقت قصير جداً من خلال مضاعفة الجهود العلمية.
    3. التعاون الحالي ما بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة يجب أن يستمرّ ويتطور خصوصاً في الجوانب العملية والتطبيقية النووية.
    وبناءاً على تلك المعلومات قرر الرئيس الأمريكي في السادس من ديسمبر/كانون الأول عام 1941م إعلان رغبة الولايات المتحدة الأمريكية بالعمل على إنتاج القنبلة الذرية وبالتعاون مَعَ المملكة المتحدة بكل الجوانب التي تؤدي إِلى صنعها.
    ونظراً للهزائم المنكرة التي منية بها المملكة المتحدة على يدّ القوات الألمانية وعلى كافة الجبهات تقريباً وتعسر المضي قدماً بالبحث النووي وعدم التوصل إِلى أية نتائج مرضية، قررت حكومة الإتلاف البريطاني المتمثلة بـ: ونستن تشرشل Winston Churchill وكليمنت أتلي Clement Attlee على ضرورة أيجاد صيغة اتفاق مَعَ الولايات المتحدة الأمريكية تضمن فيها بريطانيا المشاركة في ثمرة الاكتشاف النووي. وعليه فَقَدْ وقَّعَ في مدينة كيوبك Quebec الكندية عام 1943م كلا من ونستن تشرشل رئيس الوزراء البريطاني والرئيس الأمريكي فرانكلن روزفلت Franklin D. Roosevelt اتفاقاً نص على ما يلي (1,2,3,9):
    1. نظراً لبعد الولايات المتحدة الأمريكية عن منطقة الحرب وتوفر المصادر البشرية والعلمية لاستمرار البحث فَقَدْ تقرر قيام الولايات المتحدة الأمريكية بهذه المهمة لوحدها.
    2. تتوقف المؤسسة النووية البريطانية عن العمل فوراً ويتم نقل الخبراء البريطانيين وبكامل معداتهم المختبرية للالتحاق بالمؤسسة النووية الأمريكية وإعطائهم دوراً كبيراً في العمل النووي.
    3. تتعهد الولايات المتحدة الأمريكية بتزويد بريطانيا وبدون قيود بكافة المعلومات العلمية والصناعية والتكنولوجية والطرق الهندسية المتعلقة ببناء وعمل المفاعل النووي.
    4. في حالة إنتاج السلاح النووي واستعماله خلال الحرب تعتبر بريطانيا مساهماً في إنتاجه واستعماله.

    بعد هذا الاتفاق التاريخي وما سبقها من اتفاقات نووية عام 1941م وعام 1942م والتي معظمها وقعت في الهايد بارك ما بين تشرشل وروزفلت بدأ العدّ التنازلي لصنع أول قنبلة ذرية تمكن الأمريكان من خلالها إخراس اليابان وإنهاء أسطورة الإصرار الياباني على الانتصار. فَفِي السادس عشر من تموز عام 1945م قام الرئيس الأمريكي هاري ترومان Harry S. Truman أثناء وجوده في مدينة بوتسدام الألمانية Potsdam بأخبار كُلّ من جوزيف ستالين وونستون تشرشل وأتلي (بصفته نائب رئيس الوزراء في حكومة الإتلاف البريطانية والذي تسلم منصب رئيس الوزراء بعد هذا الإعلام بعشرة أيام) نجاح صنع أول قنبلة ذرية في لوس ألمس Los Alamos) 11,6). حَيْثُ تَمَّ تدشين نتاج هذا السلاح المدمر بإلقائه من الجو على مدينتي هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين في السادس والثامن من آب عام 1945م على التوالي. وهنا لابُدَ إن نشير إِلى أنَّه على الرغم من معارضة ستالين وترومان لهذا القرار إيماناً منهما بان الحرب قَدْ انتهت لصالحهم ولا داعي لأحداث كارثة لا تعرف عقبها، فَقَدْ أصر رئيس الوزراء البريطاني أتلي على استعمال هذا السلاح، وبالتحديد على اليابان. لبعدها الجغرافي عن المنطقة الأوربية والمناطق النفطية المستغلة من قبل الحلفاء والولايات المتحدة الأمريكية لا لتدمير المدينتين اليابانيتين فحسب، بل كتحذير مستقبلي لِكُلِّ القوى الدولية. متضمناً حيازة بريطانيا على هذا السلاح الفتاك مَعَ حليفتها الولايات المتحدة الأمريكية وإنهما لا يتوانى في استعماله دفاعاً عن المصالح الخاصة بدولتيهما في الحاضر والمستقبل (12,8).

    1.4 انهيار التحالف النووي البريطاني الأمريكي

    كان كُلّ من تشرشل وأتلي مقتنعين تَماماً بان لهم الحَقّ بمشاركة الولايات المتحدة الأمريكية بثمرة إنتاج القوة النووية استناداً إِلى المعاهدات المبرمة بين البلدين أثناء عملية البحث العلمي والتصنيع. وعلى هذا الأساس قام أتلي مباشرة بعد إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما بإطلاق الوثائق الخاصة بالاتفاق النووي بين بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إِلى محضر الجلسات المعقودة بين تشرشل وروزفلت والتي تنص على فعالية المساهمة البريطانية في إنتاج وتطوير وتصنيع هذا السلاح الفتاك وحقها في امتلاك السيطرة عليه (11). وهذا ما يجعلنا نستنتج أن حكومة الائتلاف البريطاني كانت تحاول بشتى الوسائل المتاحة إليها للسيطرة أو أن تكون طرف مسيطر على هذا السلاح الاستراتيجي خوفاً من انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بتلك القوة التي تأهلها لقيادة القوة الدولية.
    لم يكتفي أتلي بالإعلان الشعبي عن مساهمة بريطانيا الفعالة بإنتاج السلاح النووي بل راح أبعد من ذلك عندما قام في الثامن من آب عام 1945م (بعد يوم واحد من ضرب نجازاكي) بإرسال رسالة شخصية إِلى الرئيس الأمريكي ترومان موضحاً فيها ما يلي (7,12):
    "بصفتنا نحن الاثنان كرؤساء لحكومتي بلدينا فَلابُدَّ لنا من السيطرة سيطرة مباشرة على السلاح النووي العظيم، فلذا فأنني أدعو سيادتكم وبدون تأخير أن نعلن مجتمعين عن امتلاكنا هذا السلاح العظيم ولنا الحَقّ في منع استعماله من قبل أية جهة أخرى حفظاً للصالح الدولي العام وتحقيقاً للسلام والعدالة في هذا العالم الحرّ".
    لَقَدْ كان رَدّ ترومان مخيباً للآمال وذلك لعدم اعترافه بما أبرم بين بلاده وبين المملكة المتحدة، وهذا ما عبر عنه بقوله (7, 12):
    "بريطانيا ليست شريك وليس لها الحَقّ في السيطرة أو امتلاك هذه القوة الجبارة".
    لَقَدْ كانت ردود فعل بريطانيا قوية وشرسة ضدّ الأمريكان على الرغم من معرفة قادتها بالانهيار المصاحب لهم من جراء الحرب العالمية الثانية وإن لا حول لهم ولا قوة للمطالبة بحَقّ امتلاك هذا السلاح الرهيب. الذي لابُدَ وإن يكون له دوراً كبيراً في السيطرة على العالم بأجمعه مستقبلاً أو على الأقل لتحكم بمعايير السلام والحرب من خلال التهديد به. فلذا قام بعض من أعضاء حكومة أتلي وجمع من الحاذقين في الصحافة البريطانية والأمريكية الموالين لبريطانيا بالتحذير من أمريكا وامتلاكها للسلاح النووي التي تروم استعماله باحتلال العالم وبالتالي ضرب مصالح الدول الأوربية. وهو ما سبب بالفعل أزمة كبيرة بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوربيون والاتحاد السوفيتي (13). ولقد قامت قائمة الدول الأوربية والاتحاد السوفيتي حال نشر الصحف البريطانية وثائق تدين الحكومة الأمريكية وأطماعها لاحتلال مناطق العالم النفطية والمناطق الأخرى الغنية بالمواد الأولية، والتي تعتبر عموداً فقرياً للصناعة التي تطورت خلال الحرب العالمية الثانية. مما حدا بالحكومة الأمريكية استدعاء ونستن تشرشل للتباحث معها بصفته خير حليف لها ورجل السياسة البريطانية الذي وقع على المعاهدات الأمريكية البريطانية خلال فترة الحرب العالمية الثانية. وبعد الاجتماع غير الرسمي أعلن تشرشل مباشرة عن فرحه بامتلاك الولايات المتحدة الأمريكية للقنبلة الذرية وأكد على الاتفاق السري الذي وقعه مَعَ الرئيس الأمريكي روزفلت آنذاك بقوله (4, 14):
    "لَقَدْ اتفقنا في حينه على ضرورة عدم إشراك أية دولة في معرفة سرّ صنع القنبلة الذرية"
    كما أكد على التزام أمريكا بحماية التحالف ومصالحهم في أية بقعة من العالم. وبذلك يكون تشرشل قَدْ تمكن من خلال تصريحه هذا أن يمتص النقمة الأوربية والروسية وبعض من القيادات السياسية البريطانية ضدّ الأمريكان لمعرفة الجميع بتأثيره على القيادات الأمريكية. حَيْثُ دخلت الولايات المتحدة الأمريكية بفضله الحرب ضدّ ألمانية وحلفائها والتزمت بتموين خطوط الحرب بالمؤن الحربية حَتَّى سقوط هتلر.
    إن قناعة تشرشل قَدْ تتضمن ضرورة مشاركة بريطانيا في جني ثمار امتلاك السلاح النووي، فأدلى بذلك التصريح المبهم. والذي يحتمل عدة تفسيرات وتأويلات ليسدل الستار على ما افتعله غريمه العمالي أتلي إيماناً منه بأهمية مهادنة الولايات المتحدة الأمريكية والتعاون معها كحليف بديل عن الدول الأوربية التي أُرهق اقتصادها بسبب الحرب المدمرة، وهو ما دعا أتلي يتعامل مَعَ الموقف بصورة أكثر دبلوماسية مما كان يتعامل مَعَهُ في الأول.

    يتبع







    تعليق


    • #3
      رد: السياسة النووية الدولية وأثرها على منطقة الشرق الأوسط

      الفصل الثاني

      الحوار البريطاني الأمريكي


      تمكن تشرشل من إقناع أتلي على ضرورة التفاوض مَعَ الولايات الأمريكية وبصورة هادئة للحصول على ما يسمى بـ: Know how (مهارة الاختراع) في صنع القنبلة الذرية. كما أكد تشرشل على ضرورة التحالف مَعَ الولايات المتحدة الأمريكية لحماية مصالح بريطانيا النفطية في منطقة الشرق الأوسط من التهديدات السوفيتية التي ظهرت كقوة عسكرية ومخابراتية هائلة مَعَ نهاية الحرب العالمية الثانية. معربا عن توقعه بإمكانية صناعة السلاح النووي في روسيا خلال السنوات الخمس القادمة دون الحاجة لمعرفة التفاصيل المؤدية لذلك. وهو مما قَدْ يسبب تهديداً لبريطانيا في الحفاظ على منطقة الخليج العربي الغنية بالبترول. الأمر الذي تطمح روسيا إليه ليس الآن فحسب، بل مُنْذُ أيام القياصرة. فتشرشل لم يكن متخوفاً فقط من القوة العسكرية السوفيتية الجديدة التي بنيت بواسطة المساعدات الأمريكية السخية أبان الحرب العالمية الثانية، بقدر ما كان متخوفاً من المَدّ الأيديولوجي الذي قَدْ يجعل مستعمراتهم غير هادئة. وذلك لتبني الاتحاد السوفيتي فكرة الدفاع عن حقوق الشعوب المستعمرة والمضطهدة في العالم.
      فعندما شغل تشرشل منصب وزير المستعمرات البريطانية عانى الكثير من المدّ الشيوعي في الشرق الأوسط وخاصة في الشام ومصر حين كانت الدولة الشيوعية فتية وفي أول أيام بنائها. أما الآن وبعد أن أصبحت قوة عسكرية مهمة جعلت تشرشل يحذر أكثر، خوفاً من أن تتعدى حدودها حَتَّى تصل أعماق أوربا خصوصاً وإن للشيوعية خيوط سميكة في بريطانيا وبعض الدول الأوربية الحليفة. فلذا كان تشرشل يدعو أتلي للتعاون مَعَ الأمريكان لبناء سياج فكري (وليس سياج برلين الفاصل بين الألمانيتين والذي تَمَّ تدميره نهاية عام 1989م) يفصل بين تطلعات بريطانيا الاستعمارية وتطلعات الشيوعية السوفيتية الفكرية (12).


      يتبع







      تعليق


      • #4
        رد: السياسة النووية الدولية وأثرها على منطقة الشرق الأوسط

        الفصل الثالث

        الصناعة النووية البريطانية ونشاطها الدولي

        يتضح مما تقدم أن الحكومة البريطانية كانت ألعوبة بيد القادة الأمريكان وأنها ذرفت الدموع للحصول على الخبرة النووية ليتسنى لها مشاركة الولايات المتحدة الأمريكية للسيطرة على العالم ومصادره الاقتصادية مستقبلاً، وذلك من خلال التحالف معها. كانت هذه الأُطروحة ظاهرة بالفعل في بنود المعاهدات والمراسلات المتبادلة بين الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء البريطاني في الفترة الواقعة ما بين عام 1942م ولغاية انهيار التحالف مَعَ الولايات المتحدة الأمريكية وكندا في الأول من آب عام 1946م، حين صادق الرئيس الأمريكي على مشروع مكماهون. المشروع الذي يحرم إعطاء أية معلومة نووية لأية دولة مهما كان نوع التحالف معها. ولكن هل يعقل أن السياسة البريطانية بهذا المستوى من الغباء القيادي؟ في الواقع لا بكل ما فيها من حرارة لغوية، إذ ما عرفنا اعتماد السياسة البريطانية ومُنْذُ انفتاحها على العالم ودخولها حروب المنافسة وبسط النفوذ، وهي تحاول أن تستنفذ كُلّ ما عند الحليف أو العدو دون إعطائه أية فرصة للاستفادة منها.
        ولعلنا في بنود هذا الفصل سوف نحاول إزالة الحجاب عن تلك السياسة وملابساتها وما لها من تأثير في تغيير اتجاهات الولايات المتحدة الأمريكية الاستراتيجية.
        في أوائل عام 1943م وخلال زهو توقيع الاتفاقيات النووية ما بين بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، كانت الأولى تركز على جانب جمع المعلومات المتعلقة بالبحوث النووية ومراقبة الدول الأخرى العاملة في هذا المجال وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والسويد وألمانية، وذلك لعلمها باهتمام هذه الدول في مجال تصنيع الطاقة النووية. حَيْثُ كان الهدف من ذلك معرفة مكامن الضعف والخطأ وليس جوهر الإنتاج النووي. إلا إن الأمر النووي بدا العمل بمتعلقاته علنيّاً ومباشرة بعد تدمير هيروشيما اليابانية، إذ أعلن أتلي رئيس الوزراء البريطاني في الخامس عشر من آب عام 1945م عن تأسيس لجنة مستشارين متخصصة بدراسة استخلاص الطاقة النووية.

        يتبع





        تعليق


        • #5
          رد: السياسة النووية الدولية وأثرها على منطقة الشرق الأوسط

          رأس تلك اللجنة للمراقبة والإشراف على برامج الطاقة النووية في وزارة ونستن تشرشل في زمن الحرب العالمية الثانية السير جون أندرسن وضمت في عضويتها كُلّ من السير ألكساندر كادكون Sir Alexander Cadogan وفيلد مارشال Field Marshal والسير ألن بروك Sir Alan Brooke والسير ألن بارلو Sir Alan Barlow والسير أدورد أبلتن Sir Edward Appleton والسير هنري ديل Sir Henry Dale والبروفيسور بي أم إس بلاكتي Professor P. M. S. Blacett والسير جيمز جادوك Sir James Chadwick والسير جورج ثمسون Sir George Thomson. كانت هذه اللجنة بديلاً عن لجنة تيوب اللويز Tube Alloys Committee المنشئة أيام الحرب العالمية الثانية (24). ولم يمضي أكثر من أسبوع على تشكيل هذه اللجنة حَتَّى أصدر أتلي قراره باستئناف العمل بالبرنامج النووي البريطاني مُؤكِّداً على ضرورة السرية في العمل والاستفادة من المحطة النووية الكندية جولك رفر Chalk River الموجودة في أوتوا Ottawa في موضوع أجراء التجارب النووية والتي سبق وإن تدرب فيها النوويون البريطانيون أثناء فترة الحرب العالمية الثانية (7,25).
          كان قرار أتلي الذي تضمن المباشرة بالعمل النووي البريطاني الصرف لم يكن ناتجاً من الغضب على ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية مَعَهُ، بل على ما كان مبنيا من نقاش مسبق دار بواشنطن في تشرين الثاني عام 1944 ما بين الحكومة البريطانية التي كان يرأسها ونستن تشرشل آنذاك والعلماء البريطانيين العاملين في الحقل النووي وهم كُلّ من جون كوكروفت John Cockcroft ومارك أولفينت Mark Oliphant وويلس أكرز Wallace Akers وجيمس جادوك James Chadwick ورودلف بيرلز Rudolf Peierls، إذ اشتكى هؤلاء العلماء من المضايقات الأمريكية لهم المتسمة بإبعادهم عن كُلّ ما له علاقة حساسة بالإنتاج النووي. ونصحوا تشرشل آنذاك بضرورة شروع بريطانيا في بناء مشاريعها النووية دون الاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية. إيماناً منهم بان تلك الدولة تنوي الانفراد في امتلاك هذا السلاح تحت مؤثرات العلماء اللاجئين إليها من أوربا وألمانية والذين جلهم من اليهود (7,25). ثُمّ استطرد هؤلاء العلماء مخبرين تشرشل بنوع المضايقات الأمنية التي يعانون منها وكيف يعمل لزلي كروفز لإبعادهم عن مواقع خزن المعلومات التي تؤدي إِلى الإنتاج النووي.
          وَمَعَ إسهاب العلماء بطرح كُلّ شيء أمام تشرشل، كانت تقاسيم وجهه قبل فعله توحي بعدم نيته في الدخول بمعركة تعكر صفوة الأجواء مَعَ الأمريكان. إلا أن أتلي وبصفته نائب لرئيس الوزراء البريطاني آنذاك كان غير مطمئن لما يفعله الأمريكان فلذا قام مباشرة بدعم البرنامج النووي سياسياً واقتصادياً بعد استلامه منصب رئيس الوزراء في الحكومة الائتلافية (26).

          3.1 المباشرة بالمشروع النووي البريطاني
          لم يُعَدّ هناك أيّ منفذ أمام بريطانيا لمواجهة الضغوط الأمريكية بالكَفّ عن المطالبة بحقّها بامتلاك السلاح النووي إلا العمل بخفية تامة. فبعد عودة تشرشل من واشنطن بيومين اجتمع مَعَ أتلي وناقش مَعَهُ النوايا الأمريكية بهذا الخصوص. تلك النوايا التي تمكن تشرشل بهدوءه ودهائه من أن يعرفها خلال جلساته الثلاثة مَعَ ترومان والتي تضمنت عدم نية الولايات المتحدة الأمريكية مشاركة أية دولة أخرى بما لديها من سلاح نووي ونيتها، وهي الأكثر أهمية، بالعمل على منع أية دولة في المستقبل من امتلاك السلاح النووي أو مواده الأولية. وذلك لإجل إن تضمن بسط نفوذها بسهولة وفرض سيطرتها على العالم أجمع دون أية منافسة حَتَّى المنافسة البريطانية التي كانت عاجزة عن فعل أيّ شيء بنظر ترومان. فتصريح تشرشل بواشنطن كان هادئ ودبلوماسي، عَقّب على كُلّ شيء متعلق بالمسالة دون إثارة أية مشكلة. وأكدا على ضرورة التحالف مَعَ الولايات المتحدة الأمريكية التي سوف تتفرد بالقوة والسيطرة على العالم الكبير آجلاً أم عاجلاً (17). ولكن ما دار بين أتلي وتشرشل في اجتماعاتهم السرية بعد عودته من واشنطن كانت بعيدة كُلّ البعد عما صرح به تشرشل للصحافة.
          فهو قَدْ حاول التركيز على بناء ضروريات إنجاح مساعي أتلي للحصول على السلاح النووي. وعليه فَقَدْ رسم الاثنان الخطوات الواجب تنفيذها للحفاظ على الإمبراطورية البريطانية من الهيمنة الأمريكية. وأكد تشرشل على أتلي وهو منصتاً، بضرورة التعجيل في تنفيذ المشروع النووي البريطاني بسرية تامة وإظهار حالة العجز من تنفيذه دون مساعدة الولايات المتحدة الأمريكية. كما أكد على ضرورة إبلاغ روسيا وفرنسا والبرتغال وأسبانيا بالنوايا الأمريكية وحثهم على القيام بتنفيذ برامجهم النووية. لكي لا تستحوذ الولايات المتحدة الأمريكية على مصادر الحياة في هذه الكرة الأرضية لوحدها. كما أكد تشرشل على ضرورة العمل بصورة مباشرة وعلى وجه السرعة على حماية مواقع الإمبراطورية البريطانية في الشرق الأوسط والخليج العربي خاصة حَتَّى ولو كلف الأمر إقامة حلف مَعَ روسيا ضدّ الولايات المتحدة الأمريكية. ثُمّ عرج على ضرورة دعم المؤسسات اليهودية العالمية المتواجدة داخل روسيا والولايات المتحدة الأمريكية فهم حسب تصوره الأدوات التي يمكن أن تُضرب بها تلك القوى الجبارة (26).
          ما أن انفض الاجتماع حَتَّى حرص أتلي على تنفيذ كُلّ ما أملاه عليه عدوه المحافظ بالحرف الواحد وخاصة فيما يتعلق بحماية المصالح البريطانية في الخليج العربي والشرق الأوسط. عمل فوراً على ترصين العلاقة أكثر مَعَ المنظمات اليهودية الصهيونية المترامية في بقاع العالم (26). ومعطياً ضمانات لمؤسساتهم بالوقوف استراتيجياً في البحث عن دلائل إبادة الألمان لليهود خلال الحرب العالمية الثانية. ومُذكِّراً بالالتزامات بريطانيا لوعد بلفور وضرورة تفعيله بعد ما حدث لهم على يَدّ الألمان. وحسب ادعائه، لجعل هذا المبدأ حقيقة يجب أن تكون بريطانيا في موضع القوة لكي تتمكن من حماية التزاماتها لليهود في إقامة وطنهم القومي (27,28).
          خلال الفترة التي تَمَّ بها تشكيل اللجنة النووية البريطانية وتعثر المباحثات فيما بين بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وفق ما بدا من المراسلات المتبادلة ما بين أتلي وترومان، أعلنت الحكومة العمالية البريطانية في التاسع والعشرين من تشرين الأول عام 1945م للبرلمان أنها قررت البدء بالبحث العلمي والتطوير للبرنامج النووي. وإن أول مفاعل نووي بريطاني سينشأ في منطقة هارول Harwell. أعقب ذلك بثلاثة أيام الإعلان عن قرار الحكومة البريطانية برصد مبلغ مليون إسترليني للعمل في تنفيذ مشروع هارول الذي قدرت تكاليفه الإجمالية بـ: 500,000 مليون إسترليني خلال المرحلة الأولى من التنفيذ (29). ولم يدم طويلاً حَتَّى بوشر بالعمليات الفعلية التي تؤدي إِلى إنتاج البلوتونيوم. إذ في السابع من كانون الأول عام 1945م وبعد عودة أتلي من الولايات المتحدة الأمريكية يعتبر التاريخ الذي أعطى أتلي فيه الضوء الأخضر للبدء بتلك العمليات (17).
          كانت نصائح تشرشل ترن بأذني أتلي في كُلّ خطوة يخطوها بالبرنامج النووي. وكان أتلي حريصاً على إبقاء البرنامج النووي وما يدور حوله من شكوك غامضة تكتنفه السرية التامة. خاصة بعد أن لَمَسَ بكل حَقّ مصداقية تشرشل وتوقعاته الصائبة لما قَدْ تصل إليه المباحثات الأمريكية البريطانية بهذا الشأن. وعليه فَقَدْ كان كُلّ ما يعرف من معلومات علنية عن البرنامج النووي البريطاني لا تتعدى عما يدور من أعمال في مختبرات جالك رفر الكندي. وَمَعَ تلك السرية في عمل أتلي إلا أنَّه لم يتأخر برفد مفاعله السري في هارول بالخبرات والأموال والأجهزة من خلال ميزانية الدولة التي لابُدَ أن تُقرّ بالبرلمان وتطلع عليها الأحزاب السياسية الأخرى. فَفِي الثلاثين من كانون الثاني عام 1946م استدعى البروفيسور كوكلروفت الذي يشغل منصب رئيس مختبرات مفاعل جالك رفر النووي بكندا بحجة عدم جدوى بقائه هناك وعينه رئيساً لمركز الأبحاث النووية في هارول بعد أن أخبر الولايات المتحدة الأمريكية بإحالته على التقاعد لكبر سنه (18).
          كما استدعى اللورد الطيار المتقاعد بوترل Lord Portal الذي شغل منصب قائد القاعدة الجوية الملكية البريطانية في هينكرفورد Hungerford سابقاً وعينه رئيساً لمنظمة الطاقة النووية في هارول، مَعَ إعطائه صلاحية مطلقة لتوفيق سبل العمل ما بين المهندسين والعلماء النوويين وصلاحية اتخاذ القرار الخاص لإنجازه (30). وأحتفظ أتلي بصلاحية الإشراف الشامل والعام على القضايا النووية لنفسه إضافة إِلى وضيفته كرئيس للوزراء.
          على الرغم من التكاليف الباهظة لمشروع هارول النووي وصعدت تكاليفه الإجمالية إِلى حوالي 2800,000 مليون إسترليني بعد أن كانت قبل الشروع بالعمل 500,000 مليون إسترليني (31)، فَقَدْ كان مشروعاً مخصصاً فقط لعمليات البحث والتطبيق العلمي النووي وليس للإنتاج. لكونه لا يرتقي في مكوناته التكنولوجية والإنشائية مستوى المواقع النووية الأمريكية المنتجة للطاقة النووية كالموجود في أوك ردج Oak Ridge وتنيسي Tennessee وهانفورد Hanford بواشنطن. ولكي تصل بريطانيا إِلى مستوى الإنتاج النووي فيما إذا نجحت بحوثها النووية التطبيقية في هارول فعليها أن تمتلك تصميم بنائي خاص بالمفاعلات النووية. ولأهمية الأمر فَقَدْ كلف أتلي مبكراً كرستوفر هنتن Christopher Hinton المهندس الخبير بشؤون البناء والذي شغل منصب مدير بناء المصانع الحربية في زمن الحرب، ليكون رئيساً للهيئة الصناعية الرئاسية العامة. ولم ينتظر هنتن كثيراً بل باشر فور استلامه السلطة الجديدة بإنشاء مركزاً نووياً متكاملاً وجاهزاً لإنتاج المواد الإشعاعية المخصبة في مدينة رايزلي Risley التابعة لمقاطعة لانكشاير (Lancashire (31,32.
          لم تكن طموحات هنتن قَدْ توقفت عند حدّ الإنشاء السريع للمواقع النووية فحسب، بل في خلال أقل من شهر اختار هو ومساعديه معملاً كيماوياً حربياً في منطقة سبرنك فيلد Springfield بمدينة برستون Preston التابعة لمقاطعة لانكشاير ليكون موقعاً لإنتاج اليورانيوم المخصب (33). وَمَعَ هذا الإنجاز الكبير السريع الذي حققه هنتن كان طموحه يكبر كثيراً يوماً بعد يوم ليملي جموح التفوق في نفسه.
          فراح مُكَثفاً الجهود لبناء أكثر ما يمكن من المفاعل النووية في فترة زمنية قصيرة جداً وهو ما جعل بريطانيا مَعَ نهاية عام 1947م تمتلك إضافة إِلى ما ذكر أعلاه مفاعلاً نووياً في وندسكيل Windscale التابعة لمدينة كمبرلاند Cumberland وكالدر هول Calder Hall وديونري Dounreay. (2)
          يبدو أن تعيين هنتن ذُو النشاط المتنامي بمثل هذا المنصب لم يكن مصادفة، بل نابعاً من ضرورة خلق كادر هندسي بريطاني قادر على التصميم النووي مما يسهل على اختصار الزمن لبناء مشروع صناعي ضخم. ولربما أكثر الكوادر خبرة في فترة ما بعد الحرب، خصوصاً وإن بريطانيا تعاني من تلك المشكلة لقلة خبرات مهندسيها في مضمار تشييد الأبنية الخاصة لنصب وتشغيل المفاعلات النووية. وذلك لاعتمادهم على أحلامهم الواهية المبنية على ما ستجود به الولايات المتحدة الأمريكية عليهم من خبرات هندسية نووية (32). وَمَعَ الإصرار العملي العلمي ذُو المجهود الكبير الذي بذله هنتن تمكنت بريطانيا من امتصاص الهزيمة غير المتوقعة الناتجة
          من توقيع ترومان على مشروع مكماهون النووي في بداية آب عام 1946م. وبدلاً من أن تتبع نفس الأسلوب المشين ذُو الطابع التهديدي مَعَ الولايات المتحدة الأمريكية راحت معلنة بما فوجئ به ترومان وهو "أن بريطانيا في موقع يمكنها من تنفيذ مشروعها النووي الشامل بدون الحاجة إِلى المساعدة الأمريكية". لا بل وصلت الثقة البريطانية في برنامجها النووي حدّ الإعلان في بداية نيسان عام 1947م توصية اللجنة الاستشارية العليا للطاقة النووية البريطانية المتضمنة تأكيد إنتاج البلوتونيوم في الشهور الثلاثة الأولى من عام 1952م، وهذا ما يعني الخطوة النهائية لامتلاك القنبلة الذرية (17).
          مَعَ نهاية عام 1947م لم يكن هناك أدنى شكّ بطموحات رئيس الوزراء البريطاني سواء كانت السياسية منها أو العلمية في إصراره لامتلاك الطاقة النووية. وَقَدْ بدا ذلك واضحاً في خطابه أمام مجلس الدفاع البريطاني ومجلس الوزراء عندما أعلن عن عزمه وعزم العاملين على امتلاك القنبلة الذرية بأيّ شكل من الأشكال وإن لا يدع الولايات المتحدة الأمريكية تسيطر على العالم سياسياً وعسكرياً واقتصادياً (34). ولم يكن خطاب أتلي الأخير دون مناسبة تذكر، بل جاء متزامنا مَعَ حرص تشرشل على ضرورة أيجاد أحسن السبل لأخبار الشعب البريطاني عما كان تعمل الحكومة العمالية سرّاً لتصنيع القنبلة الذرية التي تجعلها تقف أمام المَدّ الأمريكي الجديد. وللسبب ذاته قَدْ اختير في اجتماعهم وزير الدفاع السير أيّ في ألكساندر Sir A. V. Alexander ليقوم بهذه المهمة (35). فَفِي الثاني عشر من أيار عام 1948م قام السير ألكساندر بالإجابة على الأسئلة المطروحة على حكومته حول ماهية التقدم الحاصل في بناء وتطوير الطاقة النووية بإعرابه عن نوايا حكومته في تطوير وصناعة كافة أنواع الأسلحة التي تحمل خصائص ذرية. وعلى الرغم من الخلاف والمنازعة العلنية والسرية المعروفة بين حزب العمال البريطاني والأحزاب البريطانية المعارضة الأخرى، فَقَدْ جوبه قرار الحزب العمالي بالتأييد الحار والشامل من كافة الفصائل السياسية والشعبية بصورة لم يكن يتوقعها أتلي (36).
          3.2 النشاط البريطاني الدولي ضدّ أمريكا
          لم تكتفي بريطانيا بإنشاء مفاعلها النووي وراحت تأجج حلفائها ضدّ الأمريكان. محذرة من خطورة انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بامتلاك الطاقة النووية. ونتيجة للتحذير البريطاني وبتأييد مطلق منها أعلنت فرنسا في الرابع من تشرين الأول عام 1945م تأسيسها هيئة نووية عامة مرتبطة بمباشرة برئيس الدولة الفرنسية. كما قامت الحكومة الفرنسية وبمساعدة من بريطانيا أَيضاً بتعيين المناطق الغنية باليورانيوم في القارة الأفريقية التي كانت فرنسا تتمتع فيها بنفوذ منقطع النظير والعمل على ترتيب حمايتها ومنع أية يَدّ للوصول إليها (37). وبعد ثلاثة أيام من الإعلان الفرنسي، أعلنت السويد عن رغبتها بالتعاون مَعَ بريطانيا في مجال التصنيع النووي. أعقبتها بأيام معدودة كُلّ من البرتغال وأسبانيا وهولندا بالإعلان عن امتلاكهم اليورانيوم واستعدادهم للدخول مَعَ بريطانيا في معاهدة نووية. ثُمّ أعلنت بلجيكا في الأول من كانون الأول عن وجود مناجم غنية باليورانيوم في محافظة كاتانجا Katanga بالكونجو (والتي كانت آنذاك إحدى مستعمرات بريطانيا) (38).
          وأعربت عن استعدادها التام لمساعدة التاج البريطاني في استثمار هذه المناجم التي مما لا شكّ فيه سوف تسهم في إنجاح مشروعها النووي المستقبلي (37). وكما هو روتيني ومتوقع، جوبه الإعلان الأوربي بالهجوم اللاذع من قبل الولايات المتحدة الأمريكية إذ وصفت إعلان الدول الأوربية بخطوة لبداية خراب العالم وتهديد السلام. وبينما الأمريكان يشجبون كانت بريطانيا تعرب عن امتنانها لحلفائها الأوربيين من جهة ومن جهة أخرى تراوغ الأمريكان بضرورة الدخول في حلف نووي واستراتيجي معها لإيقاف المَدّ النووي الأوربي الذي لابُدَ وإن يكون قوة نافذة في القريب العاجل (12).
          وبين هذه وتلك تمكنت بريطانيا بقدرتها السياسية من تهييج الدول الأوربية المستعمرة لبقاع العالم، وبعثت النشاط فيهم للتنقيب عن مكامن اليورانيوم والحفاظ عليه من أيدي الأمريكيين التي طالت خلال الحرب العالمية الثانية حال دخولها كحليف لهم ضدّ الألمان. كما أنها باتت تحذر بحزم من مغبة السيطرة الأمريكية على هذه البقاع واستغلال خيراتها وخاصة البترولية منها بمجرد التهديد بالسلاح النووي إذا لم نقف بوجهها حسب تعبير الساسة البريطانيين حينذاك. مما جعل بريطانيا ونتيجة للمعاهدات التي أبرمت حديثاً مَعَ تلك الدول الأوربية، مركز كبير لجمع المعلومات عن النشاطات النووية العالمية ومصادر اليورانيوم باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي وحلفائه الاشتراكيين الجدد (15).
          عندما ضمنت بريطانيا موقف الدول الأوربية من البرنامج النووي الأمريكي، وبات وشيكاً أن تعاني الولايات المتحدة الأمريكية من شحت اليورانيوم المستخدم في تطوير وصناعة الطاقة النووية آجلاً أم عاجلاً، تفرغت لحصارها بواسطة الاتحاد السوفيتي وحلفائه الاشتراكيين. فدعا رئيس الوزراء البريطاني في الخامس من كانون الثاني عام 1946م سفير روسيا لدى بريطانيا وأبلغه رسالة شفهية إِلى ستالين مفادها أن الولايات المتحدة الأمريكية ستنفرد في السيطرة على العالم بامتلاكها السلاح النووي. وناشده التعاون لإنقاذ الموقف أما بالتعجيل بامتلاك الدولتين للسلاح النووي أو محاصرتها بعدم السماح لها بالحصول على اليورانيوم مُطلقاً (18). ثُمّ توالت الاجتماعات بين السفير الروسي ورئيس الوزراء البريطاني شخصياً دون أن تنتبه الصحافة العالمية لخبايا تلك الاجتماعات، حَتَّى ألقت السلطات الكندية القبض على الجاسوس الروسي جونزنكو Gouzenko في السابع عشر من شباط عام 1946م. إذ اعترف بتزويد الحكومة البريطانية وكالة المخابرات الروسية بكافة التفاصيل المتعلقة بالباحثين النوويين البريطانيين والأمريكيين والكنديين العاملين في المختبرات النووية.
          ومما زاد الأمور تعقيداً وحراجة ما اعتراف به الباحث النووي البريطاني الأصل والأمريكي الجنسية ألن نين مي Alan Nunn May في الرابع والعشرين من مارس عام 1946م تسليمه وكالة المخابرات الروسية معلومات قيمة عن مشروع تطوير وإنتاج الطاقة النووية الأمريكية، وبطلب من وكالة المخابرات البريطانية. لكونه الوحيد من العلماء العاملين في هذا الحقل طيلة أيام الحرب العالمية الثانية ممن أرسلتهم الحكومة البريطانية للعمل مَعَ العلماء الأمريكان (30,31,32).
          لم تكتفي بريطانيا بمساعدة الاتحاد السوفيتي في بناء برنامجه النووي بمنحه بعض المعلومات، بل ساهمت مساهمة فعالة في عملية بناء الجيش الروسي لكي تجعل منه أداة منافسة في منطقته للقوة الأمريكية. التي باتت تزداد يوماً بعد يوم، وكانت هذه المساعدات العسكرية أشدّها عام 1947م عندما أهدت بريطانيا للحكومة الروسية المئات من المحركات من نوع نين Nene. إذ استعملتها روسيا في بناء طائراتها المقاتلة التي أصبحت فيما بعد حاملة للسلاح النووي بعد تطوير قدراتها الهجومية (1).
          لَقَدْ جنّت جنون ترومان دون أن يتمكن من اتّهام بريطانيا وفق إفادات الجواسيس وركز على ضرورة تقوية الجانب الأمني والارتقاء به إِلى أعلى المستويات دون السماح بتسرب أية معلومة نووية حَتَّى ولو كانت بسيطة إِلى أية جهة من الجهات. وهذا بالتأكيد ما دفعه للتصديق على قانون مكماهون الذي تأثرت منه بريطانيا تأثراً كبيراً وحرمها من الحصول على معلومات نووية وأجبرها للبدء من الصفر في مشروعها النووي (21). وعلى الرغم من التشديد والمراقبة الأمنية على المشاريع النووية الأمريكية، تمكنت روسيا من تجنيد كلايس فجز Klaus Fuchs لحسابها، تلك الشخصية المهمة التي كانت تعمل مديراً تنفيذياً لحفظ الوثائق النووية في الولايات المتحدة الأمريكية. ونجح بتزويد روسيا بكامل مخططاتها النووية بدءاً من عام 1946م حَتَّى تمكنت المخابرات الأمريكية من الظفر به نهاية عام 1949م (41).
          وبفضل المخابرات الروسية وما قدمه جواسيسها من معلومات قيمة ومفيدة للغاية أُنقذت روسيا المفلسة من آلاف الملايين من الدولارات ومكنتها من أن تعلن في الثالث والعشرين من آب عام 1949م عن نجاحها في تصنيع وامتلاك القنبلة الذرية بزمن اعتبر قياسياً إذ ما قورن مَعَ الجهود الأمريكية والبريطانية النووية (42).
          وبين المَدّ والجزر الحاصل ما بين
          بريطانيا وأمريكا جاء الإعلان الروسي مخيفاً ومفاجئاً للاثنين مَعَاً لإيمانهم بالاعتقاد السائد والمبني على المعلومات المتوفرة لهم من وكالتي مخابراتهما، اللتان تؤمنان بعدم إمكانية امتلاك الروس للقنبلة الذرية قبل عام 1953م، أيّ بعد سنة من احتمال امتلاك بريطانيا لها وفق التاريخ المحدد من قبل الخبراء النوويين البريطانيين. ولم يكن عدم الارتياح الأمريكي نابعاً من امتلاك الروس للقنبلة النووية فحسب، بل عدم الارتياح كان نابعاً من فشل أجهزة المخابرات الأمريكية من مراقبة المشروع النووي الروسي وحماية المعلومات النووية الأمريكية من التسرب أَيضاً. أما بالنسبة إِلى بريطانيا فإنّ عدم الارتياح كان نابعاً فقط من تمكن الروس من تصنيع وامتلاك القنبلة النووية قبلهم. وما عدا ذلك فهو كان من نتاج الجهود التي بذلتها بريطانيا لتحجيم الولايات المتحدة الأمريكية وإجبارها على التحالف والتعاون مَعَ بريطانيا في إنجاز برامجها الخاصة بالطاقة النووية وهذا ما حدث فعلاً وبصورة ملفتة للنظر مباشرة بعد الإعلان السوفيتي.
          وبهذا الإعلان بدأ العالم باعتقادنا قَدْ دخل مرحلة جديدة من الصراع يختلف في كنفه عن الصراعات التقليدية التي عاصرها التاريخ.
          ويبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية قَدْ فَقَدَتْ صواب عقلها مَعَ الإعلان السوفيتي الجديد دون أن تعرف الأسباب التي أدت إِلى امتلاك السوفيت للسلاح النووي بهذه السرعة وبهذه القوة. فعادت دون اكتراث إِلى التعجيل في إعادة التحالف مَعَ المملكة المتحدة وبصورة واسعة. والملفت للانتباه كان هناك تأكيد من قبل العلماء في هذا الحقل على ضرورة التعاون مَعَ بريطانيا في تطوير السلاح النووي وإيجاد الآلية الحربية لنقله، بعد أن كان هؤلاء من المعارضين في إعطاء أيّ معلومة لأيّ دولة لامتلاك السلاح النووي. وهنا لابُدَ أن نشير أن جهود أتلي وتشرشل قَدْ بانت ثمارها من خلال منحهم التعهدات الحقيقة للجاليات اليهودية ومنظماتها المتنفذة في الولايات المتحدة الأمريكية. وخصوصاً ممن يشرف على تطوير وإنتاج السلاح النووي. إذ ما عرفنا إن هذا لم يكن قبل أن تسلم بريطانيا الصهاينة فلسطين وتحميهم لغرض إعلان دولتهم لتبدأ المنطقة حالة من السيطرة والصراع لم تكن قَدْ عرفتها مُنْذُ عصور طويلة جداً.





          تعليق


          • #6
            رد: السياسة النووية الدولية وأثرها على منطقة الشرق الأوسط

            3.3 عودة التحالف الأمريكي - البريطاني
            لم تكتفِ بريطانيا بتحجيم البرنامج النووي الأمريكي ومحاصرته دولياً بل عملت على مراقبته من داخل المؤسسات الأمريكية المتنفذة القريبة منها والبعيدة عن موقع اتخاذ القرارات الخاصة بالبرامج النووية. مما مكنها من معرفة المكامن الرئيسية المؤثرة على سير البرامج النووية كافتقارها إِلى اليورانيوم والآلة الحربية التي تنقله. فاستناداً إِلى نصيحة تشرشل الخاصة بالاعتماد على الأصدقاء اليهود تمكن أتلي وبمساعدة تشرشل من التفاوض معهم للحصول على ما يريد لقاء تسهيل هجرة اليهود من الاتحاد السوفيتي إِلى فلسطين والإسراع بالانسحاب منها وتهيئة الأجواء للاعتراف بدولتهم حال تمكن بريطانيا وبمساعدة أصدقائها اليهود من أحياء التحالف النووي البريطاني الأمريكي مرة أخرى (26).
            تمكن أتلي وبمساعدة البريطاني اليهودي حاييم وايزمن (رئيس الكيان الصهيوني ما بين 1996-2001) من تشديد قبضة المراقبة على البرنامج النووي الأمريكي ومعرفة مكامن الضعف والتي معظمها يتعلق بالمواد الأولية الأساسية للإنتاج النووي. لغرض التشديد دولياً ومنع الولايات المتحدة الأمريكية من الحصول عليها. وبالتالي لا تجد بداً إلا العودة للتحالف مَعَ بريطانيا، وهذا ما يعجل إنجاز البرنامج النووي البريطاني.

            الفصل الرابع

            دور السلاح النووي في بروز الصراع بين الغرب والشرق


            لم يكن نجاح الاتحاد السوفيتي بامتلاك السلاح النووي قَدْ سبب في تعجيل إنجاز البرنامج النووي البريطاني ووضع الولايات المتحدة الأمريكية أمام واقع التحدي الشرقي فحسب، بل تسبب أَيضاً في بروز أهمية الإسراع في تطوير الآلة العسكرية الموروثة من الحرب العالمية الثانية ودراسة البعد الاستراتيجي لبعض أنواع الأسلحة التي لعبت دوراً كبيراً لإنجاز مهمة الحرب التي أثقلت العالم الغربي. وهذا ما دفع الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة في التركيز على تطوير القوة الجوية وآلتها والتي من خلالها تمكنوا من أن يحلوا عقدة إيجاد واسطة لحمل السلاح النووي. فمع معاناة الحلفاء من التفوق الجوي الألماني، تمكن الأمريكان من استعمال B-29 في حمل السلاح النووي الملقى على هيروشيما ونجازاكي. وعليه فإنّ الاهتمام البريطاني كان مُنْصَبّاً على ضرورة العمل على صناعة طائرة حربية لها القدرة على حمل السلاح النووي وضرب الهدف من مسافة بعيدة. وهذا ما فسر سرّ اهتمام حكومة العمال البريطانية في دعم مشاريع بناء القوة الجوية البريطانية.
            وَمَعَ المجهود المكثف في هذا المجال ومُنْذُ أن بدأ العمل بالبرنامج النووي البريطاني ولغاية تطوير وامتلاك السلاح النووي عام 1952م لم تتمكن بريطانيا من إيجاد الطائرة المقاتلة الصالحة لحمل السلاح النووي الاستراتيجي الفتاك (1). فلذا دأبت الأحزاب السياسية البريطانية المتعاقبة بعد إعلان إنتاج السلاح النووي على تعزيز المشاريع المتخصصة بتطوير الآلة الحربية الناقلة للسلاح النووي. والتي بما لا شكّ فيه سوف تعوض بريطانيا عن عقدة الفشل في سباق التقدم العلمي.

            4.1 إنتاج حاملة القنبلة الذرية
            بالتأكيد لم يكن السلاح النووي فعالاً ما لم تكن هناك واسطة يمكن استعماله من خلالها، ولهذا السبب فَقَدْ كان البرنامج النووي الأمريكي يسير في نسق واحد مَعَ B-29. والذي حقق نجاحاً مَعَ مرور الزمن، في حين كان البرنامج النووي البريطاني وبشطريه يعاني من الانتكاسات الواحدة تلو الأخرى. أما بالنسبة إِلى الجانب السوفيتي، وَمَعَ الزمن القياسي في إنتاجه للسلاح الذريّ فلم يبدو مكترثاً في التفكير بكيفية إمكانه تصنيع الواسطة لنقل سلاحه النووي. وذلك لا يعني بأنهم متناسين أو متغابين بقدر ما كان جُلّ اهتمامهم مركز على امتلاك السلاح والتهديد به.
            إن القوة الجوية البريطانية في الحرب العالمية الثانية كانت تعتمد اعتماداً كلياً على القاصفات ذات المحركات الأربع والمسماة بلانكستر - واحد. وَمَعَ بروز البرنامج النووي عام 1946م فَقَدْ عكفت السلطة العسكرية البريطانية على تطوير هذا النوع من الطائرات كي يكون فعال في نقل السلاح النووي بواسطتها إذ ما تمكنوا من إنتاجه. وبناءاً على الأمنيات البريطانية التي لا حصر لها ولا عدّ تَمَّ تطوير لانكستر- واحد إِلى لنكولن- واحد ولنكولن- اثنان وبسرعة تتجاوز 230 ميل في الساعة وعلى ارتفاع 20 ألف قدم وبقدرة على حمل 14 ألف باوند من المتفجرات لتقطع مسافة 2250 ميل، قبل أن تحتاج إِلى ملئ خزانها بالوقود مرة أخرى (51). وتبنت الحكومة البريطانية النوع المطور من الطائرات في بناء القوة الجوية البريطانية مُنْذُ اكتشافها في نهاية عام 1946م.
            ونتيجة لعدم كفاءة تلك الطائرات في نقل السلاح النووي فَقَدْ أعلن وزير الدفاع العمالي في البرلمان خطته القادمة لإعادة تأهيل القوة الجوية، مُرَكِّزاً على ضرورة إعطاء أهمية بالغة للتصميم والبحوث العلمية والتكنولوجية ومرجئاً عملية الإنتاج لحين التوصل لنتائج ملموسة. يعني بذلك ربط التطور التكنولوجي الجوي بالبرنامج النووي البريطاني الذي جندت له كُلّ الطاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية البريطانية كي يمكن تنفيذه بالسرعة الممكنة لتصبح بريطانيا دولة مؤثرة في السياسة الدولية أسوة بالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي (51,52).
            لم يكن قرار الحكومة البريطانية في إيقاف العمل لإنتاج وتطوير القاصفات الجوية غير مدروس أو ناتج عن أزمة اقتصادية تعاني منها بريطانيا فقط، بل نابع من الغموض الذي كان يسود العمل النووي الأمريكي وانشغال الحلفاء الآخرين بما فيهم الاتحاد السوفيتي في إعادة بناء ما دمرته الحرب. وَمَعَ تلك التطورات التي بدت تتصارع مَعَ الزمن، أُعلن في البرلمان البريطاني في الثاني عشر من مارس عام 1946م على لسان وزير السلاح الجوي البريطاني جون ستراجي John Starchy ما يلي (53):
            "يجب أن تعرفوا جيداً أن دراسة أيّ قرار له علاقة بالسلاح الجوي البريطاني سوف لا يدرس ولا يأخذ بنظر الاعتبار حَتَّى يصبح التطور في إنتاج السلاح النووي واضحاً. ولكن هذا لا يمنع من أننا في النهاية سوف نعمل على تصميم وتصنيع طائرة قاذفة بعيدة المدى تستعمل لنقل الأسلحة الكيمياوية أو النووية في المستقبل".
            لكن إعلان جون ستراجي لم يؤخر قيام بعض المصانع العسكرية البريطانية خلال عام 1947م من صناعة طائرات مقاتلة وقاصفة لدعم السلاح الجوي البريطاني من نوع ( V-Bombers Victor, Vulcan and Valiant) ونوع S. A. 4. الذي لم تذكر الحكومة البريطانية أيّ شيء عنه وعن مشروعها الذي يتمم البرنامج النووي. وَمَعَ كُلّ الجهود المبذولة من قبل العلماء البريطانيين لإنتاج طائرة بمواصفات تفوق مواصفات الطائرات الأمريكية من جهة وتكون فعالة في حمل السلاح النووي وتنفيذ الضربة من جهة أخرى، فشلت بريطانيا في تحقيق ما تريد بعد أن بدا التعثر في برنامجها النووي يبدو واضحاً أَيضاً في تلك الفترة التي كانت تتحاور فيها مَعَ الولايات المتحدة الأمريكية (51,52,53,54).
            وبينما كانت الولايات المتحدة الأمريكية تحاول بشتى الوسائل إرغام بريطانيا للانقياد لها، كانت بريطانيا تحاول من جانبها إركاع الولايات المتحدة الأمريكية من خلال تأجيج الموقف الأوربي ضدها والسيطرة التامة على مناجم اليورانيوم العالمية. بين هذا التأزم القائم بين الحليفتين انبرى الاتحاد السوفيتي معلناً امتلاكه السلاح الذريّ والآلة المنفذة لهذا السلاح والتي ما هي إلا عبارة عن محركات بريطانيا نوع نيني تمكن الخبراء الروس من تطويرها وربطها على هياكل طائرات أمريكية أهديت لهم خلال الحرب العالمية الثانية. هذا التغيَّر المفاجئ غيَّر موازين العلاقة البريطانية الأمريكية على الرغم من عدم قناعة كُلّ منهما بالأخر. حَيْثُ بات العدو الحقيقي هو الاتحاد السوفيتي ولذا فمن الواجب نسيان ما مضى والعمل على تحديد مساره خوفاً من مطالبته بضرورة المشاركة في السيطرة على النفوذ العالمي.
            وإضافة إِلى ما ذكرنا أعلاه من تعجيل في إنجاز البرنامج النووي البريطاني، برز للسطح أَيضاً الدعم العسكري الأمريكي وخصوصاً في مجال بناء القوة الجوية البريطانية. مما حدا بوزير الدفاع البريطاني أن يوقف مشاريع التطوير العسكري وإعلانه في كانون الثاني عام 1950م موافقة بلاده على المساعدة الأمريكية العسكرية. تلك المساعدة التي تضمنت 72 طائرة من طراز B-29 التي تمتاز بسرعتها البالغة 400 ميل في الساعة وعلى ارتفاع 35 ألف قدم.
            لَقَدْ فتحت العلاقة البريطانية الأمريكية الجديدة وبفضل الإنتاج النووي السوفيتي باباً للأمريكان مكنتهم من الدخول بأحلاف عسكرية مَعَ بريطانيا ظفرت بها الولايات المتحدة الأمريكية ببناء عدة قواعد عسكرية في بريطانيا تمكنها من الطيران لمراقبة أوربا الشرقية من خلال الأراضي البريطانية (53,54). وبرأينا أن الولايات المتحدة الأمريكية حققت في ذلك أولى أهدافها المتضمن بناء قواعد عسكرية تحت غطاء التحالف والصداقة في الدول القريبة من مناطق الطاقة والنفوذ الدولي. إذ من خلالها يمكن الانطلاق بصورة شبكية إِلى أبعد نقطة في العالم الأرضي المترامي والغني بالموارد الطبيعية التي تتحكم بالبقاء والفناء.
            وكعادة بريطانيا، فعلى الرغم من إعلانها إيقاف كُلّ النشاطات العلمية والصناعية لإنتاج مقاتلة نووية ووجوب الاعتماد على الطائرات الأمريكية الحديثة وذات القدرة القتالية العالية الكفاءة وفق ما نص عليه البرنامج العسكري الموقع بين الدولتين حديثاً، راحت بصورة سرية مستمرة في مشروع بناء وتطوير طائرة قاصفة ذات كفاءة متميزة كي تستعمل للأغراض النووية. وما أن حَلّ عام 1954م حَتَّى أعلنت بريطانيا وبصورة مفاجئة جداً للاتحاد السوفيتي وحليفتها الولايات المتحدة الأمريكية عن باكورة إنتاجها لقاصفة نووية تدعى كنبرى Canberra، تمتاز بسرعتها الفائقة المقدرة بـ: 540 ميل في الساعة وعلى ارتفاع يصل إِلى 48 ألف قدم (46,47). وبهذا الإنجاز الكبير تكون بريطانيا أولاً قَدْ حُلّتْ عقدتها المتضمنة وجوب أشعار العالم بقدرتها العلمية الفائقة في التكنولوجية والعلوم الحديثة. وفتحت ثانياً باباً جديداً لتنافس القوى على امتلاك السلاح والأداة المنفذة. مما جعل الدول الأخرى تتسابق لإبداء قدرتها التكنولوجية والعلمية لتطوير سلاح أقوى وأشرس في القوة والتنفيذ.

            4.2 بداية الصراع بين الشرق والغرب
            في الواقع لم تكن في أوربا قوة تذكر للوقوف أمام التقدم والنجاح السوفيتي، بل الكُلّ مازال يعاني مما دمرته الحرب العالمية الثانية باستثناء بريطانيا والحليف الكبير الولايات المتحدة الأمريكية. ليس هذا غريباً وإنما تحصيل حاصل ناتج عن ابتعاد الدولتين عن مسرح الحرب والعمليات العسكرية. مما ساعد بريطانيا في الحفاظ على بنيتها التحتية وسهولة إعادة تأهيل جيشها ومعاملها. ونتيجة لضعف القوة العسكرية الأوربية وامتلاك الاتحاد السوفيتي للسلاح النووي وانشغال الولايات المتحدة الأمريكية بصراعها مَعَ بريطانيا ولو سياسياً استغل الاتحاد السوفيتي تلك الفرصة وأخذ يبحث عالمياً عن مناجم اليورانيوم المتواجدة في أطراف العالم التي لم يتمكن أحد بعد من اكتشافها. ولم تقف طموحات الاتحاد السوفيتي عند هذا الحَدّ فقط بل حاول الدخول في أعماق أوربا واحتلال أجزاء من الدولة الألمانية المنهارة وإلحاقها ببعض دول الحلف الشرقي الذي ولد كنتيجة للحرب العالمية الثانية.
            وتعالت صيحات الدول الأوربية من التهديد الروسي مُنْذُ نهاية عام 1948م، ولم تكن هناك أذنا صاغية لهم. لقناعة الولايات المتحدة الأمريكية بسهولة إعادة ما أخذه الاتحاد السوفيتي مستقبلاً بمجرد التهديد بالسلاح النووي الذي كانت تتوقع انفرادها بامتلاكه. إلا أن الأمور كانت تجري بعيداً عن توقعات البيت الأبيض الأمريكي، وبمجرد الإعلان عن امتلاك الاتحاد السوفيتي للسلاح النووي في آب عام 1949م تغيرت كُلّ السياسات التحالفية الغربية وبات الهم الأمريكي منصب على كيفية تحديد الهجمة الشيوعية القادمة من الشرق قبل أن تفلت زمام الأمور. لذا فَقَدْ ضَمّ اجتماع مصغر في الخامس من كانون الأول عام 1949م كُلّ من الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء البريطاني وبحضور ونستن تشرشل تقرر فيه إلغاء قانون عدم الدخول في حرب خلال العشر سنوات القادمة والتي اتخذ مباشرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. كما أكد المجتمعون على ضرورة تعزيز مواقع الحلفاء العسكرية وبصورة سريعة للوقوف أمام التحديات السوفيتية.
            إضافة إِلى ضرورة إعلان الحرب على الشيوعية بحجة تدخّلها في شؤون بلدان العالم المستقرة (55,56,57). ولم يكتفي المجتمعون بتلك المقررات التي ربما قَدْ تدخل العالم بكارثة جديدة قَدْ تنهي كيانه بالسلاح النووي الذي بات كُلّ من الشرق والغرب يهدد به، بل راحت بريطانيا مؤكدة على ضرورة دعم القوة البريطانية الجوية في منطقة الشرق الأوسط وخصوصاً المناطق التي تعتبر خَطّاً دفاعياً أولياً لمنابع البترول. وعليه فَقَدْ تَمّ الاتفاق على نقل ثُلث القوات الجوية البريطانية لتعسكر في المناطق المتاخمة للاتحاد السوفيتي المطلة على بوابة الشرق العربي الغني بالبترول (58).

            يتبع







            تعليق


            • #7
              رد: السياسة النووية الدولية وأثرها على منطقة الشرق الأوسط

              وَمَعَ نتائج هذا الاجتماع الأخير والذي نفذت بنوده خلال ثمان وأربعون ساعة لم يبدو أن الاتحاد السوفيتي كان مهتماً لما دار به وما سوف يتخذ فيه من مواقف ضده، واكتفى بالتهديد بسلاحه النووي واستمرّ بالتنقيب عن اليورانيوم في كوريا الشمالية ليستفيد من الوقت قبل إن تتكالب عليه الدول الأوربية الغربية المتحالفة مَعَ أمريكا (57,58).
              وهنا لابُدَ من الإشارة إِلى التفاوت في سياسة المملكة المتحدة، التي بما لا يقبل الشكّ كانت مبنية على مصالحها وكيفية البقاء في موقع الأقوى. فبريطانيا التي عرفناها وعرفنا سياستها الاستراتيجية بما ورد أعلاه لعبت دوراً كبيراً في مَدِّ السوفيت بالمعلومات النووية وتشجيعها على إنتاج السلاح خوفاً من بقائه فقط بحوزة الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن سرعان من تغير ذلك بمجرد تمكن السوفيت من إنتاج السلاح النووي. إذ نراها بسرعة مذهلة تعود إِلى حليفها القديم الولايات المتحدة الأمريكية لتجندها وتجند الحلفاء الأوربيين للوقف أمام هذا التحدي الجدي. وهو ما يوحي أن لا حليف ولا صديق أمام المصالح الدولية للبلدان التي يعمل ساستها على إسعاد شعوبهم وجعلهم هُمْ الأعلى في أية فترة زمنية مهما كلفهم الآمر من تضحية. وبودنا لو يرعوي العالم الإسلامي والعالم العربي لتلك الأُطروحة وينتبه إِلى مصدر قوته المتمثلة بالتحام شعوبها نحو قيام حياة أفضل للجميع. حياة مبنية على الاهتمام بمصالح الشعب وإحياء السلام لمن يريد إن يعيش بسلام على أرضه دون إن يغتصب حَقّ غيره.

              على أية حال، وَمَعَ الإصرار السوفيتي لاكتشاف مناجم اليورانيوم ومراقبة الأمريكان عن كثب لِكُلِّ تحركاتهم تَمَّ العثور على مناجم غنية باليورانيوم في السابع من مايو عام 1950م في المنطقة الحدودية الواقعة بين كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية. مما جعل الاتحاد السوفيتي وبدون تأخير ينزل قواته في تلك المنطقة في الثلاثين من حزيران عام 1950م والذي اعتبرته الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بأنَّه عدوان سافر وطالبت القوات الكورية الشمالية بالانسحاب فوراً، دون الإشارة إِلى الاتحاد السوفيتي ومناجم اليورانيوم. وعلى الرغم من صرامة التهديد الأمريكي والبريطاني الموجه لكوريا الشمالية وحليفها الجديد لم يلين الاتحاد السوفيتي لذلك، مما اضطرت الولايات المتحدة الأمريكية أن تعلن الحرب على كوريا الشمالية بوصفها المسؤولة على حفظ الأمن العالمي (حسبما تقول). وَمَعَ بزوغ فجر الخامس من تموز عام 1950م أعلنت الحكومة البريطانية دعمها للموقف الأمريكي وناشدت كوريا الشمالية الرضوخ والانسحاب فوراً.
              لَقَدْ بات واضحاً وصارماً موقف الحكومة البريطانية تجاه هذا الأمر في السادس والعشرين من تموز عام 1950م عندما صوت البرلمان بالإجماع على تخصيص مبلغ 100 مليون جنية إسترليني لتعزيز ميزانية وزارة الدفاع وجعلها متأهبة للدخول في حرب ضدّ الشيوعية السوفيتية (59). ثُمّ عاد ونستن تشرشل في اليوم التالي وبلهجة صارمة مُحذراً الدول الأوربية الغربية من أطماع الاتحاد السوفيتي، ومعربا عن اعتقاده بأن الاعتداء على كوريا الجنوبية هو جزء من حرب شيوعية شاملة تمكنت بريطانيا وأمريكا من اكتشافها قبل أن تستفحل وتوضع المعوقات أمامنا. وَمَعَ إطلالة صباح الثلاثين من تموز عام 1950م وجه رئيس وزراء بريطانيا أتلي خطاباً إِلى الشعب البريطاني أعرب فيه عن مخاوفه على مصالح الدولة البريطانية في مستعمراتها ودعاهم إِلى التقشف ودعم موازنة وزارة الدفاع البريطانية لضمان تدفق الوقود (يقصد البترول) إِلى الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
              كما أعلنت الحكومة البريطانية وبتأييد شامل من أحزاب المعارضة البريطانية في الثالث من آب عام 1950م عن موازنة إعادة بناء الجيش البريطاني ولمدة ثلاث سنوات قدرت بحوالي 3400 مليون إسترليني زيدت لاحقاً إِلى 3600 مليون إسترليني مَعَ نهاية آب من العام نفسه. كما ضمت خطة الموازنة العسكرية الجديدة التأكيد على إنتاج السلاح النووي الحراري Thermonuclear والطائرات النووية من نوع كنبر Canberra (12,15,59).
              زاد الأمر الكوري أكثر تعقيداً عند عبور الصين الشيوعية إِلى كوريا الجنوبية واحتلال منجم اليورانيوم في مدينة يالي Yalu في الحادي عشر من تشرين الثاني عام 1950م. وهو ما دفع الولايات المتحدة الأمريكية إِلى مضاعفة قواتها العسكرية وجعلها متأهبة للدخول في حرب ضدّ الاتحاد السوفيتي والصين إذ لم تكن قَدْ دخلت بالفعل. ثُمّ أقدمت الولايات المتحدة الأمريكية تستعجل الدول المتحالفة معها لتنفيذ بنود اتفاقية شعوب حلف الشمال الأطلسي والتي تعرف ب North Atlantic Treaty Organization والتي انبثق عنها تأسيس قوة عسكرية كبيرة تتواجد في أوربا عرفت فيما بعد بالنيتو NATO. وَمَعَ انبثاق هذه القوة تمكنت أمريكا من سحب 70% من قواتها المتواجدة في قواعدها المترامية في تركيا والمحيط الهندي لتعزز قواتها في كوريا الجنوبية. حَيْثُ حَلّ مَحَلّ تلك القوات الأمريكية قوات أوربية كان معظمها من بريطانيا وبذلك تمكن التاج البريطاني وبمساعدة حلفائه من أن يكون قريب من منابع البترول ليضمن تدفقها وإفساد المخطط السوفيتي الذي يهدف للتغلغل إِلى أعماق الخليج العربي مجرد الانتهاء من حماية حدوده من الاعتداء الغربي (1,12,15).
              لَقَدْ ركز الجانب البريطاني والجانب الأمريكي ما بين نهاية 1950م وحَتَّى منتصف عام 1952م على أمرين مهمين هما إيقاف الزحف الشيوعي المتمثل بالاتحاد السوفيتي والصين نحو مناجم اليورانيوم والإسراع في عملية بناء القوة العسكرية الأوربية ضمن حلف النيتو. الأمر الذي دعا تشرشل لأن يزيد الموازنة العسكرية المتبناة من قبل أتلي من 4700 مليون إسترليني إِلى 5200 مليون استرليني وبمساعدة أمريكية سنوية لا تقل عن 300 مليون دولار (60). وَمَعَ التسارع في بناء الجيش الغربي كان هناك التهديد السوفيتي يزداد يوماً بعد يوم من خلال التطور السريع في إنتاج السلاح النووي وتمكنه من زرعه حول حدوده خصوصاً تلك الفاصلة مَعَ القارة الأوربية. مما أجبر الولايات المتحدة الأمريكية لأن تدعو للاجتماع مَعَ حلفائها في النيتو بلزبن Lisbon في السابع من كانون الثاني عام 1952م. إذ تقرر فيه بناء قوة عسكرية كبيرة تضاهي القوة السوفيتية على أن تكون موزعة ما بين وسط أوربا والشرق الأوسط.
              إلا أن قرارهم بدأ بالتعثر بعد عشرة أشهر من العمل به حين أعلنت الدول الأوربية وعلى رأسها بريطانيا في كانون الأول عام 1952م عن عدم قدرتها على تنفيذ ما تَمَّ الاتفاق عليه في كانون الثاني من نفس العام لأسباب اقتصادية بحتة (15,61).
              إن تخلي الدول الأوربية عن برنامج حلف النيتو سبب خيبة أمل كبيرة للولايات المتحدة الأمريكية، في حين بدأ الاتحاد السوفيتي يكشف عن قدراته وما يمتلك من قوة تمكنه من تحطيم الاستعباد الأمريكي والبريطاني لشعوب العالم. وتوالت الاجتماعات لأعضاء حلف النيتو لغرض التوصل لِحَلّ يمكنهم من مواجهة التهديد السوفيتي ولكن دون جدوى، فالكُلّ كان يطلب مساعدات مالية من الولايات المتحدة الأمريكية. وهو ما أزعج الرئيس الأمريكي أيزنهاور وجعله يقرر في الثاني من آذار عام 1953م بناء قوات النيتو بإمكانيات أمريكية نووية عوضاً عن بنائه بالأسلحة التقليدية. ليعطيه قوة وصلابة أمام جيش الاتحاد السوفيتي، إضافة إِلى قلة التكاليف قياساً بما تطلبه بريطانيا والدول الأوربية الأخرى من مساعدات مالية (1,12). فبعد قرار أيزنهاور الأخير الذي أوضح فيه سياسة أمريكا تجاه النيتو، فوجئت الدول الأوربية في الخامس من آذار عام 1953م بخطاب تشرشل في البرلمان البريطاني الذي بارك فيه قرار أيزنهاور أولاً والذي أعلن فيه ما يلي (62):
              "من خلال مراجعتنا لسياسة الحكومة البريطانية بشأن التسليح وجدنا أن الحرب القادمة لا محالة ستكون حرب نووية. فلذا فأن هدفنا الحقيقي الآن هو التركيز على إنتاج كميات كبيرة من السلاح النووي وبأشكال متعددة الاستعمال وهذا ما يسهل علينا القتال في أية بقعة في العالم ويسهل علينا التقليل من نفقات تسليح الجيش ويخرجنا من الصعوبات الاقتصادية".
              لم يكن قرار أيزنهاور مخيفاً لقيادات الاتحاد السوفيتي بل على العكس من ذلك اعتبره السوفيت مرحلة الفشل الأولى لحلف النيتو. وكما كان السوفيت فرحين بانتصارهم المعنوي زادت شكوك الدول الأوربية ببريطانيا ودعت فرنسا رفاقها الأوربيون إِلى نقض كُلّ المعاهدات مَعَ بريطانيا والدخول في حوار مباشر مَعَ الاتحاد السوفيتي وَحَلّ النزاع. لكن أيزنهاور عاد في التاسع من نيسان عام 1953م يدعو الدولة الأوربية لدعم مشروعه النووي لمواجهة الاتحاد السوفيتي وواعد بالمساعدات المالية الكبيرة التي تدعم اقتصادهم شرط أن تتعهد تلك الدول بالمساهمة الفعالة في تقويم قوة حلف النيتو. ولم ينتهي أيزنهاور من خطابه حَتَّى أعلن تشرشل موافقته على كُلّ ما جاء في خطاب الرئيس الأمريكي مَعَ علمه إن خطاب أيزنهاور لم يكن موجه إليه. ولم يكتفي تشرشل بالتطبيل وإبداء قناعته بما صرح به أيزنهاور فقط، بل أرسل في اليوم التالي وزير التجهيز البريطاني دينكن سنديز Duncan Sandys لزيارة فرنسا وإيطاليا وألمانية وأسبانيا لإقناع قادتهم بقبول دعوة أيزنهاور بضمان بريطاني.
              وفي الثاني عشر من نيسان عام 1953م استجابت دول التحالف الأوربي لدعوة الرئيس الأمريكي الأخيرة وبوشر في بناء قوة النيتو وفق القرار الأخير (12,15).
              يتبين مما جاء أعلاه أن هناك غموضاً يَلِفّ الموقف البريطاني فتارة نراه بكل قواه مَعَ الدول الأوربية ومرة خاذلا أصحابه ومؤيداً الولايات المتحدة الأمريكية. فالموقف البريطاني بطبيعة الحال نابع من حنكة قادتها السياسية، فأوربا بالنسبة إِلى بريطانيا هو خطّ المواجهة الأول لحماية أراضيها فيما إذا تأزمت الأمور مَعَ الاتحاد السوفيتي. ولكن بقدر أهمية أوربا الغربية بالنسبة لهم، فهم على معرفة بحال الدول الأوربية سواء كانت الاقتصادية منها أو العسكرية وبالتالي فإنّ هذا العجز المزمن في دول أوربا يحتاج إِلى دعم الولايات المتحدة الأمريكية، خصوصاً وإن بريطانيا في طور إنتاج وتطوير السلاح النووي الذي يجعلها قوة كبرى مَعَ الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي فبريطانيا بحاجة للخبرة النووية الأمريكية.
              لَقَدْ كانت بريطانيا دوماً تستفيد من تأزم الموقف الأمريكي - الأوربي أو الأمريكي - السوفيتي لتستق المعلومات المهمة من الولايات المتحدة الأمريكية التي تؤدي إِلى إكمال برنامجها التسليحي النووي لتفاجئ به الجميع في كُلّ مرة. وهذا ما حدث فعلاً، فبينما كانت الأزمة الأمريكية - الأوربية على أشدّها والتهديد السوفيتي يتزايد يوم بعد يوم وبريطانيا تصرخ بأعلى صوتها متحدثة عن أزمتها الاقتصادية وتأجيلها الكثير من مشاريعها العسكرية، حَيْثُ راح رئيس الوزراء البريطاني في الأول من شباط عام 1955م معلناً بخطاب شعبي عن امتلاك بريطانيا طائرات مقاتلة يمكنها إسقاط الطائرات القاصفة الحاملة للقذائف النووية قبل إن تصيب أهدافها. ثُمّ أعلن عن امتلاكهم لسلاح نووي استراتيجي جوي مهم تفوق قدرته قدرة السلاح الأمريكي B-52 وB-58. هذا السلاح هو طائرة V-Bombers ذات الحجم الصغير التي يصل مداها لأربعة آلاف ميل وبارتفاع 50 ألف قدم وبسرعة تضاهي سرعة ميك -1 السوفيتية. وبالتالي فإنّ بريطانيا يمكنها أن تصل إِلى أيّ هدف استراتيجي ضمن الحدود السوفيتية.
              الإعلان البريطاني جاء مفاجئا للأصدقاء والأعداء على حدّ سواء. تلك المفاجئة جعلت الأمريكان يعربون عن قناعتهم بأهمية قيام حلف نووي أمريكي - بريطاني تكون تلك الطائرات البريطانية المصنعة حديثاً ضمن الهيكل العسكري (12,15,63). في حين كان الاتحاد السوفيتي يبدو متردداً خائفا لأول مرة من مقارعة حلف النيتو، وعليه فبإنتاج هذا السلاح دخلت السياسة النووية العالمية مرحلة جديدة من الصراعات وهذا ما سنأتي إليه في الفقرات التالية.
              لم تتوقف المفاجئات البريطانية للحلفاء والأعداء على حدّ سواء عند حدّ معين، بل في الوقت الذي كان كُلّ من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية يحاول امتصاص صدمة المفاجئة الأولى، خرج وزير الدفاع مرة أخرى في الحادي عشر من شباط معلناً للملأ التقدم الذي أحرزه العلماء البريطانيون في صناعة القنبلة الهيدروجينية. في الوقت الذي مازال الخبراء الأمريكيون يعانون من التقدم خطوة واحدة نحو إنتاج هذا السلاح، وفي حين لم يكن السوفيت قَدْ فكروا بصناعة مثل هذا السلاح بعد (64). مما جعل الحكومة الأمريكية تتابع بكل إصرار التقدم النووي البريطاني، محاولة الدخول معهم في حلف نووي وفق الصيغة التي ترتأيها الحكومة البريطانية ولكن دون جدوى، فبريطانية كانت ترفض الدخول بأية معاهدة جديدة مَعَ أية دولة دون أن توضح الأسباب (2).
              لكن الرفض البريطاني للطلب الأمريكي لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما سافر رئيس الوزراء البريطاني في الثالث عشر من حزيران عام 1955م لواشنطن مصطحباً مَعَهُ كُلّ من وزير الدفاع ورئيس التجارة والصناعة ومدير مركز الأبحاث النووية ورئيس مكتب التجهيزات العسكرية ووزير شؤون مستعمرات الشرق الأوسط للاجتماع بالرئيس الأمريكي ومساعديه لمناقشة الموقف المتأزم في المنطقة العربية وخاصة الشرقية منها. ومحاولاً وضع حَدّ إِلى ما قَدْ يهدد خروج بريطانيا وأمريكا من المنطقة العربية نتيجة للنشاط السوفيتي المكثف والكبير خلال السنوات الماضية مما أدى إِلى شيوع الأفكار الشيوعية التي تدعو في مضامينها للتحرر من الاستعمار والعبودية. إلا أن رئيس الوزراء البريطاني لم يرى ترحيباً حاراً من الرئيس الأمريكي، وأبلغه هذا الأخير بأننا نعرف كيف نحمي مصالحنا البترولية في المنطقة العربية ولسنا مضطرين للدخول في تحالفات جديدة مَعَ أية دولة (15,65).
              لعل ما بدا من رفض بريطاني أولي لأيّ تحالف عند تقدم برنامجها النووي يبين مدى أهمية السلاح النووي لإعادة السيطرة مرة أخرى على المناطق الاستراتيجية التي خسرتها بريطانيا. ولكن سرعان ما
              اتضح للساسة البريطانيين خطورة الموقف لكون حالهم الاقتصادي والعسكري لم يكن بتلك السهولة التي يرونها. خصوصاً بعد خسارتها شبه القارة الهندية وانفصالها من الإمبراطورية البريطانية وتقسيمها. في حين كانت جموعها تمثل العمود الفقري للعسكر الذي تمكنت بريطانيا بهم احتلال المناطق الشاسعة في العالم. كما لابُدَ من معرفة أن تلك القوى التي تصارعت معها بريطانيا قديماً، لاحتلال العالم لم تكن بالمستوى الحديث. فلذا نرى سرعان ما عكفت عن قرارها وراحت تبحث عن الأقوى بين الأقوياء لترصين حلفها معهم ولكن تحت شروطها التي توقعت بأنَّه ما من مفرّ سوف تلاقي استحسان الولايات المتحدة الأمريكية. وفوجئت بعكس توقعاتها مما يعني أُفول نجمها بداية مَعَ انتهاء الحرب العالمية الثانية وَلابُدَّ من إيجاد حليف استراتيجي لتنعم بالقوة التي عاشتها مسبقاً.
              وهو ما يفسر دعم بريطانيا اليوم للولايات المتحدة الأمريكية في كُلّ موقف دون دراسة مساؤه ومحاسنه ومهما كان نوع الحزب الحاكم. فالتحالف الأمريكي البريطاني كان نتيجة حتمية لما حَلّ في العالم بعد الحرب العالمية الثانية. وبالتالي فالتحالف الأمريكي - البريطاني الاستراتيجي ذُو مفاصل سياسية اقتصادية ومصيرية لا يمكن إن يحل لغزه إلا من قبل البلدين. ولعلنا سوف نتمكن من معرفة بعض تلك الأسرار في فصول البحث القادمة إن شاء الله.
              يتبع





              تعليق


              • #8
                رد: السياسة النووية الدولية وأثرها على منطقة الشرق الأوسط

                الفصل الخامس

                المرحلة النووية الجديدة والاهتمام العالمي


                بالرغم من تعكر المفاوضات بين الوفدين البريطاني والأمريكي في أول أيامها، إلا أنها استمرّت ريثما يتوصلا إِلى اتفاق يرضي جبروت الرئيس أيزنهاور الذي مازال متأثراً من الموقف البريطاني في شباط من نفس العام. وبينما كان الطرفان في أول دقائق جلستهم الصباحية في واشنطن في اليوم الثامن عشر من حزيران عام 1955م دخل عليهم الرئيس أيزنهاور ومصطحباً مَعَهُ تشرشل بدون سابق إنذار وراح مُتَحدثاً بنبرة مليئة بالخيبة إذ قال (12,66):
                "علمت اليوم أن صفقة سلاح جيكسلوفاكيا سوف يتم التعاقد عليها مَعَ مصر وبترحيب من الاتحاد السوفيتي، أتعرفون ماذا يعني ذلك: أنَّه بداية الصراع مَعَ الاتحاد السوفيتي على أغنى بقاع العالم، فلا شكّ أن التوغل الشيوعي سوف يستمرّ وبصورة سريعة إذا لم نضع مشاكلنا جانبا ونواجه الاتحاد السوفيتي بالقوة النووية البريطانية والأمريكية".
                أما تشرشل فَقَدْ كان كعادته لم يتكلم إلا قليلاً ولكن يمكن للكثيرين أن يقرأوا من تقاطيع وجهه كلماته التي طالما رددها والتي هي:
                "النصر لنا في آخر المعركة".
                وبناءاً على ما استجد من أحداث في منطقة الشرق الأوسط فَقَدْ عقد الأمريكان والبريطانيون اتفاقاً جديداً في العشرين من حزيران عام 1955م تضمن ما يلي (2,67):
                1. نظراً للتهديد السوفيتي المتزايد لأوربا تتعهد الولايات المتحدة الأمريكية بالتجهيز والإدارة لقوات حلف النيتو بما يتلاءم مَعَ إمكانية صدّ أيّ هجوم سوفيتي على أوربا الغربية.
                2. يتعهد البلدان بتبادل الخبرات والمعلومات النووية السلمية والعسكرية ضمن إطار الفائدة للبلدين.
                3. الصورة الحقيقية والشمولية لواقع الصراع مَعَ الاتحاد السوفيتي مألوفة وخطيرة بالنسبة لمستقبل اقتصاد البلدين، أنَّه صراع حول المناطق الغنية بالبترول، فلذا ومن أجل الحفاظ على التطور الصناعي في البلدين والاستمرار في تحسين مرافق الدولة للوصول بشعبينا لمستوى معيشي عالي يستوجب علينا البحث عن مصادر أخرى لتوفير الطاقة. وعليه فالولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة يتعهدان بالتعاون وتبادل الخبرات والمعلومات النووية التي تعجل في بناء محطات توليد الطاقة الكهربائية تعمل بالقوة النووية.
                4. العمل على بناء مفاعل نووية في كُلّ من كندا واستراليا وجنوب أفريقيا وإيطاليا وبعض دول الكومنولث التي ترتأيها بريطانيا مستقبلاً وبإشراف مباشر من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وذلك لإعطاء السلاح النووي أهمية دولية يمكن التفاوض بشأنها مَعَ الاتحاد السوفيتي.
                5. نظراً للتهديد السوفيتي لأوربا، ولّما كان حماية أمن أوربا جزء من واجبات الدولة الفرنسية لذا فأن الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة يتعهدان بِمَدّ فرنسا بكامل المساعدات الفنية والمالية لإتمام برنامجها النووي.
                6. نتيجة لعدم الارتياح لتطور العلاقة بين مصر والمعسكر الاشتراكي والذي ينذر
                بدخول الاتحاد السوفيتي للمنطقة من بوابة أخرى قَدْ تجعله قريباً من مصادر الطاقة الموجودة في الدول العربية فَقَدْ تعهد البلدان بإنشاء مفاعل نووي متكامل في إسرائيل لتطوير وإنتاج السلاح النووي يعمل بخبرات نووية أمريكية وبريطانيا.
                7. تعزيز القواعد الأمريكية المتواجدة في المحيطين الأطلسي والهندي بالسلاح الجوي البريطاني النووي.
                8. تتعهد بريطانيا بالتعاون فوراً مَعَ الولايات المتحدة الأمريكية في بناء سفن حربية عاملة بالطاقة النووية (وبالفعل فَقَدْ باشرت الدولتان عملهما في الأول من تموز عام 1955م حَيْثُ كان موقع العمل في ميناء بنسلفانيا الأمريكي).
                9. تتعهد الدولتان بعدم بيع الخبرات النووية المتعلقة بتوليد الطاقة لأية دولة نامية حَتَّى ولو كان ذلك يؤدي لتغطية العجز الاقتصادي الناتج من ارتفاع تكاليف البحث النووي، ويتم النظر في هذا الموضوع بعد عشرين سنة من توقيع هذا الاتفاق.
                بعد
                الاتفاق الصارم الموقع بين الدولتين الكبريين والذي لا يحتاج لأيّ تعليق منا لوضوح بنوده وخاصة تلك المتعلقة بالشرق الأوسط والمنطقة العربية سواء التي جاءت بصورة مباشرة أم بصورة غير مباشرة، بدأ التنفيذ بصورة ملفتة للنظر وبسرعة أدهشت وكالة المخابرات الروسية. فمع نهاية تموز عام 1955م أيّ بأقل من أربعين يوماً على توقيع الاتفاق، تمّت المباشرة في البرامج النووية المقترحة في كُلّ من جنوب أفريقيا واستراليا وتعجيل العمل في المفاعل النووية الفتية بكندا وإيطاليا. أما في إسرائيل فَقَدْ سافر وفد أمريكي بريطاني مشترك إِلى تل أبيب. بحث الوفد خلال زيارته التي تكررت خمس مرات في غضون ثلاثة أشهر مَعَ المسؤولين الصهاينة السبل الأمنية الواجب اتّباعها لحماية المفاعل النووي الإسرائيلي المزود بالخبرة الأمريكية والبريطانية النووية المزمع إنشائه علاوة على البحث عن موقع آمن بعيد عن الأنظار (68). ونتيجة لتلك الجهود المضنية فَقَدْ تَمّ اختيار منطقة نهل سورك Nahal Soreq لتكون موقعاً لإنشاء المفاعل النووي الممنوح من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.
                أما على الصعيد السلمي فَقَدْ تمكنت كُلّ من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية من تجنيد كامل قواهما النووية السلمية لإنتاج الطاقة الكهربائية بزمن قياسي. فما أن طل حزيران عام 1957م حَتَّى تَمَّ الإعلان عن إكمال أول محطتين للطاقة الكهربائية تعملان بالقوة النووية في بريطانيا، أعقبها بخمسة عشر يوماً الإعلان الأمريكي عن إكمال محطة كهربائية تعمل بالطاقة النووية مَعَ خطة مستقبلية لمدة عشرة سنوات قادمة (2).
                لم يكن الاتفاق البريطاني الأمريكي الأخير مريحاً للاتحاد السوفيتي، لذا فَقَدْ قام بتحذير الدولتين المتعاهدتين من مغبة التآمر على الاتحاد السوفيتي. كما لوح بسلاحه النووي الفعال وقدرته على تدمير أوربا الغربية في غضون دقائق إذا ما أحسّ بأيّ خطر غربي ضده. لَقَدْ كان التهديد السوفيتي شديداً بحيث بثّ الرعب في قلوب قادة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بعد أن فضح بنود الاتفاق الأخير وخاصة عزم الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا على بناء مفاعل نووي في إسرائيل. مما حدا بالرئيس الأمريكي أن يعلن في خطاب شعبي أن الاتفاق الأخير مَعَ بريطانيا ما هو إلا اتفاق للتعاون في المجال النووي السلمي. وعليه فَقَدْ دعا كُلّ الدول المالكة للطاقة النووية للاجتماع في جنيف في السابع من آب عام 1955م (2)، وهي تلك الدول التي تَمَّ خلقها ضمن بنود اتفاق العشرين من حزيران عام 1955م.

                5.1 التهديد النووي والاهتمام بالشرق الأوسط
                لم يحضر الاتحاد السوفيتي مؤتمر جنيف الخاص بالدول المالكة للطاقة النووية بالرغم من دعوته إليه. لاعتقاده بأن ذلك المؤتمر ما هو إلا مؤتمر صوري تحاول الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا من خلاله تغطية مآرب اتفاقيتهم المبرمة في العشرين من حزيران عام 1955م والتي تنص بنودها على ضرورة الحَدّ من نفوذ الاتحاد السوفيتي. كما أعقب المؤتمر بفترة وجيزة خطاب لخروشوف أمام مؤتمر أصدقاء السلام العالمي المنعقد في موسكو بمناسبة احتفالات ثورة أكتوبر الشيوعية لعام 1955م، أشار فيه إِلى خطورة إنشاء مفاعل نووي في إسرائيل، وحذر من جعل منطقة الشرق الأوسط منطقة حروب ونزاعات دولية ثُمّ أضاف قائلاً (12,69):
                "لحماية حدودنا من الاعتداءات الغربية علينا أن نقوي دفاعاتنا العسكرية عند الحدود الأوربية السوفيتية والحدود التركية السوفيتية، وإن نستمر في دعمنا للشعوب من أجل التحرر والاستقلال من الاستعمار الغربي خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط".
                كان في خطاب خروشوف إشارة تهديد قوية لبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وبقية الحلفاء الضعفاء الذين مازالوا يحاولون الخروج من المأزق الاقتصادي الذي خلفته الحرب العالمية الثانية. مما أجبر بريطانيا على دعوت حلفائها في السابع من تشرين الثاني عام 1955م لاجتماع عاجل في باريس لمناقشة الوضع المتأزم مَعَ الاتحاد السوفيتي واتخاذ الخطوات اللازمة تجاه ما ورد في خطاب خروشوف. ونتيجة لهذه الدعوة البريطانية التي حضرها وزراء الدفاع والخارجية لدول أعضاء حلف النيتو دون أن يتخلف أحد منهم تَمَّ إقرار تعزيز قواعد الحلف العسكرية المتواجدة في تركيا وتزويدها بـ: 680 طائرة حربية من نوع B-58. لتقوم بمهمة حماية الجو الإسرائيلي كما تَمَّ تخصيص مبلغ 2 مليار دولار لدعم الاقتصاد التركي على أن يكون نصفها لغرض تبليط الطرق الواقعة ما بين الحدود التركية - السوفيتية والقواعد العسكرية المتواجدة في الأراضي التركية المطلة على البحر الأبيض المتوسطة في المناطق المقابلة للسواحل الإسرائيلية (قواعد حلف النيتو في أدرنة والإسكندرونة).
                كما خَصَصَتْ الولايات المتحدة الأمريكية مبلغ أربعة مليارات دولار كمنحة عسكرية لبناء الجيش التركي ضمن خطة تستمر خمس سنوات قابلة للتجديد إذ ما تطورت الأحداث نحو الأسوأ (9).



                يتبع






                تعليق


                • #9
                  رد: السياسة النووية الدولية وأثرها على منطقة الشرق الأوسط

                  لم تكن تلك القرارات التي اتخذها الحلفاء باكورة نقل الصراع النووي بين الاتحاد السوفيتي والغرب لمنطقة الشرق الأوسط، بل على الرغم من العداء البريطاني الأمريكي وعدم التوافق في مجال السيطرة النووية كان هناك اتفاق أمني مسبق ما بين أتلي وترومان خاص بحماية إسرائيل قَدْ وقع في السابع من أيلول عام 1949م. أيّ بعد امتلاك الاتحاد السوفيتي للسلاح النووي وباكورة الاتفاق على بناء قواعد حلف النيتو العسكرية.
                  لَقَدْ كان هذا الاتفاق الأمني ينص على ضرورة تأهيل إسرائيل عسكرياً واستخبارياً كي تكون قاعدة فعالة في المنطقة تعمل على حفظ المصالح الأمريكية والبريطانية (وليس عموم الحلفاء) من التهديد السوفيتي (12,15).

                  وَمَعَ تعاظم القوة السوفيتية وتهديدها المتزايد لدول أوربا وتركيا وانتشار المبادئ الشيوعية في المنطقة العربية الداعية للثورة ضدّ الاستعمار البريطاني جعل كُلّ من ونستن تشرشل وأيزنهاور يلتمسان خطورة الموقف فقررا في لقائهما بواشنطن في منتصف كانون الثاني من عام 1954م على ضرورة دعم الاتفاقية الأمنية لعام 1949م الخاصة بحماية إسرائيل وزيادة نشاط العمل الاستخباراتي داخل الأراضي العربية. والتركيز على تكثيف الجهود على مصر التي بدأت توجهات قادتها تميل إِلى الاتحاد السوفيتي خصوصاً بعد أن بدأ تأثير ثورة 23 يوليو المصرية تجد طريقها مفتوحاً لقلوب العرب (12,15). وبناءاً على ما توصل إليه رئيس الوزراء البريطاني والرئيس الأمريكي فَقَدْ بدأ العمل فوراً لتقوية الجيش الإسرائيلي وتزويده بأحدث الأسلحة المتوفرة لديهم وتحويل مليشياته إِلى قوات عسكرية نظامية وتحت إشراف خبراء معظمهم بريطانيون.
                  أما على الصعيد الأمني سواء لحماية إسرائيل أو لمتابعة الأحداث ودراسة واقع الشعب العربي في الأقاليم العربية فَقَدْ انتخب لهذه المهمة الصعبة كُلّ من السير فرداي برندريت Sir Freddie Brundrett والسير برسي سليتو Sir Percy Sillitoe من المملكة المتحدة ولويس تورديلا Louis Tordella وجيمز إنكلتن James Jesus Angleton من الولايات المتحدة الأمريكية (70). فهؤلاء الأربعة المنتدبين الممثلين لوكالة المخابرات البريطانية ووكالة المخابرات الأمريكية أول ما استرشدوا وعكفوا على دراسة التقارير المتوفرة عن المنطقة العربية وحال مجتمعاتها وتأثرها بالأفكار الشيوعية المروجة من الاتحاد السوفيتي. وكان أهم تلك التقارير التقرير الذي سبق وإن أعده السير بن لوك سبايسر Sir Ben Lockspeiser، المرفوع لوزارة المستعمرات البريطانية في الحادي عشر من مارس عام 1932م. والذي تضمن تحذير من شدة انتشار ترويج الأفكار الشيوعية في المجتمعات العربية وخاصة في مصر والعراق وسوريا، ومعطيا نصائحه بوجوب معالجتها بأسرع ما يمكن قبل أن تجد طريقها إِلى قلوب الملايين الساخطة على الاستعمار البريطاني.
                  والتقرير لم يشرح حالة المجتمع العربي في الأقاليم الثلاثة فحسب، بل عرض عدداً من الاقتراحات الواجب اتخاذها فوراً وخاصة في مصر نتيجة لبروز حالة الفساد الإداري والاقتصادي وظهور بوادر تمرد جماهيرية شاملة (70).
                  كان من أهم الاقتراحات التي أكد عليها تقرير السير بن لوك سبايسر، هو وجوب تقوية الصلات أكثر مما هي عليه الآن مَعَ قادة أخوان المسلمين في مصر، وزيادة الدعم المالي لحركتهم الدينية البحتة وزجهم في العمل السياسي في المرحلة القادمة تحت غطاء محاربة الإلحاد والشيوعية (71). أما بالنسبة إِلى الواقع الاجتماعي السوري فَقَدْ ارتأى التقرير ضرورة الإسراع بتشجيع إنشاء الأحزاب الوطنية ودعم التجمعات الإسلامية الفتية والأحزاب الداعية للملكية والتي تَضُمّ كبار التجار المتنفذين لمناهضة الشيوعية لقطع الطريق أمام الاتحاد السوفيتي من تصدير أفكاره إِلى مناطق الخليج التي لم تعرف المدنية بعد (71,72). وعلى الرغم من ورود العراق في التقرير فلم يذكر أيّ اقتراح لمعالجة أمره وذلك لتأزم الأمور مسبقاً فيه واستشراء مرض الطائفية والتمييز القومي. مما لا يسع لأيّ استفحال فكري غريب في مجتمعه دون حَلّ ما فيه من مشاكل شغلت العاقل والجاهل. علاوة على أن العراق مازال يرضخ تحت وطأة الحكم الملكي الذي هو بصورة وأخرى يسير ضمن توجهات المندوب السامي البريطاني آنذاك.
                  بعد مراجعة هذا التقرير المهم راح المخابراتيون الأربعة يبحثون في بواطن التقارير الأخرى المتوفرة لديهم لغرض دراسة التأثير الشيوعي على المنطقة. وكان جُلّ اهتمامهم منصب على مصر وسوريا لاعتبارات سياسية واستراتيجية من جانب واعتبارات أمنية لحماية الكيان الصهيوني من جانب أخر. ونتيجة للعمل المتواصل والدقيق تمكنت اللجنة الأمنية الأمريكية البريطانية المشتركة من التأكيد في توصيتها على ضرورة إدامة ودعم العلاقة القائمة ما بين المخابرات البريطانية وقادة أخوان المسلمين ورئيسها حينذاك حسن البنا. والتي بدأت مُنْذُ تأسيسها في الإسماعيلية عام 1928م ولغاية عام 1941م حَيْثُ اندلعت الحرب العالمية الثانية ودخل السوفيت كحلفاء مَعَ الغرب ضدّ ألمانية مما جعل وكالة المخابرات البريطانية توقف حربها ضدّ الشيوعية بمعاونة الأخوان وتوقف دعمها المالي لحركة الإخوان وهو ما سهل اتصال إيطاليا وألمانية بهم كي يلعب الأخوان دوراً سياسياً كبيراً للمطالبة بطرد بريطانيا من مصر (73). وليكن موضوع البحث أكثر دقة وموضعية، دعنا نتحدث عن الحالة التي تَمَّ فيها تأسيس تنظيم أخوان المسلمين في مصر.
                  فتلك الحركة التي لعبت دوراً كبير لتغير الأحداث في الساحة المصرية لتورطها بالعلاقة مَعَ أكثر من جهة مُنْذُ تأسيسها، ما هي إلا عبارة عن دار للصلاة بنتها شركة قناة السويس البريطانية بعد أن بدأ المَدّ الشيوعي يأخذ طريقه إِلى عمال تلك الشركة وَدَبّ بين صفوفهم التمرد على الشركة البريطانية الفرنسية مطالبين بحقوقهم المنهوبة التي لا تعادل ما يحققونه من إنتاج. ونتيجة إِلى تلك الظروف دعت شركة قناة السويس السفير البريطاني لِحَلّ تلك المشكلة التي باتت تهددها بالانهيار، فما كان من السفير البريطاني في القاهرة إلا انتداب السير جون فرانسوا John Franswa للتوجه إِلى منطقة الإسماعيلية التي سبق وإن عاش فيها أكثر من عشرين سنة ضمن قطاعات الجيش البريطاني. وحال وصول فرانسوا التقى بحسن البنا ذُو المعرفة القديمة به والذي كان يعمل معلماً في إحدى مدارس الإسماعيلية. حَيْثُ اقترح البنا على فرانسوا بضرورة التعجيل ببناء بيت للصلاة داخل حدود شركة قناة السويس ومن خلاله يمكننا التعاون مَعَاً لقتل الشيوعية بين صفوف العمالة وإسكاتهم من المطالبة بالحقوق أو الإضراب.
                  ولم تمرّ أربعة أشهر حَتَّى بدأ من هناك حسن البنا واجباته الدينية التي تطورت وأصبحت حركة سياسية بعد خمس سنوات من تشكيلها أيّ مباشرة بعد تقرير السير بن لوك سبايسر لتنتقل إِلى القاهرة وتبدأ مرحلة جديدة من العمل بين صفوف المؤسسات الأخرى (71).
                  وبمجرد أن انتهت الحرب العالمية الثانية، استغلت الولايات المتحدة الأمريكية العجز البريطاني والأوربي الحاصل في مرافقها العديدة وخاصة المخابراتية منها. وتمكنت من إقناع بريطانيا ودول الحلفاء توكيل مهمة العمل المخابراتي في الشرق الأوسط لوكالة المخابرات الأمريكية. وزودتها تلك الدول بكافة المعلومات المتعلقة بعناصرها العاملين في المنطقة ضمن ما يسمى بـ: Joint Allied Intelligence Committee والتي تأسست عام 1943م للتحرك في بقاع العالم. وراحت تبحث عن أعوان لها تحت غطاء إيقاف الخطر السوفيتي القادم للمنطقة، فالتقى مبعوث وكالة المخابرات الأمريكية لمصر ميلز كوبلاند Miles Copeland زعيم أخوان المسلمين وقادتهم الآخرين أمثال محمود لبيب الذي كان نائباً للتنظيم حَتَّى عام 1946م وصلاح شاوي وحسن العشماوي. واختير في هذا اللقاء الشيخ حسن الهضيبي الذي أصبح رئيساً للإخوان بعد وفاة البنا ليكون حلقة الوصل ما بين التنظيم وكوبلاند. ومن أول وهلة حدد كوبلاند والهضيبي سبل التعاون بين الولايات المتحدة الأمريكية وحركة الأخوان للأطباق على الشيوعية والقضاء عليها.
                  ثُمّ توالت الاجتماعات ما بين حسن الهضيبي وأعضاء ارتباط وكالة المخابرات الأمريكية كيم روزفلت Kim Roosevelt وجيم روبرت Jim Rupert، بعد أن ضَمّ الهضيبي كُلّ من فريد عبد الخالق وعبد القادر حلمي للعمل مَعَهُ في لجنة التنسيق الأمريكية الإخوانية. كما تمكن حسن الهضيبي بالعمل كحلقة وصل ما بين الأمريكان وضباط الجيش ممن ينتمون إِلى حركة الأخوان عن طريق الاتصال بالمقدم عبد المنعم رؤوف، وهو ما سهل على المخابرات الأمريكية مراقبة كُلّ تحرك عسكري ضدّ فاروق خلال عام 1950م و 1951م (70, 71).
                  كانت إحدى مهارات المخابراتيين الأمريكان هو اللعب مَعَ كُلّ الأطراف. فلإجل إتمام اللعبة سهل كيم روزفلت مهمة اتصال الشيخ حسن الهضيبي بالملك فاروق في مارس عام 1952م. وقام الأول بإبلاغ فاروق عن المحاولة الانقلابية التي يروم ضباط الجيش القيام بها للإطاحة بعرشه وعرض الشيخ حسن على الملك فاروق استعداد الأخوان وبمساعدة المخابرات الأمريكية للعمل على إحباط محاولة العسكر الانقلابية. ومن خلال هذا الاتفاق استلم حسن الهضيبي وبحضور زكي شرف الدين ويوسف طلعت مبلغاً كبيراً من المال قدر بحوالي 200 ألف دولار أمريكي لغرض استمالت الضباط ومنعهم من الانخراط في مؤازرة الثورة. كما وعد فاروق الهضيبي بتشكيل الحكومة في آب عام 1952م إذ ما تحقق القضاء على ضباط الجيش اللذين يخططون للإطاحة به (73).
                  وَمَعَ تلك العلاقة التي كان يتمتع بها روزفلت بالملك فاروق فَقَدْ أخفى عليه كثيراً من الأمور التي تحدد مصيره في الأيام القليلة القادمة لإيمانه وإيمان دولته بان فاروق صعد أم نزل هو رجل بريطاني الأهواء. وهو ما لا يخدم مصالح الولايات المتحدة الأمريكية المستقبلية في المنطقة على الرغم من وجود الأحلاف البريطانية الأمريكية. وكان كم روزفلت مقتنعا تَماماً بأن القضاء على المَدّ الشيوعي لا يمكن أن يتم إلا بدعم أخوان المسلمين والعمل على جعلها حركة شعبية. فلذا فَقَدْ وجّه روزفلت حليفه الهضيبي باستعمال أموال فاروق لاستمالت ضباط الجيش للانخراط في تنظيم الأخوان.
                  لم يكن موقف الولايات المتحدة الأمريكية قَدْ نتج من لا شيء بل كان نابع من حرب الحلفاء من أجل الظفر بالسلاح النووي الذي دام طيلة عشر سنوات. مما غير اتجاه السياسات المخابراتية بين دول الحلفاء على الرغم من المعاهدات والتعاون في هذا المجال. وفي الوقت الذي كان فيه كم روزفلت يوجه قواعد أخوان المسلمين من خلال إصدار الأوامر إِلى حسن الهضيبي، استفادت محطة المخابرات الأمريكية من تلك المعلومات المقدمة من ضباط الأخوان ضمن تشكيل الضباط الأحرار. وبدت وكالة المخابرات الأمريكية عارفة بكل بواطن الأمور بدءاً من ساعة صفر الثورة. وأخذت تراقب كُلّ تحركاتهم، وما أن تمكنوا من حصر الأمور حَتَّى بعثوا بمندوبهم إِلى الضباط الأحرار ليعلمهم بأن حركة ضباط الأحرار قَدْ بدت مكشوفة وَلابُدَّ من التفاوض مَعَ الحكومة الأمريكية قبل أن يتم أيّ تحرك وإلا بات الفشل هو النتيجة.
                  لَقَدْ وجد الأحرار لا مفرّ من الجلوس والتفاوض معهم وكان ذلك بإصرار من ضباط الأخوان وخاصة أنوار السادات وعبد المنعم رؤوف وحسن التُّهامي الذين كانوا ضمن تنظيم الأخوان قبل الثورة. ولهذا التقى جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وعبد المنعم رؤوف وأنور السادات بالملحق العسكري في السفارة الأمريكية بالقاهرة ديف إفنس Dave Evans وبحضور كم روزفلت مدير محطة المخابرات الأمريكية في مصر والسودان في التاسع من نيسان عام 1952م. وأبلغهم إفنس بان الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا لهما شروط قبل القيام بأيّ شيء وآلا ليس هناك بوادر نجاح لحركتكم وَقَدْ كانت شروطهم التي أملوها لقاء عدم التدخّل لإجهاض الثورة وضمان عدم تدخّل بريطانيا أَيضاً هي (74,75):
                  1. ضمان حياة العائلة المالكة وتسهيل مهمة خروجهم سلماً من مصر.
                  2. استبعاد الضباط ذوي الميول الشيوعية من الثورة وإعطاء دوراً كبير لإخوان المسلمين في قيادة الدولة.
                  3. تعيين مُحَمَّد نجيب (كان أحد أعضاء تنظيم الأخوان النشطين أصر الهضيبي على تعينه لهذا المنصب ولاقى استحساناً من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية أَيضاً) رئيساً للدولة حال نجاح الثورة.
                  4. عدم التعرض للقوات البريطانية ومنشأتها في قناة السويس.
                  5. عدم المطالبة بفلسطين وعدم التعرض لدولة إسرائيل.
                  6. تتعهد الولايات المتحدة الأمريكية بالاعتراف بالثورة وتقديم المساعدات المالية التي تخرج الاقتصاد المصري من أزمته الحالية.
                  7. تتعهد الولايات المتحدة الأمريكية بدعم الدولة المصرية بالخبرات الإدارية للخروج من حالة الفساد التي تعاني منها الدولة المصرية.

                  وافق وفد الضباط الأحرار على كُلّ هذه الشروط باستثناء الفقرة الخامسة المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وكما وصفها كوبلاند في مذكراته كانت النقطة التي امتعض منها عبد الناصر وقال (74):
                  "أن مبدأ استرجاع فلسطين لا نقاش فيه ولمعلوماتكم لم نفكر بالإطاحة بالنظام الملكي لولا إحساسنا بألم ضياع فلسطين بسبب فاروق وحاشيته".

                  ولكن مَعَ موافقة الضباط الأحرار بما أُملي عليهم مَضَضاً بدأ الثوار يتملصون من تلك الشروط شيئاً فشيئاً واستبعاد الضباط الذين أملتهم المخابرات الأمريكية من الحكم شيئاً فشيئاً مَعَ إطلالة عام 1954م. وهذا ما يعني أن الموافقة على الشروط الأمريكية والبريطانية ما هي إلا تمويه للانقضاض على الفساد دون أن يستوقفهم من له القدرة على إبقاء فاروق. وهو ما آثار غضب الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بحيث حاولا بشتى الوسائل تعطيل أيّ قرض دولي لإعادة بناء مصر التي دمرت الكثير من مرافقها خلال حريق القاهرة لعام 1951م. إضافة إِلى عدم التزامهم ببيع أسلحة لغرض بناء الجيش المصري واعتبروه أمراً يهدد الكيان الأمني الإسرائيلي. مطالبين مصر أن تَحلّ أزمتها مَعَ إسرائيل أولاً والاعتراف بها كدولة ثانياً، لأن ذلك وحسب اعتقاد بريطانيا وأمريكا يسهل دخول بقية الأقطار العربية اللعبة وبالتالي لا تعد هناك مشكلة في الشرق الأوسط سوى القضاء على المَدّ الشيوعي.
                  وبناءاً على الوقائع الأنفة الذكر قررت اللجنة الأمنية البريطانية الأمريكية المشتركة على ضرورة الاستمرار بالعلاقة المخابراتية الأمريكية مَعَ أخوان المسلمين، وبمشاركة عنصر بريطاني يتم تعينه مستقبلاً ومنحهم كُلّ الدعم اللازم للإطاحة بنظام الحكم المصري وإيقاف النفوذ الروسي المتجه نحو الخليج العربي تحت غطاء ثورة عبد الناصر. وتكررت الاجتماعات البريطانية الأمريكية الإخوانية مراراً لمناقشة ما يمكن اتّباعه لإبقاء أعضاء الأخوان في وزارة 1952 دون إقالة أيّ أحد منهم (وهم الشيخ الباقوري وعبد الحكيم عامر وأحمد حسنين وزكي شرف ومحمد كمال الدين إضافة إِلى رئيس الدولة مُحَمَّد نجيب). حَيْثُ كان من أكبر تلك الاجتماعات وأهمها هو الاجتماع الذي التقى فيه المستشار الشرقي في السفارة البريطانية مستر إيفانز بحسن الهضيبي والدكتور مُحَمَّد سالم ومحمود عبد الحكيم ومنير الدلة وصالح أبو رفيق وسيد قطب المعقود في الثامن من شباط عام 1953م. عقد الاجتماع على غرار المعلومات المتوفرة بعزم رجال الثورة بإقالة أعضاء حركة الأخوان من الحكومة بما فيهم رئيس الدولة مُحَمَّد نجيب.
                  ومما زاد الأمور أكثر خطورة هو تخلي زكريا محي الدين وعبد الحكيم عامر ومحمد كمال الدين عن تنظيم الأخوان ووصفهم الهضيبي بمرتزقة السياسة بعد أن خانوا الحركة واتبعوا عبد الناصر والشيوعية (15,71).
                  أما بالنسبة إِلى سوريا وخصوصاً بعد أن امتلأ الشارع الشعبي بالمساندة العفوية لثورة 23 يوليو 1952م فَقَدْ رأت اللجنة الأمنية المشتركة ضرورة إغداق الأموال لبثّ الروح المعنوية في الأحزاب الإسلامية والقومية منها والتي تأسست في سوريا بدعم بريطاني خلال فترة الحرب العالمية الثانية. وكان الغرض من هذا الدعم لتلك الأحزاب هو لامتصاص الهيجان الشعبي في سورية المؤيد لعبد الناصر، خصوصاً بعدما بدأ ينادي بضرورة الوحدة العربية (72). وللمخابرات البريطانية والأمريكية في سوريا ولبنان مُنْذُ منتصف الثلاثينات قُصَص يندى لها الجبين إذ ما صَحّ كُلّ ما جاء في مذكرات ستيف ميدي Steve Meade رجل المخابرات الأمريكية في منطقة سوريا ولبنان وجيمز هيو كيلي James Hugh Keeley مدير محطة المخابرات الأمريكية في أثينا مُنْذُ عام 1937م ولغاية نقله إِلى محطة المخابرات الأمريكية في سوريا عام 1949م واليس مكدونلد Alec MacDonald مقدم المخابرات البريطاني الذي كان يشغل منصب عضو الارتباط في الـ: ANS وكالة الأمن الوطني، والتي تقوم بالتنسيق ما بين وكالة المخابرات البريطانية MI6 ووكالة المخابرات الأمريكية (CIA (74,75,76.
                  فبينما كان المدّ الشيوعي يمدّ أخطبوطه لدخول المنطقة العربية عبر البوابة المصرية مستغلاً التعثر الحاصل في إدارة الدولة المصرية مَعَ نهاية العشرينات، حَيْثُ بدأت خلايا الحزب الشيوعي تتزايد وتنشط شيئاً فشيئاً بين صفوف الطبقات المتعبة، نرى إن المخابرات البريطانية راحت تلعب دورها داخل سوريا لمعرفتها بعجز المخابرات الفرنسية من أداء دور مهم في تلك المنطقة. ولم يكن ذلك خوفاً على مصالح فرنسا في سوريا ولبنان بل كان نابعاً من تخوف البريطانيون من انهدام مخططهم المرسوم لتلك المنطقة المحيطة بفلسطين من جانب وبالعراق من جانب أخر لامتداده المرتبط بالخليج العربي.
                  لَقَدْ كانت الخطة البريطانية المرسومة لسوريا والعراق والخليج العربي مبنية على تأسيس أحزاب اشتراكية وطنية تَحلّ محل الأحزاب الشيوعية في المنطقة. إضافة إِلى تعزيز امتداد تنظيم أخوان المسلمين أو أحزاب مشابهة في هيكلها التنظيمي للإخوان ذلك التنظيم الذي نجحت بريطانيا في خلقه كي يؤدي دوره المطلوب تحت شعار مواجهة امتداد الشيوعية في مصر.

                  كانت سوريا في مرحلة منتصف الثلاثينات أرضية خصبة للقيام بمثل هذا العمل لانفتاحها الثقافي وبروز نخبة لا يستهان بها من المثقفين ذوي الحِسّ الوطني. فعلى صعيد التنظيم الإسلامي لعبت العلاقة الحميمة ما بين السير جون ماريوت John Marriot الذي شغل فيما بعد منصب سكرتارية وكالة المخابرات البريطانية في الشرق الأوسط والتي كانت تتخذ من دمشق مقراً لها وبين نصري النشاشيبي الذي شغل منصب مدير البلاط الملكي للملك عبد الله حَتَّى تموز عام 1951م (جده نصر الدين النشاشيبي أمام مسجد إبراهيم عليه السلام في القدس خلال فترة حكم المماليك) دوراً مهما. فعلاقة ماريوت مَعَ نصري حميمة جداً ابتدأت أيام كان الصبا حَيْثُ الاثنان عاشا في القدس، فهذه العلاقة الحميمة بينهما سهلت على ماريوت مهمة اختيار رؤوس يعتمد عليها لقيام تنظيم إسلامي في سوريا شبيه بتنظيم أخوان المسلمين في مصر. فالتقى فخري البريدي والشيخ أحمد اليعقوبي ونسق معهم في إمكانية قيام مثل هذا التنظيم وبدعم ومباركة من بريطانيا.
                  أما على صعيد الأحزاب السياسية الاشتراكية والأحزاب ذات الطابع الوطني فَقَدْ انتدب الرجل المخابراتي الأرثودوكسي المحنك دَكّ وايت Dick White لهذه المهمة والتي توجه بها إِلى سوريا في تموز عام 1936م والتقى مَعَ الأرثودوكسي ميشيل عفلق بوساطة الأب يوحنا وليم شعيا أحد الأساقفة الأرثودكسيون. ثُمّ عاود وايت سفره إِلى دمشق ولبنان ما بين عام 1936م وعام 1938م مرات عديدة التقى خلالها بصلاح البيطار وأكرم الحوراني وفاروق شبلي ويوسف دبوسي. تلك اللقاءات التي بلا شكّ أثمرت مَعَ نهاية 1940م وبداية 1941م ببروز أحزاب للعيان كان يرأسها من التقى وايت بهم مراراً واستمرّ يتابع نشاطهم حَتَّى عام 1946م حين جاء الدور الأمريكي بعد أن طور ترومان العمل المخابراتي الخارجي وأنشأ ما يعرف بوكالة المخابرات الأمريكية الـ: CIA عام 1947م. وكالعادة هبط مستوى بريطانيا المخابراتي في مرحلة الحرب العالمية الثانية وتعثرت سبل متابعته. مما سهل على المخابرات الأمريكية دخول المنطقة بسهولة (ولو بالتعاون مَعَ بريطانيا وبعض من الحلفاء الآخرين).
                  كانت بريطانيا قَدْ جندت أفواج كثيرة للقيام بدور كبير في مستقبل تلك الدول مباشرة بعد الحرب العالمية الأُولى. وكانت طموحات بريطانيا حينذاك غير مقتصر على مرحلة محددة أَو بمعنى آخر خلال تلك المرحلة، بل في مراحل مستقبلية قَدْ تحتاجها. وهو ما نفع في تنشيط العمل البريطاني الأمريكي المخابراتي في المنطقة. فكانت مجموعة ميلز كوبلاند وكم روزفلت وكيلي وبرئاسة لويس تورديلا Louis Tordella قَدْ لعبت الدور السياسي داخل سوريا، بدءاً من انقلاب حسني الزعيم في الثلاثين من آذار عام 1949م (71,74). وبدأت المخابرات الأمريكية ومُنْذُ صيف عام 1943م تبحث عن شخصيات سياسية لتلعب دوراً كبيراً في الحياة السياسية في سوريا ودول عربية أخرى. ونتيجة للمباحثات التي جرت ما بين وكالة المخابرات البريطانية ووكالة المخابرات الأمريكية في لندن حول مستقبل العمل المخابراتي في منطقة الشرق الأوسط انتخب ضابط المخابرات الأمريكي هيري رومان Harry Roman للقيام بهذه المهمة.
                  وحددت له خطة كان أول خطواتها الاجتماع بميشيل عفلق، وبالفعل تَمَّ لقائهما في بيروت في السابع من أيلول عام 1944م. ثُمّ عاودا اللقاء مرة أخرى في الأول من تشرين الثاني وكان بصحبة ميشيل عفلق (البعث العربي) كُلّ من أكرم الحوراني (الاشتراكي العربي) ونديم البيطار واتفق هيري وعفلق على أن يكون أكرم الحوراني هو حلقة الوصل بينهما. ونتيجة لهذه اللقاءات الجانبية ما بين عفلق وهيري وما بين الأخير والحوراني وما انتدبت وكالة المخابرات الأمريكية للتباحث مَعَ مؤسسي البعث العربي والاشتراكي العربي تَمَّ تأسيس حزب واحد تمكن من خلاله الأمريكان تمرير مخططهم على الشعب والاستفادة من هذه الخبرة لتطبقها في مواقع أخرى من الوطن العربي. بعد أن ضمنوا تنظيم بصيغة إسلامية وتنظيم بصيغة اشتراكية يمكن من خلالهما قمع الشعب وتحجيم الحِسّ الوطني الحقيقي الذي لا ارتباط له وإبقائهم تحت رحمتهم بغطاء ضرب الشيوعية الممتدة بلا هوادة إِلى داخل المنطقة العربية (75,77).
                  تلك هي بداية الصراع النووي الغربي الشرقي الذي انتقل بصورة أو بأخرى إِلى منطقتنا العربية وبدأ الأقوياء يتلاعبون بمقدرات شعبنا حفظاً على استمرار تدفق البترول إليهم، وإلا كان السلاح النووي الفتاك هو مقياس حَلّ النزاعات. إن محاولة بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية للسيطرة على المنطقة قبل أن يدخل الاتحاد السوفيتي كمنازع ولربما مشارك في المستقبل جعلت من المخابرات البريطانية والمخابرات الأمريكية تؤدي دورها بصورة محكمة. تمكنت من خلالهما رسم الصورة السياسية المستقبلية للمنطقة العربية، لتنفيذ مشروعها النووي في إسرائيل بأمان. ولكن مَعَ هذا العمل الجدير بالدراسة والتدقيق كان في المقابل له تحرك سوفيتي ذكي بعيد عن الأنظار يدور في أروقة السفارات الغربية لتأليب الموقف الشعبي ضدّ الاستعمار البريطاني والاستغلال الأمريكي.
                  لم يكن هذا التحرك يصب في مصلحة الوطن ورفع سياط العبودية كما هي شعارات الاتحاد السوفيتي بل كان باباً أَيضاً لدخول المنطقة والسيطرة عليها اقتصادياً تحت ذرائع عديدة قَدْ تختلف في أشكالها عن الاستعمار الغربي لكنها تلتقي في مضمون الاستغلال البشع. وعليه فَقَدْ لعبت السفارة السوفيتية في بريطانيا دوراً كبيراً لِمَدّ الجسور مَعَ مصر والتي من خلال تلك الجسور بدأ الامتداد يسير بصورة عاجلة في جميع الاتجاهات. جاعلاً من المنطقة العربية بحراً هائجاً يواجه الاستعمار البريطاني. ومما ساعد في ذلك هو الأسلوب المخابراتي الغربي الخسيس الذي حاولت كُلّ جهة منه أن تستفيد قدر استطاعتها. فَفِي الوقت الذي كانت فيه الممارسات الأمريكية والبريطانية تعكر صفوة القروض المصرية وتعطيل العقود الخاصة بتسليح الجيش المصري لاحت بوادر تقارب مصرية مَعَ المعسكر الاشتراكي. الذي تطور سريعاً جداً وامتدت حدوده حدّ مساعدة الثوار في الجزائر حَيْثُ اعتبرته الحكومة البريطانية والفرنسية تَحَدٍ مصري للغرب وأنها لابُدَ أن تدفع الثمن غالياً وعاجلاً.
                  فَفِي الوقت الذي كانت فيه اللجنة الأمنية البريطانية الأمريكية المشتركة مشغولة بمراقبة الأحداث المتتالية في مصر، كان السفير السوفيتي في لندن يكثر من لقاءاته مَعَ السفير المصري لمناقشة مسألة ضرورة تأميم قناة السويس، مما حدي بوكالة المخابرات البريطانية بالتنصت والتجسس على السفارة المصرية في لندن لأهمية موضوع قناة السويس بالنسبة لها ولحلفائهم (70).

                  يتبع









                  تعليق


                  • #10
                    رد: السياسة النووية الدولية وأثرها على منطقة الشرق الأوسط

                    وَمَعَ براعة بيتر رايت Peter Wright وهيو ونتربورن Hugh Winterborn في ربط أجهزة مراقبة الاتصالات إلا أنها لم تعطي نتيجة مرضية. وذلك لعلم السوفيت بما يحاك ضدهم فأرسلوا بعثتهم الفنية إِلى كُلّ من سفارتهم وسفارة مصر وعطلوا أجهزة المراقبة التابعة للمخابرات البريطانية باستثناء خطّ الاتصال المباشر ما بين موسكو والسفارة بلندن وقاعة الاجتماعات السرية في الدور الربع من مقرّ السفارة السوفيتية. لَقَدْ أحسّ البريطانيون باللعبة السوفيتية التي أبقت على خطّ الاتصال هذا وكان تحليلهم في محله حَيْثُ قال السير تيري كينسري (Terry Guernsey (70:
                    "أن السوفيت أرادوا أن يوصلوا لنا عبر هذا الخَطّ ما يريدون". وبالفعل ذلك ما أراده السوفيت إذ ما عرفنا أن السفير السوفيتي قَدْ أبلغ سفير مصر في لندن بالأتي (70):
                    "الاتحاد السوفيتي مهتم جداً بقضية تأميم قناة السويس ونحن سنكون طرفاً معكم في هذه الخطوة".
                    وعاد واجتمع وزير الخارجية السوفيتي مَعَ السفير المصري في لندن وأبلغه الرسالة التالية التي تمكنت المخابرات البريطانية من التقاطها والتقاط ما دار في اجتماعهما كما أراد السوفيت (70):
                    "نود أعلامكم بأننا جهّزنا مطاراتنا ووضعنا سلاحنا الجوي على أهبة الاستعداد للوقوف بجانبكم إذ ما حصل أيّ اعتداء بريطاني بعد التأميم، ولا تنسوا بأننا دولة نووية ولنا ثقلنا في العالم".

                    بعد اجتماع وزير الخارجية السوفيتي والسفير المصري عرف البريطانيون أن القناة مؤممة لا محالة والشيء الوحيد الذي يوقف هذه المأساة هو اغتيال عبد الناصر والمجيء بإخوان المسلمين للسلطة كما كان متفق مسبقاً مَعَ الولايات المتحدة الأمريكية (70). وبدأ الاتصال مُكَثفاً بين جماعة الأخوان والبريطانيين ووضعت خطة لاغتيال أكثر من 130 ضابطاً بدءاً من عبد الناصر. حَيْثُ تَمَّ الاتفاق على التنفيذ الفاشل في السادس والعشرين من أكتوبر عام 1954م وأُلقي القبض على محمود عبد اللطيف قائد تلك العمليات واعترف بكل شيء، وبكيفية تورط سيد قطب بتوجيهه ومنحه السلاح الذي يستوجب تنفيذ الاغتيال به (70,74). كما اعترف بالعلاقة ما بين المخابرات البريطانية والإخوان ومدى تورطهم بتلك العملية. ولكي تبرر بريطانيا فعلتها اتصلت السفارة البريطانية بعبد الناصر مباشرة وحملته مسؤولية الحفاظ على سيد قطب واعتبار جريمته سياسية غير جنائية، والا فأن بريطانيا سوف تقدم على عمل يروق بمستوى علاقة قطب بها (70,74).
                    مُنْذُ انكشاف خطّ التعاون البريطاني الإخواني، حاولت بريطانيا تغيير خطتها بالاغتيال بواسطة بثّ غاز سام في بوابات التهوية، إلا أن الرياح تسري بما لا تشتهي السفن. فَقَدْ تأممت القناة قبل اتخاذ أيّ خطوة وكانت هناك معارضة شديدة من الولايات المتحدة الأمريكية باستعمال أسلوب الاغتيال وطلبت من بريطانيا عدم التورط بأيّ شيء يغيظ الاتحاد السوفيتي ويجعل من سوء التفاهم مشكلة تدخّل العالم في حرب نحن في غنى عنها. لكن الغرور البريطاني وحبه للسيطرة مهما كانت النتائج وإعلانه مؤخراً امتلاك سلاح فتاك يصل حدود الاتحاد السوفيتي جعله لم يرضخ لما ارتأته حليفته الولايات المتحدة الأمريكية وراح مهدداً بالحرب إذا لم تعدل الحكومة المصرية عن قرارها. وما بين الإصرار السوفيتي على المواجهة والدعم العسكري الكبير الذي أعطته لمصر وبين الجبروت البريطاني الذي تمكن من إقناع فرنسا بالوقوف بجانبها لقاء مساعدتها في مشروع تطوير السلاح النووي ولغضب فرنسا من مساعدة مصر للثورة الجزائرية فأعلنت وقوفها إِلى جانب بريطانيا في أزمة قناة السويس التي لم تلقى تجاوبا من مصر للتنازل عن ما أقدمت عليه، كانت الحرب التي كما قال تشرشل حرب لابُدَ منها (70,72).

                    حاولت الولايات المتحدة الأمريكية تخفيف حدة التوتر البريطاني وقادة حملة دولية أجبرت الكثير من الدول للوقوف ضدّ عبد الناصر ومحاولة حَلّ المشكلة دون الدخول في حرب تؤدي لمواجهة مَعَ الاتحاد السوفيتي، ولكن دون جدوى. وارتأت إخراج إسرائيل من اللعبة لأن ذلك يفتح باب حالة الحرب ضدّ إسرائيل وهي مازالت في طور البناء الاقتصادي والعسكري وَقَدْ لا تتحمل الموقف إذ ما تطور أكثر مما تتصوره بريطانيا. وهو ما سوف يؤثر على إمكانية تطوير السلاح النووي في المنطقة. ثُمّ عادت الإدارة الأمريكية مرة أخرى مطالبة استبعاد إسرائيل لكونهم في بداية تنظيم خطة يحاولون من خلالها إبرام معاهدة سلام بين العرب وإسرائيل. إلا أن هذا العرض قَدْ رُفِض أَيضاً وراح تشرشل قائلاً في حوار متشنج مَعَ إدين Eden حول مستقبل قناة السويس وتأثيرها على الإمبراطورية البريطانية بقوله المتعنت الأجش بـ: (72):
                    Nasser had grasped at the throat of the imperial lifeline, and that it was a matter of life and death for the British Empire"
                    ويقصد بذلك "أن عبد الناصر قبض على حنجرة خطّ حياة الإمبراطورية، وهذا معناه مسألة حياة وموت للإمبراطورية البريطانية".
                    وحاول الرئيس الأمريكي إقناع تشرشل بان لا حَقّ قانوني لبريطانيا أو أية دولة أوربية أمام قرار ناصر بتأميم قناة السويس ودعونا نتوسط لِحَلّ المشكلة سلمياً. ولكن لم تنفع الوساطة فَقَدْ أشعلت بريطانيا وبمعاونة فرنسا وإسرائيل الحرب على مصر والتي وصفها الأمريكان بأنها حرب لا ضرورة لها فهي لم تتعدى سوى القصف الهمجي غير الإنساني لمواقع آهلة بالسكان الأبرياء (72,74,76). واهتاج العالم صارخاً مستنكراً ما قامت به الدول المعتدية الثلاث وكان أولها الاتحاد السوفيتي والصين الشيوعية ثُمّ تبعتها كندا وباكستان والهند وسيلون (على الرغم من أنها دول كومنولث). وقطعت سوريا والسعودية العربية علاقتها مَعَ بريطانيا. وبعد ثلاثة أيام من تلك الأحداث جاء التهديد السوفيتي بدخول الحرب إذا لم يتوقف القصف وتنسحب الدول المعتدية من الأراضي المصرية. مما جعل الولايات المتحدة الأمريكية تتلاف الموقف وتصدر قرارها الاستنكاري بالهجوم على مصر ومطالبة الدول المعتدية بالانسحاب فوراً وهذا ما غير موازين اللعبة بعد أن كانت بريطانيا تتوقع إسناداً من الولايات المتحدة الأمريكية في حال بزوغ أيّ تهديد سوفيتي.

                    لَقَدْ كانت نظرة الأمريكان أبعد مما كان يراه البريطانيون الذين مازالت ترن بآذانهم كلمة الإمبراطورية التي لا تغلب على الرغم من انحسار مستعمراتها واحدة تلو الأخرى. فالأمريكان كانوا يخافون تألب الموقف العربي والإسلامي النابع من مشاركة إسرائيل وبالتالي يفشل كُلّ مخططهم المرسوم لقيام صلح دائمي مَعَ العرب. فلذا ولمنع ما لا يحمد عقباه من الحدوث ولإحراج الاتحاد السوفيتي وجعله يقف متفرجا استنكر الأمريكان عمل بريطانيا وحلفائها بشدة وطالبوا بالانسحاب الفوري. وهو ما خلق أزمة سياسية ما بين بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية حَيْثُ اتهمت الأولى الولايات المتحدة الأمريكية بإحباط مخططها الهادف لإسقاط عبد الناصر وإبداله بإخوان المسلمين وذلك من خلال استنكارهم للعدوان الذي لولاه لكان سقوط ناصر وشيك جداً (70,76).
                    لَقَدْ عكس العدوان الثلاثي على مصر انعكاسات مهولة وقوية على المنطقة العربية إذ جعلت من شعبها ينتبه إِلى ما يدور من صراعات حول مناطقه. فتوالت النكسات الغربية على أيدي أبناء الشعب الأحرار فكانت وحدة مصر وسوريا الشعبية ضربة جديدة للاستعمار الغربي وألحقتها ثورة 14 تموز عام 1958م في العراق التي كسرت صرحا بريطانيا أمريكياً كاد أن يكون غولاً في الشرق الأوسط لتضييق الخناق على شعوب المنطقة وإلغاء دورهم التاريخي وجعلهم أداة بيدهم ضمن ما كان يرومون خلقه من حلف معروف بحلف بغداد.
                    ولم يكن توالي تلك الأحداث قَدْ غير الواقع السياسي للمنطقة العربية فحسب، بل انعكس إيجاباً على أسلوب التفكير الأمريكي البريطاني الغربي وجعلهم ينظرون إِلى مسالة انتشار السلاح النووي لا تَحلّ بواسطة إشهار العضلات بل بالحوار والتفاهم. وهو ما فتح باب الحوار ما بين الغرب والاتحاد السوفيتي لِحَلّ مشاكلهم العالقة. ولكن على حساب الدول النامية التي لا حول لها ولا قوة فتلاعبت بها الاتفاقات السرية وتقاسم مناطق النفوذ للاستحواذ على خيرات دولهم التي هي أضعف من أن تقاتل ذبابة بدون مساندة من دولة كبرى.

                    5.2 تسليح حلف النيتو وتأثيره الاستراتيجي
                    لم يكن هناك حَلّ للحلفاء والولايات المتحدة الأمريكية غير التأكيد على بناء حلف النيتو الذي ظهر للعيان عام 1949م أبان التهديد الروسي السوفيتي لأوربا ومصالح الغرب في العالم. فَلَقَدْ تأكد الحلفاء الغربيين أنَّه لا أداة لردع السوفيت سياسياً واقتصادياً وفكرياً سوى التلويح بالقوة العسكرية التي أصبحت عاملاً تكتيكياً أحدهم يلوح به لإرغام الأخر بقبول نفوذه العالمي قبل أن تدخل مرحلة الحوار بينهم. ولّما كانت قناعة الولايات المتحدة الأمريكية والحلفاء الأوربيين بأن اتحادهم تحت راية جيش واحد لمواجهة الاتحاد السوفيتي وتعطيل مهمته هي أمنية لابُدَ أن تكون حقيقة، سار العمل بهذا الاتجاه رغم معاناة حلف النيتو الكثيرة ومُنْذُ التأسيس. فهناك مشاكل اقتصادية وسياسية وعسكرية وهو ما اعترف به وزراء حلف النيتو في اجتماعهم عام 1958م في أوتاوا بكندا (77).
                    فكانت الولايات المتحدة الأمريكية عازمة في عام 1955م على تجهيز قوات حلف النيتو بالسلاح النووي فعدلت عن ذلك وراحت تنظر إِلى مسألة تسليح النيتو من منظار استراتيجي بحت لعدة مشاكل برزت ضمن إطاره العسكري والتي يمكن إجمالها بما يلي:
                    1. الحسابات الاستراتيجية المتعلقة بالضربات العسكرية النووية سواء كانت بسابق إنذار أو بدون سابق إنذار.
                    2. الحالات التي تستدعي أعادت احتلال قوات النيتو لأوربا الغربية دون استعمال السلاح النووي.
                    3. حجم المعارك التي يستوجب فيها استعمال السلاح النووي تكتيكياً.
                    4. المدى العسكري الذي يمكن أن يتدخّل فيه حلف النيتو بالسلاح التقليدي وعلى مستويات مختلفة بدءاً من المراقبة للأحداث ودخوله الحرب.
                    5. مراعاة التقدم العسكري السوفيتي في القوة العسكرية التقليدية والقوة النووية.

                    واستناداً لتلك الحسابات العسكرية الإستراتيجية لحلف النيتو، تَمَّ التفاهم بين الأطراف المعنية في الحلف لغرض إنشاء قوة لا يستهان بها للوقوف أمام القوة السوفيتية الجبارة سواء كانت منها المجهّزة بالأسلحة التقليدية أو المجهّزة بالأسلحة النووية. ولم يكن دراسة ما تقدم من نقاط قَدْ جاء اعتباطا بل كانت نابعة من معرفة حلف النيتو لأهمية القرار السياسي للمناورة بالقوة العسكرية من خلال إبراز حجم القوة العسكرية أو أجهزتها التسليحية. فلذا كان الرأي السائد في اجتماعات ممثلي الحلف مبنيا أساساً على ضرورة بناء القوة العسكرية غير النووية. لتضمن حماية برلين وأوربا الغربية من التهديد السوفيتي على الرغم من تكاليفها الباهظة في التسليح وفي رفدها بكوادر بشرية. واستناداً إِلى هذه الإستراتيجية العسكرية الجديدة لحلف النيتو فَقَدْ تقرر تسليحه على أساس قيامة بالواجبات الآتية (77):
                    1. أن من أول مهمات قوات حلف النيتو هو وقاية الشعوب الأوربية من الاعتداءات السوفيتية وحماية وحدة أراضيها وحماية المصالح المشتركة للحلفاء.
                    2. في حالة تعرض أيّ من أعضاء الحلف لاعتداء خارجي تكون نتيجته احتلال جزء من أراضيه من قبل العدو تقوم قوات الحلف بالدفاع عنه وإجلاء المعتدي من الأراضي المحتلة مَعَ وضع اعتبار ترك خسائر طفيفة في ممتلكات تلك الدول.
                    3. من أهم أهداف الحلف أن تكون الخطوط العريضة لقيام تلك القوة حقيقة متجسدة بوجود الرجال والسلاح الحديث.
                    4. أن لا تكون قوة الحلف مرتبطة بالقرارات السياسية للدول الأعضاء وخاصة ما يتعلق بالميزانية.
                    5. قوة الحلفاء يجب أن تكون سريعة الردّ على أيّ تحرك من الجيش السوفيتي مَعَ مراعاة الدقة في السيطرة على التحرك العسكري الحقيقي وتطوره وليس مبنيا على الرَدّ الاستراتيجي المتشنج غير المتوازن.

                    بُوشر بتقوية البنية العسكرية لحلف النيتو ومَدِّه بأعداد كبيرة من الوحدات العسكرية المتخصصة باستعمال أنواع مختلفة من الأسلحة التقليدية بمقدار من القوة يعطيها ثقة لمجابهة القوة السوفيتية المواجهة لهم. وَمَعَ تلك الأهمية المعطاة لجيش الحلف المسلح بالأسلحة التقليدية فهذا لا يمنع من إنّهم لم يفكروا بِمَدّ الحلف بالأسلحة النووية التي تمكنه من الوقوف أمام التهديد الروسي بما يمتلكه من سلاح فتاك حَتَّى ولو بصورة تكتيكية. خصوصاً وإن فرنسا قَدْ أعلنت عن إمكانيتها بتجريب أول إنتاج لها من السلاح النووي في تموز عام 1957م. ولكن كان هَمُّ الدول الحليفة للولايات المتحدة الأمريكية ليس زرع أكبر عدد ممكن من القنابل الذرية هنا وهناك. لأن ذلك وبكل تأكيد يهدد بقاء أوربا إذ ما استعمل السلاح النووي ولو بصورة تكتيكية، بل كان الهم الكبير والذي كانت دوماً تطرحه فرنسا بصفتها المسؤولة عن أمن أوربا هو متى تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من إيجاد وإنتاج سلاح يُعتمد عليه في الدفاع والهجوم كالصاروخ بعيد المدى، الذي يمكن أن يضرب الاتحاد السوفيتي في الأعماق، خصوصاً إن مثل هذا السلاح يمتلكه الاتحاد السوفيتي مُنْذُ آذار عام 1956م (78). ولم يكن طموح الحلفاء بمقدار ما يمتلك الاتحاد السوفيتي، بل كان طموحهم التمكن من امتلاك سلاح صاروخي متوسط المدى يمكن حمله على أية آلة متحركة لمواجهة القدرة العسكرية السوفيتية المتزايدة ليس بالعدد الكمي للقوات بل بالنوعية المتقدمة من الأسلحة وخاصة النووية منها. تلك الأسلحة التي تعطي الاتحاد السوفيتي القدرة على المناورة التكتيكية لإرهاب القوى الغربية الأوربية خاصة بعد انتكاستها الدولية في حرب السويس عام 1956م.
                    ولم يطل انتظار الدول الأوربية كثيراً، فَفِي كانون الأول من عام 1957م تمكن الأمريكان من تصنيع أول صاروخ متوسط المدى يمكنه حمل رأس نووي. وبالتالي فَقَدْ تمكن الأمريكان من أن يحلوا أول عقدة من عراقيل التقدم التكنولوجي العسكري الذي يتقدم به الاتحاد السوفيتي كثيراً. وَمَعَ هذا السلاح الصاروخي البسيط الذي امتلكته الولايات المتحدة الأمريكية مؤخراً قياساً بما يمتلكه الاتحاد السوفيتي فَقَدْ بدأت تتبجح بقوتها النووية المدمرة وأعلنت عن زرعها ثلاثة قنابل ذرية في أوربا ضمن خطة تسليح حلف النيتو. وراح باحثيها الاستراتيجيين يبحثون عن خطط تكتيكية تليق بالسلاح النووي الأمريكي متناسين حلفائهم في أوربا وقوات النيتو. فكيسنجر يدعو إِلى حرب نووية تكتيكية ما بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية تكون ساحتها مدن أوربا الشرقية والغربية، معللاً أطروحته بوجوب إحداث حرب نووية تكتيكية يمكن لأمريكا من خلالها تدمير ما يمتلك الاتحاد السوفيتي. حَتَّى تعيش أوربا بأمان ويبقى السلاح النووي بيد الولايات المتحدة الأمريكية تفرض به السلم العالمي (3).
                    فعاد وقلل من شأن قوة الاتحاد السوفيتي النووية واضعاً الذنب الأكبر على رئيس الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك ترومان لأنه لم يضرب الاتحاد السوفيتي عام 1949م ليحطم برنامجه التسليحي النووي. وذلك لكي تبقى ساحة السلاح الفتاك بيد الأمريكان فقط، متناسياً تباكي قادتهم على أبواب بريطانيا للسماح لهم باستعمال اليورانيوم المنتج من مناجم الكونغو البلجيكية، والتي كانت تحت إمرت بريطانيا في حينها.
                    لَقَدْ بات هناك تصميم كبير في دوائر السياسة الأمريكية لضرورة قيام حرب نووية محدودة تشترك فيها القوة الجوية الأمريكية المقتدرة على استعمال السلاح للانقضاض على ما يمتلك الاتحاد السوفيتي من طاقة سلاحية نووية. حَتَّى تكون هناك فعالية مستقبلية لحلف النيتو للسيطرة على زمام الأمور (78,79). وعلى الرغم من هذه المهاترات الكتابية التي لا تمثل إلا رغبات كتابها دون أدنى فهم لما للسلاح النووي من تأثير في المحيط العالمي كان هناك العلماء الأخصائيين والقادة العسكريين في كُلّ من الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوربيين والاتحاد السوفيتي من هُمْ على علم مسبق بما سوف تحدثه حرب نووية محدودة كما أسماها الإستراتيجيون. فعلى سبيل المثال جربت قوات حلف النيتو في تدريباتها العسكرية في نهاية عام 1955م ضمن عملية Sage Brush المنفذة في مدينة لويزيانا Louisiana بالولايات المتحدة الأمريكية ما يقارب 275 نوع تكتيكي من الأسلحة النووية في منطقة يبلغ قطرها الدائري 40 كم.
                    وتبين من خلال تلك الدراسة أنَّه يمكن أن تكون هناك حرب نووية تكتيكية بمساحة معينة ووجدوا أن تأثير هذه الأسلحة يعادل عشرة أضعاف تأثير قنبلة هيروشيما الذرية. وفي عملية مماثلة في غرب أوربا Cartesldm Blanche استعمل خلالها 335 قنبلة ذرية صغيرة جداً خلال 48 ساعة تمكنوا من خلالها تقدير ما تحدثه من خسائر تصل حوالي 1,7 مليون قتيل وجرح 3,5 مليون. والنقطة المهمة التي توصل إليها هؤلاء المختصون هو أن للعسكر المهاجم حظّ من الموت كما للمهجوم عليه وبالتالي فالغالب خسران (78). وعليه فَقَدْ عَرَف كُلّ من الأمريكان والاتحاد السوفيتي أن هناك حرب باردة قَدْ تطول بينهما وما السلاح النووي إلا سلاح هدفه سياسي استراتيجي لبسط النفوذ وحسب. فلذا فَقَدْ كانت الحرب بين المعسكرين الغربي والشرقي حرب مخابراتية جاسوسية أكثر منها حرب جيوش وسلاح نووي. وهو ما يعلل عدم اللجوء لاستعماله في الحرب الكورية والهند الصينية والسويس على الرغم من مواجهة المعسكرين الغربي والشرقي في حرب مباشرة وعلى أرض غيرهم.
                    لَقَدْ دَبّ الخوف في قلوب الأوربيين المتحالفين مَعَ الأمريكان مما كان يدور في أروقة المؤسسات الدراسية الإستراتيجية الداعية لحرب نووية محدودة على الأراضي الأوربية على الرغم من عدم قناعة قادة الولايات المتحدة الأمريكية. مما دعاهم إِلى رفض تواجد القوة النووية الأمريكية على أراضيهم مهما كلفهم الأمر ومهما كان نوع التهديد السوفيتي. ودعت فرنسا الدول الأوربية إِلى التشاور في هذا الموضوع، فالتقى رؤساء حكومات حلف النيتو في كانون الأول عام 1957م وبحثوا عن وسيلة لا تعطي الأمريكان اليد العليا في التصرف في قيادة حلف النيتو. كما اتفق المجتمعون على إنشاء وحدة نووية أوربية أمريكية مشتركة ضمن حلف النيتو للقيام بواجب الحماية في أوربا. وعارضت بريطانيا هذا المشروع وأصرت على بقاء زمام الأمور النووية بيد الأمريكان فقط (77).
                    لم تهدأ فرنسا ولا إيطاليا وألمانية لما بدا من إصرار بريطانيا الداعي لتسليم زمام الأمور النووية لسلطة الولايات المتحدة الأمريكية. وراح الرئيس الفرنسي الذي انضم إليه فيما بعد رؤساء ستة دول أوربية غربية أخرى يدعو إِلى حَلّ حلف النيتو وإبداله بقوة أوربية تأخذ على عاتقها مبدأ الدفاع عن أوربا الغربية دون الحاجة إِلى المساعدة البريطانية والأمريكية سواء كانت عسكرية تقليدية أو عسكرية نووية. وازداد العناد الفرنسي حول هذا الموضوع حين أعلن امتلاكه السلاح النووي. وراح مطالباً الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بوضع سياسة واضحة للتسليح النووي للحلف مبنية على أساس إعطاء أعضاء الحلف حَقّ اتخاذ القرارات الإستراتيجية الخاصة باستعمال السلاح النووي وعدم انفراد أمريكا بتلك القرارات (78). واستنكر رئيس الوزراء البريطاني الموقف الفرنسي، معللاً ذلك بخطورة اتساع قوة الاتحاد السوفيتي ومحدودية القوة النووية البريطانية والفرنسية الواجب زرعها في ألمانية الغربية لمواجهة التهديد النووي السوفيتي لأوربا.
                    ومُؤكِّداً من خلال هذه النقطة على ضرورة الاستعانة بالولايات المتحدة الأمريكية لما تمتلكه من قوة نووية تضاهي قوة الاتحاد السوفيتي وبالتالي فمن الواجب إعطائها الصلاحيات الإستراتيجية لاستعمالها متى شاءت. إلا أن الرئيس الفرنسي أصر في شباط عام 1958م على ضرورة المساواة في حَقّ اتخاذ القرارات الإستراتيجية إذ ما رغبت بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية الإبقاء على حلف النيتو.
                    وخلال هذا الخلاف الذي قادته فرنسا وإيطاليا ضدّ الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والذي استمرّ حَتَّى أوائل عام 1960م برزت ثلاث حلول لأعادت التوافق بين الحلفاء يمكن أجمالها بما يلي (77,78):

                    1. يجب أن يكون حلف النيتو حلف تمتلكه الدول المشاركة فيه بالتساوي، ولقبول هذه الحقيقة فإنّ لشعوب الحلف حَقّ تقرير المصير إذ لا ينطبق على سياسته مبدأ قرار الأغلبية وخاصة في الأمور المصيرية كالحرب والسلم بل يجب أن يكون هناك قراراً بالإجماع. وعليه فحلف النيتو يجب أن يكون مهيئا للأغراض السلمية والعسكرية التي تسيطر على زمام أمر إحلال السلام ومعطيا الحلفاء الأوربيين دوراً كبيراً في قيادته من أجل تأسيس العلاقة المتينة ما بينهم وما بين الخطط الأمريكية في العالم. وهذا ما يعني أن الحلف يجب أن يكون خليط من القوات الأوربية النووية والأمريكية لإعطاء كُلّ الدول الأعضاء دوراً في المساهمة في اتخاذ القرار الاستراتيجي.
                    2. الإسراع في بناء الوحدة الأوربية (والتي لاقت تشجيعاً من إدارة كندي) والتي تعمل على خلق علاقة إستراتيجية عميقة مَعَ الولايات المتحدة الأمريكية في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية. فهذه الوحدة الأوربية بالتأكيد سوف تقوم بالعمل على تطوير القوة النووية الإستراتيجية الأوربية والتي بالتالي تسيطر على سلامة أمن الكيان الأوربي. ولكون القوة النووية الأوربية في طور التطور وسوف لا تكون بالقوة التي تمتلكها الولايات المتحدة الأمريكية أو القوة التي يمتلكها الاتحاد السوفيتي فعليه فإنّ الولايات المتحدة الأمريكية سوف تقوم بالتعاون مَعَ الدول الأوربية لتطوير صناعتها النووية وبالصورة التي لا تمس الكيان السياسي الأوربي.
                    3. العمل على خلق قوة جديدة تعمل ضمن حدود منظومة قوات التحالف تمتلك القدرة على العمل والسيطرة على السلاح النووي والسلاح التقليدي تعرف بالقوة المتعددة الجنسيات.
                    لم يكن هناك أيّ توافق لِحَلّ تلك المشكلة حَتَّى ضمن إطار ما طرح، ولكن نتيجة للتطورات التي حصلت في المنطقة العربية وفي شمال شرق آسيا في ما بعد عام 1958م وخلاله، بدت ملامح صورة من الاتفاق على ما ورد في الفقرة الثالثة التي تؤكد على إنشاء وحدة عسكرية متعددة الجنسيات لها القابلية على استعمال السلاح النووي وغيره. حَيْثُ استجابت سبع دول أوربية بزعامة فرنسا لهذه الصيغة واستأنفوا اجتماعاتهم التي بدت معقدة من أولها مَعَ الولايات المتحدة الأمريكية. وقرروا العمل بتلك الصيغة مباشرة بعد أن تنتهي الانتخابات في بريطانيا وفي الولايات المتحدة الأمريكية. إذ من خلال تلك الصيغة يمكن للتحالف الغربي رسم سياسة جديدة للعالم تتبادل فيها الدول مواقع النفوذ وتحديد الخطوط الأساسية لحماية أوربا من الغزو السوفيتي المحتمل بعد أن بات متقدماً نووياً.
                    أيّ إن الصيغة الجديدة التي وردت ببنود الاتفاق كانت نتيجة حتمية لما حدث دولياً مُنْذُ عام 1958م ولحين صدورها. وهي البنود التي راجت في الأوساط الأوربية بعد ما حصل الانفراج الاقتصادي وتمكنت نوعاً ما التخلص من الكاهل الاقتصادي الذي كان بسبب الحرب العالمية الثانية. ويبدو من خلال ذلك إن الدول الأوربية وخاصة فرنسا كانت تحاول الخروج من بسط النفوذ الأمريكي لتعيد بناء دولتها وسيادتها ذاتيا دون اللجوء إِلى مساعدة الولايات المتحدة الأمريكية لها، حَتَّى لا تكون في النهاية طوع أوامرها في المسائل المستقبلية الدولية الإستراتيجية الأساسية. وهو ما يلاحظه المتابع في يومنا هذا من محاولة الدولة الفرنسية من الانسلاخ من أيّ مشروع تحاول الولايات المتحدة الأمريكية إرغام الدول عليه.
                    لَقَدْ نجحت بصورة أَو أُخرى فرنسا في مسارها السياسي تجاه عدم السماح للولايات المتحدة الأمريكية من هيمنتها على قرارات الدول الأوربية السياسية، إلا إن العامل الاقتصادي مازال اللاعب الأكبر فيه هو الدور الأمريكي خصوصاً في تجهيز القوات المتعددة الجنسيات. وهو بما لا شكّ فيه قَدْ استعملته الولايات المتحدة الأمريكية مراراً مُنْذُ بداية عقد الستينات إِلى يومنا هذا وبصورة أمرية تعسفية متزايدة يوماً بعد يوم.

                    5.3 الجاسوسية والاختراق الأمني
                    لم تتأثر المناقشات الدائرة ما بين الدول الأوربية بقيادة فرنسا من جهة وما بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا من جهة أخرى على ما كان مرسوماً مسبقاً وما هو في قيد التنفيذ. فَقَدْ استمرّت الولايات المتحدة الأمريكية بتجهيز قوات حلف النيتو بالأسلحة المتقدمة وخاصة الجوية منها، كما وزودت الولايات المتحدة الأمريكية الحلف بالصواريخ المتوسطة المدى. تلك الصواريخ التي مازالت الولايات المتحدة الأمريكية تحتفل بحلاوة تمكنها من تصنيعها.

                    يتبع








                    تعليق


                    • #11
                      رد: السياسة النووية الدولية وأثرها على منطقة الشرق الأوسط

                      وعلى الرغم من مشاهد القوة العسكرية لحلف النيتو وقوات الاتحاد السوفيتي اللتان لعبتا دوراً كبيراً في التريث لاتخاذ المواقف السياسية إلا أن هناك ما هو أخطر على الاستمرار سواء كان بالنسبة إِلى الجوانب المتعلقة بالبرامج النووية أو التسليح الهجومي والدفاعي أو السيطرة على زمام الأمور في المستعمرات الغربية أو الأمن الوطني. كلها كانت مهددة بلا هوادة بالمعركة الجاسوسية التي شهدها العالم مُنْذُ الحرب العالمية الأولى. فَقَدْ أخذ هذا السلاح مكانة لائقة في الدوائر الأمنية الغربية والشرقية وبصورة مركزة وقوية مباشرة بعد نهاية عام 1946م.
                      وبالنظر إِلى سوء الحالة الاقتصادية والعلمية التي تعاني منها دول الاتحاد السوفيتي فَقَدْ استنفر الاتحاد السوفيتي كُلّ قواه في الجانب المخابراتي للحصول على المعلومات الخاصة بالتصنيع النووي، وتمكن من امتصاص القوة النووية الأمريكية من خلال حصوله على الوثائق الخاصة بالتصنيع النووي. هذه الوثائق التي تمكنت المخابرات السوفيتية من الحصول عليها في داخل المنظومة الأمريكية أعطت بياناً واضحاً لكيفية تصنيع القنبلة الذرية وكيفية وتكوينها.
                      لَقَدْ كان ما توصل إليه الاتحاد السوفيتي في الجانب النووي بفضل مخابراته النشطة، مفاجئة كبرى لأعداء اليوم المتمثلة بالولايات المتحدة الأمريكية في حينها، وحلفاء الماضي عند الحرب العالمية الثانية وقبل إن تضع أوزارها، وذلك من خلال نجاحه في إنتاج السلاح النووي، الذي بدا طريق تصنيعه صعباً لبريطانيا في ذلك الوقت (عام 1949م). فبعد هذا الإنجاز الجاسوسي الذي حققه الاتحاد السوفيتي عام 1949م انتبهت الدول الغربية إِلى ضرورة تفعيل هذا السلاح وإصلاح أجهزتها الأمنية والمخابراتية من الأخطاء التي تجعل منفذ الجاسوسية بسيطاً إليها. فلذا دعا رئيس الوزراء البريطاني في أيلول عام 1949م رئيس العلماء في وزارة الدفاع البريطانية السير فردرك براندرت Sir Frederi ck Brundrett إِلى اجتماع ضَمَّ المقدم مالكوم كيمنك Colonel Malcolm Cumming ممثلاً عن الـ: MI5 وبيتر دكسن Peter Dixon ممثلاً عن الـ: MI6 والسير برسي سيليوت Sir Percy Sillitoe رئيس مكتب الأمن الوطني البريطاني، إضافة إِلى بعض العلماء البريطانيين. وفي الاجتماع المذكور أعلاه انتفض براندرت وبدون مقدمات تذكر معبراً بما يلي:
                      "سادتي: أنَّه حقّاً بات واضح لنا جداً، حسبما اعتقد، نحن الآن في منتصف الحرب مُنْذُ أحداث برلين في العام الماضي. الروس حاصروا برلين، والنقل الجوي الغربي مستمر حَتَّى يصل مستوى تعزيزاتنا العسكرية، لذا ينبغي إن تكون لنا حالة من البناء تعطينا القدرة والثقة في الدفاع عن أوربا الغربية من التهديد الروسي". ثُمّ استطرد قائلاً (70):
                      "سيكون القتال في هذه الحرب بواسطة الجواسيس وليس العسكر المسلح، على الأقل في السنوات القليلة القادمة. لَقَدْ أصبح عملياً من الصعب تجنيد العملاء بنجاح خلف الستارة الحديدية وذلك للخبرة الكبيرة والأداء الملفت للنظر للمخابرات السوفيتية وحلفائها من المعسكر الشرقي، فلذا يجب علينا أن نستعين بالخبراء والفنيين لمواجهة العمليات المخابراتية السوفيتية".
                      في خطاب براندرت، تَمَّ أحياء عملية بارتي بيس Party Piece التي شكلت عام 1938م لمراقبة الحزب الشيوعي البريطاني. إيماناً من المخابرات البريطانية بان أعضاء الحزب الشيوعي البريطاني لهم دور كبير في العمليات التجسسية لصالح الاتحاد السوفيتي. كما قام قسم آخر في وكالة المخابرات البريطانية بتصميم الأجهزة الخاصة التي تمكنهم من مراقبة تحركات الدبلوماسيين السوفيت وحلفائهم. وكانت هناك عمليات تنصت ومراقبة فنية لا نود التطرق إليها بل سوف نتطرق إليها في بحثنا القادم أن شاء الله حول "الحرب الجاسوسية ما بين الغرب والشرق"، ولكن لكي يستكمل بحثنا هذا جوانبه الأكاديمية الكاملة سوف نتطرق إِلى دور المخابرات البريطانية في كشف فصائل الجواسيس ولو باختصار.
                      فكما ذكرنا استناداً إِلى خطاب براندرت تَمَّ انتخاب العسكري المتمرس هيو ونتربورن Hugh Winterborn لمراقبة تحركات الحزب الشيوعي الذي كما كانت تعتقد المخابرات البريطانية لأعضائه دور كبير في نجاح المخابرات السوفيتية بتجنيد الجواسيس لصالحهم. لَقَدْ كانت كُلّ من الـ: MI5 والـ: MI6 على قناعة تامة من أن الحزب الشيوعي البريطاني قَدْ نقل معلومات هامة إِلى وكالة المخابرات السوفيتية لها علاقة بالتسليح والإنتاج النووي. ولم يكن هذا الإصرار غريباً إذ ما علمنا وكما ذكرنا مسبقاً أن بريطانيا بأجهزتها السياسية والمخابراتية قَدْ سهلت وصول مثل هذه المعلومات إِلى الاتحاد السوفيتي في فترة ما قبل إعلان الاتحاد السوفيتي امتلاكه للسلاح النووي وتهديد برلين وأوربا الغربية. وهو ما أوجد أرضية خصبة للمخابرات السوفيتية للعمل داخل بريطانيا منطلقة من تلك الأراضي لمراقبة الدول الأوربية الأخرى والولايات المتحدة الأمريكية.
                      خصوصاً بعد دخول تلك الدول في حلف النيتو العسكري والذي أجبرهم على الدخول في اتفاقيات أمنية ومخابراتية وصلت حدّ تبادل الملفات والآراء والتوجهات والنشاطات في بقاع العالم المتناثرة. فكانت إحدى توجهات ونتربورن هو زرع بعض عناصر طاقم العملية المخابراتية البريطانية السرية في عناصر الحزب الشيوعي البريطاني دون الاعتماد على فترة زمنية مسبقة. وبالفعل فلم تطول السنين حَتَّى تمكن أعوانه من معرفة مكان تخزين ملفات الحزب الشيوعي البريطاني السرية الخاصة بالأعضاء ونشاط الحزب، والتي كانت مخبأة في مسكن أحد أعضاء الحزب الشيوعي البريطاني الأغنياء في المي فير Mayfair. هذه المعلومات المؤكدة جعلت من ونتربورن أن يستنجد بالقسم A2 التابع للـ: MI6 للقيام بعملية اقتحام الشقة المذكورة وبدون معرفة أصحابها بحثاً عن الملفات. كما طلب مراقبة الشقة المذكورة وهواتفها ورسائلها. وبالفعل فَقَدْ داهم عناصر A2 المبنى بسرية تامة وتمكنوا من تصوير جميع الملفات التي قدرت بحوالي 55000 ملف سري. وَتَمَّ نقلها إِلى ونتربورن في مركزه بليكون فيلد Leconfield للإبقاء على سرية الملفات ريثما يتمكنوا من فحص المعلومات التي احتوتها وتحديد مدى خطورتها على بريطانيا.
                      كانت تلك الملفات غنية جداً بما حوتها من معلومات قيمة عن أعضاء الحزب الشيوعي البريطاني بدءاً من المعلومات الشخصية وانتهاء بالأمنيات والأسباب التي دعتهم للانتماء. كما حوت على معلومات لها علاقة بأنشطة الأعضاء وتشكيلهم الحزبي وعلاقتهم مَعَ الاتحاد السوفيتي ودور كُلّ منهم في خدمة الشيوعية العالمية. وعلاوة على هذه المعلومات فَقَدْ تمكن ونتربورن وزملائه من حصر أسماء من هُمْ يميلون للانتماء للحزب الشيوعي البريطاني وذلك من خلال الدراسة المستفيضة لِكُلِّ ما جاء في بيانات تلك الملفات. مما سهل على المخابرات البريطانية من الاتصال بهؤلاء وتجنيد بعضهم للعمل لحساب المخابرات البريطانية بعد انتمائهم للحزب الشيوعي. وتمكن وتربورن ليس من مراقبة نشاط الحزب الشيوعي البريطاني وتحركه فحسب، بل أعطته تلك الملفات معلومات عن عناصر الحزب المتوغلين في حزب العمال البريطاني واتحاد الصناعات البريطاني وشرائح الدولة البريطانية الوظيفية والمخابراتية والعسكرية. مما سهل عليهم رصد تحركات الكثير منهم وإقصائهم من وظائفهم بعد أن تبين لبعضهم علاقة مَعَ المخابرات السوفيتية بصورة غير مباشرة من خلال انتمائهم للحزب الشيوعي. وَمَعَ هذا العمل المتنامي تمكن ونتربورن من كشف بعض الجواسيس المؤثرين والذين هُمْ أعضاء بالحزب الشيوعي البريطاني كأمثال كأيّ بيركس Guy Francis Demoncy Burgess الموظف التنفيذي لوزارة الخارجية البريطانية ودونلد ماكلين Donald Maclean الدبلوماسي البريطاني وعضو الارتباط المخابراتي مَعَ الـ: MI6 وكم فليبي Kim Philby الدبلوماسي البريطاني والمخابراتي الأقدم في الـ: MI5 وروجر هولز Roger Hollis الذي شغل منصب رئيس الـ: MI5 أعوام (80,70). كما يبدو إن هناك الكثير من المسؤولين البريطانيين الذين تمكن الاتحاد السوفيتي من تجنيدهم داخل المؤسسة السياسية إلا إنّهم لم يكونوا فاعلين بالدرجة التي كان بها من ذكرناهم أعلاه.
                      ما أن طل عام 1955م حَتَّى تمكن ونتربورن من تحديد وتحجيم ومعرفة كُلّ بسيطة حول أيّ نشاط لأيّ عضو في تنظيم الحزب الشيوعي البريطاني. كما ساعد احتلال الاتحاد السوفيتي لهنغاريا عام 1956م على فِقْدان الحزب الشيوعي شعبيته في الشارع البريطاني. وَمَعَ النجاح الذي حققته المخابرات البريطانية إلا أن الصراع الجاسوسي استمرّ بين البلدين في العقود الأخرى ولكن ما حققه ونتربورن مكن المخابرات البريطانية من دخول نادي الجواسيس الدولي والذي من خلاله تَمَّ الوصول إِلى داخل المؤسسات الأمنية السوفيتية للاستفادة من المعلومات المستقاة منهم. وهو بلا شكّ ما خدم الغرب ونتج عنه هدم المنظومة الاشتراكية والسوفيتية على أيدي قادتهم. ولرب سائل يسأل أو معترض يعترض على ما نقول فلذا فأننا نرى وجوب تخيل ماذا سيكون لو لم تكتشف المخابرات البريطانية كيم فليبي عام 1963م والسير أنتوني بلاينت عام 1979م والسير روجر هولز وَكُلّ منهم كان له كلمة في توجيه القرار سواء كان عسكرياً أم أمنياً أو سياسياً.
                      فعملية الاكتشاف لهؤلاء سهل عدم الوصول إِلى مبدأ التشنج السياسي الذي يودي بالحالة إِلى إعلان الحرب وتدمير ما تَمَّ تشيده بعد الحرب العالمية الثانية. ولعل الصراع الجاسوسي الغربي السوفيتي لعب دوراً كبيراً في الحرب الباردة التي جعلت المواجهة مواجهة معلوماتية لبسط النفوذ بدلاً من إن تكون عسكرية للسيطرة على المناطق الدولية الاستراتيجية.

                      يتبع





                      تعليق


                      • #12
                        رد: السياسة النووية الدولية وأثرها على منطقة الشرق الأوسط

                        الفصل السادس
                        النشاط السوفيتي والمخطط الغربي الجديد للشرق الأوسط


                        لم تنتهِ الصراعات ما بين الغرب والاتحاد السوفيتي بل لم يصاحبها البرود قَطّ، وإنَّما بدأت تزداد يوماً بعد يوم بدءاً من انتهاء الحرب العالمية الثانية وحَتَّى بلوغ أوجها في منتصف ونهاية الخمسينات. وبدأ الشموخ السوفيتي يعلو ويزدهر في منطقة الشرق الأوسط وتمكنت المخابرات الروسية من أيجاد أرضية لا بأس بها في إيران مَعَ بداية الخمسينات. والتي توجت أعمالها بانقلاب مصدق الذي أطاح بحكم بهلوي. ولولا تدخّل المخابرات الأمريكية مباشرة لإعادة بهلوي لبقي المَدّ السوفيتي في إيران. وكانت حالة عدم الاكتفاء المزمن عند المخابرات السوفيتية هي أساس النجاح، ففشلها بإيران وإبقاء الأخيرة ساحة غربية جعلها تبحث عن خيوط أخرى لتمد خطوطها، مستفيدة من أيّ موقف متأزم أو أية فجوة داخلية في بلد حليف للغرب. فما أن تأزم الأمر أكثر بين الأتراك والأكراد في تركيا حَتَّى راح السوفيت يأخذ دوره معهم، فجندت العديد من قادة الأكراد ودربت ميليشياتهم في الاتحاد السوفيتي للوقوف بوجه الحكم التركي. الذي يعتبر ركيزة أساسية للحلف الغربي الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط.
                        ومما زاد الأمور أكثر ريبة عند الأمريكان والغرب هو اكتشاف عدد من الإسرائيليين السوفيتي الأصل يعملون كجواسيس للاتحاد السوفيتي. وكان من بينهم مدير مكتب وزير الدفاع الإسرائيلي بن كوريون الذي زود الاتحاد السوفيتي بكافة المعلومات الخاصة بالمشروع النووي الأمريكي البريطاني المشترك المزمع أقامته في إسرائيل (70,72,73). كُلّ هذه الأمور جعلت الارتباك يدب في نفوس منتسبي وكالات المخابرات الغربية التي باتت مصالحها في الشرق الأوسط مهددة نتيجة لنشاط الاتحاد السوفيتي في مرحلة الخمسينات. والذي تمخض بدخولهم علناً من بوابة مصر التي عانت من التزمّت الغربي القابض للأنفاس. والذي لم يحله الهجوم الثلاثي عام 1956م، بل زاد الأمور تأزماً وجعل من الاتحاد السوفيتي الأمل الحقيقي والمنقذ الملهم للمستعبدين من الاستعباد الغربي. ونتيجة لتلك الهواجس التي لا تتوقف، استنفرت المخابرات الغربية كُلّ قواها خلال مرحلة أزمة القناة لإبعاد الدول العربية والإسلامية المتعاطفة مَعَ مصر للخروج من اللعبة.
                        فتارة بواسطة الضغط على الحكومات كما حدث مَعَ العربية السعودية والعراق والأردن، وَمَرَة بتجنيد عملائها المندسين في قيادات الأحزاب المسماة بالوطنية والقومية كما حدث في سوريا. حَيْثُ لعب أكرم الحوراني ونديم البيطار وميشيل عفلق دوراً كبيراً بتوجيه الشعب العربي السوري، وإقناعه بضرورة الوقوف بوجه الأعداء القادمون من إسرائيل لغزو سوريا بعد الانتهاء من الانقضاض على مصر، والواجب علينا الدفاع عن سوريا وترك مصر للمصريين الدفاع عن أرضهم. مما دفع الشعب العربي السوري وبلا غرابة يشدّ الأزر لحماية أراضيه السورية ومسانداً مصر بعواطفه وشموخه. في الوقت الذي كانت الجموع الثائرة مصممة على التطوع للاستشهاد على أرض مصر، تمكن الحوراني ورفاقه من إدارة الكفة وامتصاص النقمة الشعبية على الغرب بالإيحاء من خلال الخطب الرنانة الخبيثة المبطنة بان الضربة ستكون مما لا شكّ فيه موجهة لسوريا وليس مصر. متذرعاً بتهديد ما يسمى بحلف بغداد وبالتالي ضمن الغرب انفراد مصر بشرياً وعسكرياً للوقوف بوجه العدوان الثلاثي عام 1956م (70).
                        لَقَدْ حقق الحوراني وميشيل عفلق أول مخططات العزل العربي القطري الذي أراده الغرب من خلال تشطير القضية العربية وتحديد بعدها الاستراتيجي، نحو قيام كيان شرق أوسطي وليس عربي. وهو ما كانت تراهن عليه الولايات المتحدة الأمريكية لعدة أسباب. أولاهما عدم تمكن العرب من إن يكونوا كتلة سياسية وبشرية واقتصادية مناهضة في المستقبل. وثانيهما الحَدّ من التوغل السوفيتي إِلى المنطقة من خلال دعم القضية العربية شمولياً. وثالثهما تنفيذ المخطط الذي يمكن من خلاله دمج إسرائيل في المنطقة وإلغاء المفهوم العربي وإبداله بالمفهوم الشرق أوسطي.
                        فحسابات المخابرات البريطانية وأعوانها كانت توحي بأن الحسم سيكون بالعدوان على مصر، وإن إسرائيل سوف تدخل المنطقة كقوة استراتيجية قوية يمكن الاعتماد عليها في المستقبل. لكن تلك التكهنات ما فتئت أن فشلت مرحلياً وتبين إن شعوب العالم مصرة على استنكار الهجوم على مصر. مما عزز مكانة الشعب العربي في كُلّ مكان وباتت الانتفاضات ذات الشعور الوطني تنطلق هنا وهناك غير قادر حلف بغداد ولا غيره على ردعها. مرغمة قادة الأحزاب في بلادهم لاتخاذ موقف وطني موحد ضدّ الاستعمار والمستعمر فكانت الوحدة العربية ما بين سوريا ومصر الذي هتفت لها الجموع وأصبحت حقيقة رغم كُلّ الميول والاتجاهات التي يكنها البعض. وتوالت الانقلابات العسكرية ضدّ الاستعمار البريطاني وتنشطت الثورة الجزائرية وأخذ البعد الفلسطيني مفهوماً استراتيجياً آخر في التفكير العربي السياسي مرغماً.

                        وخوفاً من السقوط الجماهيري الذي لا رجعة فيه راح الكثير ممن لا يؤمن بمفهوم الوحدة العربية يؤيدونها، حَتَّى لا تنحسر أحزابهم جماهيرياً. غير مبالين من النتائج لاطمئنانهم من مساندة المخابرات الأمريكية والبريطانية لهم للانقضاض على تجربة الوحدة الجماهيرية سواء كان ذلك عاجلاً أم أجلاً (70,72,73). واستمرّت الانتكاسات الغربية في المنطقة العربية الواحدة تلو الأخرى من خلال تبني الاتحاد السوفيتي مبدأ تحرير الشعوب وريادة عبد الناصر ليس للمنطقة العربية وحدها بل دول العالم الأخرى التي ترضخ تحت الاستعمار. وبينما كان الشعب العربي في مصر وسوريا يهتز له كُلّ طرف للوحدة العربية والخيبة والانكسار يدب في وجه الغرب وأعوانهم، راح العراق معلناً ثورته التي أطاحت بكل طامع وكسرت كُلّ هياكل الاستعباد المتمثلة بحلف بغداد. مما جعل الغرب يتأكد من زوال مصالحه إذ لم يتخذ أية سياسة تجاه المنطقة التي أوعز اندلاعها لقوة الجبروت السوفيتي فيها.
                        كان لابُدَ للغرب من أن يبدأ التخطيط لسياسة جديدة في المنطقة العربية خاصة والشرق الأوسط عامة، تكون مبنية على أسس تضمن النفوذ الغربي في المنطقة وتحارب الامتداد السوفيتي من التحرك أبعد مما ينبغي أن تكون حدود نفوذه، خصوصاً بعد أن تبين إن الاتحاد السوفيتي، على الرغم من دعمه لمصر عسكرياً وثقافياً وتكنولوجياً لا يرغب بالوحدة العربية. إذ أن الاتحاد السوفيتي وضمن المنظور الشيوعي يؤمن بالأممية وقيام الوحدة ما بين وسورية ومصر لا يعزز الأهداف المرسومة. لكن الاتحاد السوفيتي على الرغم من آرائه تلك وانحسار ضوء الحزب الشيوعي في كلا البلدين لم يعرف أنَّه ناهض وأراد قمع الوحدة العربية، بل استمرّ في دعمه لمصر وسورية وبدأ يخطط لمنع دخول أية دولة عربية أخرى للجمهورية العربية المتحدة.
                        كانت الخطوة الأولى لبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وبعض من حلفائها لإيجاد إستراتيجية جديدة للمنطقة العربية بعد قيام الجمهورية العربية المتحدة والثورة العراقية، هو التخطيط لدراسة واقع الشرق الأوسط. فبعد فشل حلف بغداد كان لابُدَ من تحديد مكامن ضعف السياسة الغربية في المنطقة العربية، ومن أجل دراسة جدوى التخطيط السياسي الجديد فَقَدْ انتخب في الثاني من آب عام 1958م البروفيسور دي دبليو بروكن Professor D. W. Brogan لهذه المهمة (81)، والتي سوف نرى من خلالها كيف رسم الغرب ملامح وصفات الحكم والعاملين عليه في الشرق الأوسط وخاصة المنطقة العربية، لما يضمن مساراً سلساً للمخططات المستقبلية للغرب. وعليه، فمهمة البروفيسور بروكن لم تكن مجرد توصيات أَو حَلّ لمشكلة بسيطة يراد الخلاص منها تكتيكياً بقدر ما هي رسم لواقع المستقبل في المنطقة وكيفية تنفيذ التوصيات، بعد إن يتم دراسة واقع المنطقة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وإيجاد الثغرات المهمة التي من خلالها يمكن الدخول إِلى المنطقة بصورة سرية تضمن مصالح الغرب لنصف القرن القادم.
                        وهنا لابُدَ إن ننوه إِلى مسألة مهمة جداً اتسمت لنا من خلال مراجعة دراسة البروفيسور بروكن والتي تتضمن حقيقة مرة وهي إن الغرب للحفاظ على مصالحه يحاول دائماً مراقبة مناطقنا عن كثب ويوجد الدراسات الإستراتيجية نحوها ويطبقها ضمن ما يضمن بقاءه فيها، حَتَّى ولو كانت النتيجة إبادة شعب بالكامل. وهو ما حدث فعلاً للعراق من خلال الحروب التي زجّ بها بغباء دكتاتوريته التي حكمته بأوامر الأسياد في الغرب والولايات المتحدة الأمريكية.

                        6.1 إعادة تقييم السياسة الأوربية للمنطقة العربية
                        لم تكن مهمة البروفيسور بروكن سهلة، بل صعبة وحساسة للغاية وذلك لأن اجتماع الحلفاء الأوربيين المزمع عقده في السابع من أيلول عام 1958م في برسل سوف يعتمد على دراسته وعلى ما سوف تحتويه من معلومات وإيضاحات لأسباب التخبط الغربي في المنطقة العربية. فلذا قَدْ حرص بروكن على دراسة كُلّ الجوانب المتعلقة بالمنطقة العربية دون إسقاط أيا منها، بانيا دراسته على الأسس المعنوية والثقافية والاقتصادية والسياسية والعسكرية وذلك لكي يصل إِلى تقييم حقيقي للواقع الغربي وأثره في المنطقة، وليتمكن من خلاله وضع الحلول المناسبة لِحَلّ تلك المسألة التي باتت شائكة ومعقدة، وتنذر بخروج السيطرة الغربية تدريجياً من المنطقة العربية وربما الاتحاد السوفيتي إذ ما قُدر للوحدة العربية أن تكبر فتصبح معسكراً بذاته ينافس المعسكرين الرئيسيين في العالم (70,81)، خاصة وإن كُلّ مستلزمات ومقومات الدولة الكبرى يمكن أن تكون في اتحاد الجانب الشرقي من المنطقة العربية.

                        فبروكن بدأ دراسته وتقييمه للموقف ضمن عناوين مهمة يمكن إجمالها في السطور التالية من هذا البحث. والتي نعتبرها من الدراسات المهمة العاملة على تقييم الموقف ليس في تلك المرحلة بالذات بل لربما مازالت تلك الدراسة ونتائجها تعتبر أساساً لإدامة السيطرة على المنطقة العربية، إذ ما تمكنا من حَلّ ألغاز ما يحدث في أيامنا هذه.

                        أولاً: الجانب المعنوي
                        معنوياً يرى بروكن، أن الشعب العربي وبصورة عامة بدأ تَماماً يَفْقِدُ ثقته بالغرب، وذلك من خلال تمثيله بالإمبريالية المتسلطة المستعبدة لشعوب العالم تحت ذريعة الحماية من الانتقام السوفيتي. ومن خلال دراسته الميدانية للمنطقة العربية بالذات، لاحظ بروكن عند العرب نضج وضوح صورة التطرف الغربي الداعي إِلى الانتقام المثير للحروب بين الدول، غير مكترث من الحرب النووية التي قَدْ باتت تهدد السلام العالمي. ثُمّ يبين أنَّه لم يكن البغض للغرب قَدْ جاء من فراغ، بل نابع من الأحداث المتتالية التي بدا فيها الغرب صاحب اليد العليا للضرب والانقضاض على الشعوب مثل ما حدث في فلسطين والجزائر وقناة السويس وكينيا وقبرص وكوريا وغيرها من دول العالم. كُلّ هذه الأمور يرى بروكن قَدْ جعلت من الشعب العربي يتعاطف مَعَ الاتحاد السوفيتي ضدّ الغرب والولايات المتحدة الأمريكية. وهو ما جعل الوضع بالنسبة لهم في المنطقة العربية في موقع ضعيف وهزيل فاقد الثقة ويُتهم بالجبروت والخداع، وهي حالة لم يعهد عليها مُنْذُ قرن ونصف (81).

                        ثانياً: الجانب الثقافي
                        ويبدو حسب تعبير بروكن أن للغرب في هذا المضمار معاناة حقيقية، فَفِي الوقت الذي كان فيه العرب يتلقون دراساتهم وتمريناتهم في دول التحالف الغربي المحتكر للتقدم العلمي بدون منازع يذكر، باتت أنظار العرب والآسيويين تتوجه إِلى الاتحاد السوفيتي الذي بهرهم بتقدمه العلمي والتكنولوجي. وأخذت الآداب والعلوم الإنسانية والتطبيقية الروسية تأخذ قيمتها الحقيقية بين العلوم الأوربية الأخرى. وهذا ما يعني أن العرب باتوا متأكدين أكثر من أيّ وقت مضى من عزل الغرب لهم في تلك الجوانب سوف لم يمنع انقطاع وصول مصادر الثقافة والعلوم عنهما حَتَّى ولو كانت بكفاءة أقل من الثقافة والعلوم الغربية. وعلى الرغم من أن الثقافة هي المصدر الوحيد الذي تمتلكه الدول الغربية دون منازع ويجب أن يستعمل كسلاح أمام أيّ منافس، فهناك صراع ثقافي ما بين الاتحاد السوفيتي والغرب لتغذية المنطقة العربية للاستحواذ عليها من خلال البرتوكولات الثقافية المعقودة مَعَ مصر. فمع مطلع عام 1957م منح الاتحاد السوفيتي لمصر ستة بروتوكولات ثقافية قدرت قيمة كُلّ منها بـ: 200 مليون دولار.
                        ولم يتوقف التعاون الثقافي العلمي ما بين العرب والاتحاد السوفيتي عند هذا الحَدّ فحسب، بل مَعَ نهاية تموز عام 1958م منح الاتحاد السوفيتي الجمهورية العربية المتحدة 610 بعثة دراسية علمية وتدريبية كان 300 منها في الاتحاد السوفيتي والبقية موزعة على دول المنظومة الاشتراكية الأخرى (81). وهو بالتالي يعتبر تغيراً محسوساً تجاه العرب من جانب الغرب ككتلة معادية والاتحاد السوفيتي ككتلة صديقة حليفة لمستقبل مشرق في الثقافة والعلوم والتكنولوجية والتقدم الحضاري.

                        ثالثاً: الجانب الاقتصادي
                        يعتبر العامل الاقتصادي من العوامل المهمة التي افتقدها الغرب في المنطقة العربية، فَفِي الوقت الذي ليس للعرب سوقاً غير السوق الغربية، على الأقل في العصر الحديث، نرى فجأة يبرز سوق بديل قادر على تزويدهم بالمكائن المنتجة والسلع الاستهلاكية والمواد الأولية التي يحتاجونها في بناء صناعتهم الفتية. فعلى سبيل المثال كان التبادل التجاري بين مصر والمملكة المتحدة يصل حدّ 60% سنوياً من إجمالي التعامل التجاري وانخفض في منتصف عام 1955م حَتَّى وصل عام 1956م إِلى 25%. وهذا ما يعني أن الغرب لا يمكنه محاصرة العرب اقتصادياً وهي حقيقة مرة قَدْ تؤدي إِلى تغيير كُلّ السياسات الغربية المقترحة في المنطقة حَتَّى عام 1970م (81.82,83). إن خسران الغرب لمصالحه في المنطقة له مردود اقتصادي سيئ كبير. خصوصاً بعد أن أممت القناة وألحقت المنشئات الفرنسية والبريطانية بالشركة الوطنية المصرية.
                        إذ يعني لا استثمار للشركات الغربية في المنطقة العربية وتكون العلاقة الاقتصادية العربية الغربية متقوقعة في مجال استخراج وتصنيع البترول والذي يُعَدّ نقطة الضعف عند الغرب، مما يجعل كفة اللعبة بيد العرب بعد أن كانت بيد الغرب. علاوة على خسران الغرب عقود تطوير وبناء المدن والتي يدخل من ضمنها تأسيس خطوط السكك الحديدية والبنايات الكبيرة والسدود ومشاريع الري والكهرباء والمعامل الإنتاجية الصغيرة والكبيرة والتي تقدر بمئات الملايين من الدولارات. فدول المعسكر الاشتراكي بدأت تقوم بتنفيذها بدلاً عن الشركات الغربية التي بعضها قَدْ انقضت العقود معها. إضافة إِلى استبدال الفنيين والخبراء الغربيين بسوفيت أو بمواطني الدول الاشتراكية الأخرى. كما بدا العرب يرفضون أية فكرة اقتصادية للتحديث في المنطقة العربية نابعة من الولايات المتحدة الأمريكية والغرب وهو ما سبب فشل مشروع ليزيز فير Laissez-Faire الاقتصادي الحرّ في الشرق الأوسط عام 1958م إذ لم يلقى تجاوبا إلا من لبنان فقط وبدفع فرنسي.

                        يتبع







                        تعليق


                        • #13
                          رد: السياسة النووية الدولية وأثرها على منطقة الشرق الأوسط

                          من هنا نرى أن الغرب أوجس خيفة من إصرار الدول العربية على النهضة الاقتصادية الوطنية غير الموجهة منهم. فَفِي مصر مثلاً أصبحت السيطرة على الاقتصاد وبتوجيه وطني يخدم مصر حدّاً عالياً لم يسبق له أن وصل مُنْذُ فشل جهاز مُحَمَّد على الاقتصادي عام 1841م. وفي سوريا بدت الدولة مسيطرة تَماماً على صناعة النسيج وهو ما يدعو للقلق. حَيْثُ ليس هناك أيّ سبب يمنع الدول العربية الأخرى من أن تحذو حذو مصر وسوريا والعراق في القريب العاجل إذ لم تتخذ الخطوات اللازمة لإنقاذ الموقف.

                          ولم يكن هذا التغيير المفاجئ في بناء الاقتصاد السوري والمصري والعراقي نابع من لا شيء بل كان نتيجة للنهوض الاقتصادي الكبير الذي حظي به الاتحاد السوفيتي في الوقت الذي كانت فيه الدول الغربية الأوربية مازالت تعتمد على مساعدات الولايات المتحدة الأمريكية في إعادة بناء اقتصادها وتسليح جيوشها. في حين كان الاتحاد السوفيتي ومن أجل إبعاد النفوذ الغربي عن المنطقة العربية ولإيجاد موضع قدم فيها، يدعم الدول العربية التي ترغب في بناء مجالها الصناعي الوطني (81).

                          4 : الجانب العسكري
                          التدهور التدريجي في القوة العسكرية الغربية قَدْ ساعد بلا شكّ على انحسارها من المنطقة العربية، مما سبب فِقْدانهم السيطرة على زمام الأمور حال حدوث أيّ حدث، كما صار مَعَ ثورة 14 تموز عام 1958م في العراق. فحوالي 80% من القواعد العسكرية البريطانية والفرنسية في المنطقة قَدْ تَمَّ التخلي عنها مستعينين بقواعد الأطلسي التي تتواجد على الأراضي التركية وبعض الجزر في المحيط الهندي. وبالتالي فأن القوة العسكرية العربية تشكل بتجمعها كماً كبيراً قياساً بالقوة الغربية المتواجدة بالقرب منها، بالرغم من تجهيز قوة الأطلسي بالأسلحة النووية الفعالة. والتي لا يمكن استعمالها لتغيير موقف سياسي في بلد تعج فيه المصالح الغربية. إضافة إِلى عدم المقارنة ما بين حجم القوات الغربية المتمثلة بحلف النيتو وحجم القوات السوفيتية القريبة من المنطقة التي تتداخل فيها مصالح المعسكرين.
                          ما يؤدي لتفعيل العامل النفسي بين القوتين الكبيرتين مما قَدْ يسبب إشعال فتيل أزمة، لا ترى الدول الغربية حاجة لها على الأقل في تلك الآونة. فعلى سبيل المثال، في العشرين من تموز عام 1958م وعلى ضوء أحداث ثورة تموز العراقية عام 1958م قامت القوات البريطانية بتعزيز قواتها في طبرق بما يقارب 400 عسكري بريطاني جوي وقامت الولايات المتحدة الأمريكية بإنزال 8000 عسكري أمريكي في لبنان و 6000 عسكري أمريكي في الأردن وتحريك الأسطول السادس الأمريكي قرب السواحل اللبنانية. وردا على تلك الأحداث التي عززت فيها كُلّ من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية قواعدها في المنطقة، تمكن الرئيس جمال عبد الناصر من إقناع الاتحاد السوفيتي في الثاني والعشرين من تموز عام 1958م بأجراء مناورات عسكرية كبيرة قرب الحدود التركية الإيرانية.
                          اشترك بها نحو 500 ألف عسكري سوفيتي من الصنوف العسكرية السوفيتية. وتمكن عبد الناصر من استحصال اعتراف بالجمهورية الجديدة (الجمهورية العراقية) خلال أربعة وعشرين ساعة من كامل دول المعسكر الاشتراكي ودول العالم الثالث الأخرى. مما جعل الولايات المتحدة الأمريكية تقلل تواجدها في المنطقة تدريجياً حَتَّى سحبت أخر قطعة من قطعاتها بعد شهرين من المناورات السوفيتية التي أثبتت مدى دعمها ورئيسها خروشوف لعبد الناصر وطموحاته التحررية في المنطقة (81,85).

                          5 : الجانب السياسي
                          ثُمّ يعقب بروكن في تقريره فيصل إِلى استنتاجاته بالاستناد إِلى ما جاء أعلاه ليصل أنَّه ليس هناك أية مفاجئة تذكر حول العلاقة السياسية العربية الغربية. فَفِي السنوات العشرين الماضية كان للغرب رهبة في المنطقة العربية، فحال نزول أية قوة عسكرية خارجية نرى الاتجاه السياسي لدول المنطقة يتغير بصورة مفاجئة. أما اليوم ونظراً لوجود القوة السوفيتية النووية المناهضة للغرب، ومدى تأثير عبد الناصر على شعوب المنطقة من جانب وعلى المعسكر الاشتراكي من جانب أخر، نرى دول المنطقة غير مكترثة لنزول أية قوة عسكرية غربية في الخليج العربي أو شرق البحر الأبيض المتوسط، وَكُلّ ما يدور في الشارع كما هو على لسان الساسة إن تلك القوات ستنسحب آجلاً أم عاجلاً. فَفِي تموز عام 1958م عندما وصل الأسطول الأمريكي السادس للسواحل اللبنانية قال الساسة العرب أن الغرب سوف ينسحب خوفاً من التصادم مَعَ الاتحاد السوفيتي. وبمعنى أخر ليس هناك أي تأثير غربي على الساحة العربية السياسية. وعليه فالسياسة الغربية يجب أن تبنى على أساس إزاحة هذا الغبار من المنطقة في أيّ تخطيط جديد للمنطقة (81,82,83).
                          ونتيجة للتطورات التي حصلت في المنطقة جعلت الشعب العربي في كُلّ من مصر وسوريا والعراق يصل حدّ عدم المقدرة على إجباره على طاعة ما يملى عليه من الساسة المحسوبين على الغرب. وبالتالي فالقوى الداخلية في تلك البلدان لا يمكن الاعتماد عليها للنهوض ضدّ حكوماتهم. فَفِي هذه البلدان الثلاثة أصبح الجيش الآن متضامناً مَعَ الدولة وبأوسط سيطرته على كُلّ جوانب الحياة الأخرى. وهذا لا يعني أن الشعب بجموعه متوافق مَعَ حكوماته بل هناك إشارة لعدم اقتناع بعضهم عما يحدث وخاصة ممن كانوا ضمن الدائرة الغربية الاقتصادية. فالصلابة التي تتمتع بها تلك الحكومات الثلاثة المعادية للغرب والمتضامنة مَعَ الاتحاد السوفيتي كانت نتيجة لما يلي (81):
                          1. امتطاء قادة الجيش الكبار موجة الوطنية والثورة الاجتماعية التي بدأت تنسج خيوطها في المنطقة العربية بدفع سوفيتي وحماية عبد الناصر تحت غطاء العدالة والحرية.
                          2. ليس هناك أحزاب منظمة سياسياً بحجم يمكنها من الوقوف بوجه العسكر.
                          3. القضاء على الملكية وانحسار سلطة رجل القبيلة.
                          4. فِقْدان هيبة رجال الدين المسلمين مما يجعلهم في موقع لا يمكنهم من الوقوف أمام تلك الحكومات.
                          واستناداً إِلى تلك النتائج أصبح واضحاً للمجاميع الصغيرة المتواجدة في البلدان الثلاثة مدى خطورة المواجهة حَتَّى ولو كانت هناك مساندة من الخارج لإيمانهم بتسلط ورجحان كفة الأغلبية.

                          بعد عرض جوانب تقرير بروكن لابُدَ أن نؤكد في البداية على نقطة مهمة جداً تتلخص بكون دراسته كانت مبنية حول منطقة عربية محددة وهي منطقة الشرق العربي التي تَضُمّ مصر وسوريا والعراق وفلسطين ولبنان والأردن ودول الخليج العربي. تلك المنطقة التي باتت تهدد الطغيان الغربي في المنطقة لقربها من دولة صهيون وحلفاء الأطلسي المتمثلين بإيران وتركيا. حَيْثُ تمكن بروكن في نهاية دراسته في الوصول إِلى تحديد أهداف ما يحدث في تلك المنطقة والتي لخصها بما يلي (81,83,85):
                          1. من الأمور المهمة التي تسعى إليها تلك الدول التي هي طَيّ البحث، هو العمل على إزالة مواقع قوى الغرب في المنطقة سواء كان ذلك بصورة مباشرة مثل التواجد البريطاني في عدن، أو بصورة غير مباشرة مثل التواجد الغربي في الأردن.
                          2. هناك إلحاح شعبي على قيام وحدة عربية بين أقطار المنطقة وما الاختلاف والحوار سوى حول الصيغة الواجب اتّباعها لقيام الوحدة العربية كما أن هناك اتفاق جماهيري كبير وواسع على قبول قيادة مصر للمنطقة العربية وبالأخص عبد الناصر.
                          3. هناك إصرار عربي واسع النطاق للانقضاض على إسرائيل وإنهاء مشكلة فلسطين لقناعة الجميع بكونها الركيزة الأولى للغرب في المنطقة العربية. ولا يمكن أن يبقى الفلسطينيون في المخيمات وأرضهم مغتصبة.
                          4. بروز فكرة تنفيذ الانقلابات العسكرية الوطنية المشابهة للثورة المصرية والعراقية، وهذا ما يعني إسقاط الحكومات الملكية المتبقية في المنطقة المدعومة من قبل الغرب.
                          5. الرغبة الكبيرة للسيطرة على المصادر الغنية في المنطقة، كالبترول مثلاً ومما لا شكّ فيه قَدْ سجل مؤشراً متضمناً رغبة دول المنطقة في القيام باستخراجه وتصنيعه وطنياً مما يبعد كُلّ الشركات الغربية عن المشاركة في استثماره.
                          6. الرغبة ببناء اقتصاد جوهري ديناميكي مستند على الاكتفاء الذاتي ومتماسك اجتماعياً.

                          فالأهداف أعلاه هي التي يطمح إليها الشعب العربي وفق ما جاء بتقرير بروكن الخاص بدراسة أسباب ضعف النفوذ الغربي في المنطقة العربية. واستناداً إِلى تلك التفاصيل توصل بروكن إِلى نتيجة مهمة واحدة هي وجوب العمل من أجل إفساد تلك الأهداف من أجل حماية المصالح والنفوذ الغربية في المنطقة بانيا تحليله على ضرورة الالتزام بما يلي (81,85):

                          1 : المحافظة على الشرق الأوسط من السيطرة السوفيتية:
                          إن المحافظة على الشرق الأوسط من السيطرة السوفيتية لا يمكن أن تتم إلا عن طريق الاحتلال المباشر، وهو ما لا يحمد عقباه، لكون تلك الطريقة ربما تشعل حرب عالمية أخرى يكون سببها الصراع ما بين الغرب والشرق على منطقة الشرق الأوسط. ولكن يمكن اتّباع أسلوب المراقبة من الداخل وبإشراف غربي عملي جدير بالدراسة والمتابعة، بحيث يمكن من خلاله اتخاذ القرارات السياسية التي تتجانس مَعَ أسلوب تفكير المواطنين في تلك الدول. ومما يجعل هذا الأمر سهلاً علينا هو ثقتنا الكاملة بحقيقة لا يختلف عليها اثنان وهي أن القادة العرب ليسوا شيوعيين أو من المتعاطفين مَعَ الشيوعية وإن أعداد العرب الشيوعيون مازالت قليلة قياساً بالجموع الأخرى. وفي اعتقادنا أَيضاً أن الوطنيين العرب هُمْ الأقوى في الساحة وما اعتمادهم على الاتحاد السوفيتي إلا لغرض الحماية من الاعتداءات الغربية. فلذا على الغرب والولايات المتحدة الأمريكية أيجاد طريقة ما تحاول من خلالها إقناع العرب بان الغرب سوف يقوم بحمايتهم من الأطماع السوفيتية الشيوعية التي لا تنسجم مَعَ مبادئ الدين الإسلامي.
                          ثُمّ ذهب بروكن مسترسلاً بتحليل اسباب انحسار النفوذ الغربي في منطقة الشرق الأوسط وفق ما جاء أعلاه راح متهماً الغرب بالأخطاء الجسيمة التي ارتكبها بحَقّ العرب مما جعلهم يرتمون في مدار الاتحاد السوفيتي معللاً ذلك بقوله (81,84):
                          "ليس العربٌ مخطئين إذ ما تمكنا من إعادة حساباتنا وعرفنا خطأنا بإقامة حلف بغداد والمحاولة لإجبار الأردن في الدخول في هذا الحلف وسحب الموافقة على قرض بناء السدّ العالي والعدوان الثلاثي على مصر ودكتاتورية سياسة أيزنهاور في تحجيم دول المنطقة وتعظيم أمور الخلاف مَعَ الاتحاد السوفيتي وما إِلى ذلك من بطش وسوء إدارة الغرب لتلك البلدان".

                          2 : تأمين استمرار تدفق البترول العربي لأوربا وأمريكياً.
                          صمام الأمان لاستمرار تدفق البترول العربي للغرب يحتاج إِلى فعالية مستعجلة وإيجابية تمكن الغرب الاستفادة من الظروف العامة التي تتمتع بها السلطة الغربية في المناطق النفطية العربية. فالبترول مازال لِحَدّ الآن مضمون تدفقه نتيجة لسيطرة الشركات الغربية سيطرة كاملة على عمليات الاستكشاف والحفر والتنقيب والتصدير. كما أن القوات الغربية تتمتع بتواجد منقطع النظير لا أحد يزاحمها في هذه المنطقة. و مَعَ هذه الظروف لا أحد يمكنه أن يضمن تدفق البترول بالصورة المناسبة للغرب والولايات المتحدة الأمريكية في المستقبل. حَتَّى ولو عُدلت العقود المبرمة مَعَ حكومات دول المنطقة الغنية بالبترول وَتَمَّ منحها حصة لا بأس بها من واردات البترول لإيقاف المَدّ الوطني. فعليه فسياسة شاملة ودقيقة يجب أن ترسم للحفاظ على حال المناطق البترولية العربية كما هو عليه الآن. ولتحقيق هذا الهدف فَقَدْ حدد بروكن لذلك الاحتمالات التالية للعمل بها:
                          1. الحوار والاتفاق ما بين الاتحاد السوفيتي والغرب حول تقسيم مناطق النفوذ في الشرق الأوسط.
                          2. ضرب قلب الوطنية العربية في مصر مثلما حدث عام 1956م وتقويض الحركات الوطنية في المناطق العربية الغنية بالبترول. ولكن هذا الاحتمال غير واقعي لفشل استعماله في حرب 1956م فعليه من الغباء القيام بضرب مصر أو العراق في الوقت الحاضر للأسباب الآتية:
                          - الضربة العسكرية لأيّ بلد عربي لها عقبات كثيرة قَدْ تسبب انشقاق دولي ضدّ الغرب وتدهور في أوضاع الدول التي تحت سيطرة الغرب وربما تقوم بعض الدول بقطع البترول إضافة إِلى خطر تدخّل السوفيت.
                          - إن أيّ فعل عسكري في المناطق الكبيرة كالمنطقة العربية، ربما يعطي حَلاً لفترة قصيرة من الزمن ثُمّ يتمكن الوطنيون من الانقضاض عليه.
                          3. عزل وتحديد مركز الوطنية العربية ومنعها من الانتشار إِلى مناطق أكبر من تواجدها. فمن المحتمل باستعمال هذا الأسلوب نتمكن من عزل أنظمة مصر وسوريا والعراق سياسياً واقتصادياً فيكون فشل الإدارة السلطوية عاملاً أساسياً لإسقاطهم بنظر الدول العربية الأخرى. وهنا لابُدَ من التأكيد على خطورة ثورة 14 تموز عام 1958م في العراق فهي ليست امتداد للثورة الوطنية في مصر لتؤثر على المناطق العربية النفطية فحسب، بل غيرت موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط. علاوة على التخوف من إمكانية انتشارها حَتَّى تشمل الأردن والعربية السعودية. ولحل هذا الأشكال لابُدَ من اتخاذ التدابير إلآتية:

                          - منع التحاق العراق بالجمهورية العربية المتحدة بشتى الوسائل المتاحة،. ونظراً لعدم إيمان الحزب الشيوعي بمبادئ الوحدة العربية فكرياً، فيمكن دعمه بالوسائل المتاحة للسيطرة على الشارع العراقي وعدم المطالبة الشعبية بالالتحاق بالجمهورية العربية المتحدة. فالعراق يشكل عنصراً مهما لديمومة الجمهورية العربية المتحدة إذ ما إنظمّ إليها. لكونه يمثل حالة اقتصادية واستراتيجية بحتة.
                          - النظر، بجدية، في إدامة التفاوض مَعَ عبد الكريم قاسم الذي بدأته بريطانيا، لإقصاء الساسة الذين يؤمنون بمبدأ الوحدة مَعَ الجمهورية العربية المتحدة. ودعمه مخابراتياً في هذا الجانب للحفاظ على بقاء حكمه طالما بقيت الجمهورية العربية المتحدة.
                          - تفعيل دور الأحزاب الإسلامية في العراق على غرار ما حدث في مصر وسورية للحفاظ على التوازن ما بين التواجد الشيوعي والإسلامي في العراق. وإيجاد الأرضية المناسبة التي لا تسمح برجحان كفة أحدهما على الأخر.
                          - دعم خلايا حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق المناهضة للوحدة المصرية - السورية واعتبارهم حالة يمكن تأهيليها
                          مستقبلاً للاستفادة من شعاراتها الوطنية القومية والتي لا يؤمن قياديها في تنفيذها كما إتضح في سوريا.
                          بعد هذه الدراسة التي تمكن فيها بروكن من تحديد الخطوط العريضة لأسباب فشل السياسة الغربية في المنطقة العربية ومنازعات الاتحاد السوفيتي لها للاستحواذ على الآبار البترولية التي تشكل العمود الفقري للدول الصناعية التي مازالت تعاني من ويلات الحرب العالمية الثانية، بعد هذا كُلّه تمكن بروكن من أن يتوصل إِلى ضرورة تعديل السياسة الغربية للمنطقة ضمن الضرورات والمؤثرات الحديثة مُؤكِّداً على وجود طريقين لا ثالث لهما للمحافظة والدفاع على ما تبقى من المناطق البترولية في المنطقة العربية مهما كانت الظروف الدولية ومهما كانت تطورات الأحداث لصالح الوطنيين العرب وهما (81):
                          1. السيطرة التامة والإمساك بقوة على المملكة العربية السعودية والإمارات البترولية الغنية في منطقة الخليج العربي وخاصة الكويت وقطر والبحرين وأبو ظبي. والإعلان بصورة شديدة وواضحة عالمياً بان أيّ منافسة خارجية على تلك المنطقة سوف يصد بصرامة وإن أيّ ثورة داخلية أو هيجان شعبي سوف يقمع بالحديد والنار دون رأفة. وللحيلولة دون حدوث ما يعكر صفوة تلك المنطقة يستوجب على الغرب الاحتفاظ والسيطرة على قواعده في المنطقة الخليجية ومهما كانت الصعوبات وخاصة في عدن وعبادان وعُمان. إضافة إِلى ضرورة دعم الحكومات العربية التي مازالت تدين بالولاء للغرب والمحيطة بالدول العربية التي يسيطر عليها الوطنيون العرب الأحرار. ولكن لِكُلِّ سياسة ردودها السلبية التي ربما لم تكن في الحسبان، فاتّباع مثل هذه السياسة وخاصة عندما يكون الغرب يحتفظ بقوات كبيرة في الخليج العربي يعني إعلان القضاء على الوطنية العربية. وبالتالي يكون اتجاههم نحو الاتحاد السوفيتي أقوى وهذا هو جوهر المشكلة، علاوة على احتمال فِقْدان الغرب تعاطف شعوب أفريقيا وآسيا إذ ما نفذت تلك السياسة.
                          2.
                          إيقاف المعاداة للوطنيين العرب ومنحهم حقوقهم وتمكينهم من تحقيق أهدافهم وهذا ما يتضمن ردود فعل مذهلة ربما تصل حدّ مطالبة الغرب بالتخلي عن القواعد العسكرية والمراكز السياسية في المنطقة العربية، وبذلك يكون الغرب قَدْ أذعن للتنازل عن البترول أَيضاً. وتلك سياسة لا يمكن أن تتبنى مُطلقاً لأنها لا تعني فقط قتل القوة الغربية وجعلها غير قادرة على الدفاع عن مصالحها في المنطقة فحسب، بل ستكون المنطقة العربية وبكامل مصادرها الغنية بيد أناس لا يمكن للغرب أن يتعامل معهم مُطلقاً. فعدم التعامل مَعَ الغرب لم يكن نابعاً من عدم الارتياح للحضارة الغربية أو عدم ارتياحهم للأطماع الغربية الشرسة ولكن العرب كمثل كُلّ اللذين ينحدرون من السامية يعانون من عقدة ما يسمى بشمشون الجبار الذي يلح ويصر على الانتقام والدمار لأيّ عدو لهم حَتَّى ولو كان الدمار يَلْحَق بهم أَيضاً، فالعرب يؤمنون بقولهم الشهير "عليَّ وعلى أعدائي". ثُمّ استطرد بروكن معلقاً بقوله: "وهذا لا يعني أن العرب لا يهتمون باقتصادهم وتقدمهم ومصالحهم، بل هُمْ على عكس ذلك أكثر حرصاً من غيرهم ولكن بدون استعباد".
                          وَمَعَ كُلّ الجوانب والمقترحات لم يتمكن بروكن إلا أنَّه من إبراز ما يؤمن به من سياسة يستوجب العمل بها داخل المنطقة العربية. فتقريره يبدو جملة نصائح متناقضة تَصُبّ بمواضيع التخوف من امتداد التيار الوطني للمنطقة العربية والخطر السوفيتي الذي بدا أكثر نشاطا من أية فترة ماضية. إضافة إِلى التركيز على استمرار تدفق البترول للغرب والذي هو صلب كُلّ المواضيع السياسية والعسكرية ما بين المعسكر الغربي والشرقي. فلهذا نرى أن بروكن ذلك البروفيسور المهتم بدراسة الواقع السياسي والعسكري لمنطقة الشرق الأوسط ينهي تقريره بالإشارة إِلى صعوبة تبني أية سياسة مطروحة في دراسته هذه. ويقترح إيجاد حلّ يحمي العالم من كارثة حربية قَدْ تتطور إِلى مستوى يصعب وصفه. وَمَعَ كُلّ ما طرحه فَقَدْ أنهى دراسته بالتأكيد على ما يلي:

                          1. على الغرب بناء قوة كبيرة لا تضاهى، يمكن من خلالها التعامل مَعَ العرب وبدون تهديد الاتحاد السوفيتي. إن هذا في الواقع طموح تبنته السياسة الأمريكية منفردة مُنْذُ دراسة بروكن حَتَّى تحقق لها ذلك في بداية التسعينات حين استقل غرباتشوف قطار الانحلال وضياع القوة المواجهة للولايات المتحدة الأمريكية.
                          2. بناء وتطوير بديل عن الطاقة البترولية وبكلفة إنتاجية أرخص من البترول العربي، كالعمل على تطوير الطاقة النووية للاستخدامات السلمية. وهو ما عجز عنه الغرب إذ مازالت أوربا تستورد 70% من احتياجاتها البترولية من المنطقة العربية تشاركها الولايات المتحدة الأمريكية بواقع 60% من احتياجاتها مَعَ بداية العقد الأخير من هذا القرن. وبالتالي فَحَبّ السيطرة على مناطق الموارد البترولية سياسة أمريكية جديدة لتقود بها الدول الأوربية الغربية الصغيرة النفوذ منها والكبيرة النفوذ لكونها الآن هي صاحبة اليد العليا على ما موجود في بواطن أرض الخليج العربي.
                          3. البحث عن البترول في المناطق الأفريقية والآسيوية. فعلى الرغم من اكتشاف البترول في بعض تلك المناطق إلا أنها لا تشكل إلا جزء يسير من كمية البترول الواجب تخزينها أو استعمالها ضمن الخطط الاستراتيجية الغربية.
                          4. التركيز على مشاريع البحث العلمي الخاصة باستخراج البترول من الفحم. وهي مشاريع باءت كلها بالفشل بالرغم من رصد الأموال الكبيرة لإنجاح المشروع.
                          5. التركيز علمياً على تقليل كلفة إنتاج البترول الحجري وجعل قيمته الإنتاجية على الأقل مقاربة من قيمة الإنتاج للبترول العربي. وهو ما فشل الباحثون فيه فَشلاً ذريعا بعد عمل متواصل دام أكثر من أربعين سنة لتحقيق إنجاز معين في هذا المضمار.
                          6. العمل على بناء أساطيل حربية غربية تعمل بالطاقة النووية ومجهّزة بدبابات حديثة لاستعمالها كقوة لإنهاء النزاع في المنطقة العربية لإعادة احتلال قناة السويس وتأمين مَدّ الأنابيب البترولية إِلى حوض البحر الأبيض المتوسط. والواقع أن الأحداث التي تحيط بنا الآن كفيلة بان تجيب الجاهل والعاقل عن ماهية هذه الفقرة وهل حقق الغرب ما يريد إذ ما وضع أمر الاحتمال السالف الذكر قيد التنفيذ، خصوصاً وإن المناطق المعنية في بحث بروكن لم تشهد استقراراً مُطلقاً مُنْذُ الحرب العالمية الثانية ولحد الآن. كما إننا وبخصوص هذه النقطة سوف نسلط الضوء لاحقاً على قوة الانتشار السريع الأمريكية ودورها في قلب موازين القوى السياسية والعسكرية.
                          7. عزل منطقة الخليج العربي عن المنطقة العربية الشرقية تَماماً من الناحية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية وجعلها بحاجة إِلى الغرب في رسم خططها المستقبلية وربط حكامها بمعاهدات لا يمكن تجاوزها. وهو ما تَمَّ بالفعل والأحداث السياسية خير دليل على ما هو حالي. خصوصاً بعد حرب الخليج الثانية والثالثة وما تَمَّ من إنجاز عسكري أمريكي خلالهما، انتهى باحتلال العراق وتثبيت الولايات المتحدة الأمريكية قواعدها بالمنطقة الخليجية، مستغنية بذلك عن تواجدها في قواعدها بألمانية.
                          8. جعل دول محيط الخليج العربي بحالة غير مستقرة سياسياً لضمان عدم التدخّل في شؤونها. ونتوقع أنَّه يقصد بذلك اليمن والعراق وإيران، وإذ ما نظرنا لحالة الدول الثلاثة تاريخياً نرى لم تمرّ تلك الدول داخليا بالاستقرار والبناء السياسي قط.


                          6.2 تعزيز النفوذ الغربي في منطقة الشرق الأوسط
                          لم تمرّ أيام على انتهاء البروفيسور بروكن من إعداد تقريره السالف الذكر حَتَّى التقى رئيس وزراء بريطانيا السير هارولد مكماهون والرئيس الأمريكي أيزنهاور والرئيس الفرنسي شارل ديكول في واشنطن في السابع من تشرين الأول عام 1958م لمناقشة ما جاء في التقرير ووضع الخطط والسبل اللازمة من أجل إرجاع قوة النفوذ الغربي في منطقة الشرق الأوسط. وَمَعَ تلهف المجتمعين إِلى معرفة ما اقترحه بروكن كان أيزنهاور غير متزن حَتَّى وصل حدّ اتهام بريطانيا وفرنسا بضياع المنطقة بقوله:
                          "لولا ما حدث من عدوان على مصر ما قامت الوحدة ولا ثار العراقيون وأصبحت إسرائيل على حافة الانهيار"
                          فراح معربا عن خيبته بما جاء في دراسة بروكن واعتبر ذلك مضيعة للوقت، في حين كان مكماهون وديغول متعاطفين جداً مَعَ ما جاء من نصوص في ذلك التقرير. لَقَدْ أصر أيزنهاور على ضرورة اتخاذ موقف عاجل وصارم ضدّ ما يحدث في المنطقة العربية حَتَّى ولو كلف هذا الأمر الدخول في حرب مَعَ الاتحاد السوفيتي. بينما كان كُلّ من مكماهون وديغول يتحدثان بهدوء ويؤكدان على ضرورة التفكير بطريقة سياسية تمنع الاتحاد السوفيتي من التدخّل لصالح الدول العربية المسببة لتلك الأزمة ويقصد بذلك سوريا والعراق ومصر. وعليه واعتماداً على بعض ما ورد من معلومات في تقرير بروكن الخاص بمنطقة الشرق الأوسط فَقَدْ تَمَّ الاتفاق مبدئياً ما بين الرؤساء الثلاثة على ما يلي (81,86,87):
                          1. التعاون الكامل ما بين المؤسسات الاستخباراتية للبلدان الثلاثة لغرض دراسة الموقف الغربي السياسي تجاه ما يحدث في الشرق الأوسط.
                          2. العمل المكثف لإفشال الوحدة ما بين مصر وسوريا ومنع أية دولة عربية أخرى للانضمام إِلى الجمهورية العربية المتحدة. والتركيز على إبقاء العراق خارجا عنها من خلال دعم الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم.
                          3. تقوية القواعد العسكرية في تركيا وإيران وعدن وعُمان والبحرين ورفدها بأجهزة مراقبة حديثة.
                          4. تحديد دور الثورة العراقية ومنعها من التسرب جنوبا نحو الخليج العربي وغرباً نحو الأردن. وكتم نفس الشارع الداعي للانضمام للجمهورية العربية المتحدة.
                          5. إرسال مساعدات فورية عسكرية واقتصادية واستخباراتية إِلى إسرائيل.
                          6. العمل على بناء علاقات متينة مَعَ الدول المحيطة بالعراق وسوريا ومصر وليبيا والسودان والأردن ولبنان والعربية السعودية واستعمال تلك الدول كمحطة انطلاق لضرب قلب الوطنيين العرب وكذلك إنقاذهم من الانخراط في وحدة مصر وسوريا.
                          تعتبر النقاط أعلاه ما هي إلا الآلية المقترحة من رؤساء الدول الثلاثة التي يمكن لأتباعهم ودوائرهم المسؤولة من الالتزام بخطوطها العريضة. والتي بدون أيّ تعقيد تحتوي على ضرورات إجهاض الوحدة العربية ما بين مصر وسوريا وإنهاء الثورة العراقية الجماهيرية والإمساك والمحافظة على دول الخليج الغنية بالبترول.

                          النهاية





                          تعليق

                          ما الذي يحدث

                          تقليص

                          الأعضاء المتواجدون الآن 3. الأعضاء 0 والزوار 3.

                          أكبر تواجد بالمنتدى كان 182,482, 05-21-2024 الساعة 06:44.

                          من نحن

                          الامن الوطني العربي نافذة تطل على كل ما يتعلق بالعالم العربي من تطورات واحداث لها ارتباط مباشر بالمخاطر التي تتهددنا امنيا، ثقافيا، اجتماعيا واقتصاديا... 

                          تواصلوا معنا

                          للتواصل مع ادارة موقع الامن الوطني العربي

                          editor@nsaforum.com

                          لاعلاناتكم

                          لاعلاناتكم على موقع الامن الوطني نرجو التواصل مع شركة كايلين ميديا الوكيل الحصري لموقعنا

                          editor@nsaforum.com

                          يعمل...
                          X