السياسة النووية الدولية وأثرها على منطقة الشرق الأوسط .
دراسة تحليلية شاملة لواقع السياسة الدولية النووية خلال أكثر من نصف قرن،
وصولاً لِفهْم مدى خطورة انعكاسها على منطقة الشرق الأوسط ومستقبل الحدث في تلك المنطقة.
الأُستاذ الدكتور هيثم غالب الناهي
المُقدمة
دخل السلاح النووي حيّز الدراسات الإستراتيجية العالمية مَعَ نهاية الحرب العالمية الثانية، ومُنْذُ ذلك الحين والكثير الكثير من هذه الدراسات وبكافة اللغات على الأرجح قَدْ كُتبتْ ونُشرتْ مُعللة أهمية السلاح النووي في صراعات بسط النفوذ العالمي على مصادر الحياة الحيوية. هذا الصراع الذي بدا واضحاً وجلياً في منتصف الستينات وحَتَّى قُبيل نهاية الثمانينات بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي المُنهار. فيا تُرى ما هو تأثير النوويات سواء كانت منها السلمية أو الحربية على منطقتنا العربية خاصة ومنطقة الشرق الأوسط عامة؟ وما مدى تأثيرها على تنفيذ ما يسمى بالنظام العالمي الجديد؟ وهل استعمل هذا السلاح الخطير كأداة لحماية استمرار تدفق البترول من الشرق العربي للغرب العالمي السياسي؟ كُلّ هذه الأسئلة وربما أخرى تبحث عن جوابٍ شافٍ يتناسب مَعَ ما يَحدث من أزمات وَويلات في هذه المنطقة الغنية بمواردها وحضارتها وكفاءة شعوبها.
وعليه فَفِي هذا البحث سوف نحاول طرح المشكلة من كُلّ زواياها، وحسب المصادر العلمية الأكاديمية والسياسية والتاريخية المتوفرة لدينا لكي نَصِلَ إِلى فهم مدى تأثير السياسية النووية العالمية على منطقة الشرق الأوسط ومستقبل المنطقة وشعوبها.
وبناءاً على ما طُرِح أعلاه، حاولنا أن نبتدأ من حَيْثُ ابتدأ البحث النووي بين يدي الباحثين والعلماء الغربيين في هذا المضمار، وقبل أن تستشري فيه دوافع القوة والسيطرة التي حولته من بحث نووي علمي يخدم شعوب العالم إِلى وحش سياسي يتلاعب بموازين الحرب والسلم تارة واستعباد شعوب العالم مرة أخرى، أو إشعال فتيل الحرب فيها لمدة تَطول أكثر من بضع سنين ليخلو الجو لممتلكيه كَي يجنوا خيرات العالم بدون منازع. وعلى الرغم من تشابك الأحداث هنا وهناك على هذا الكوكب الأزرق الصغير واتصالها المتين، فَقَدْ حاولنا جاهدين أن نعطي الأهمية المطلوبة لتأثيرها على منطقة الشرق الأوسط بصورة عامة وعلى المنطقة العربية بصورة خاصة. وذلك لارتباط الموازين النووية الدولية القوية بخلق وبناء وتحصين وتسليح الكيان الصهيوني الذي بات اليوم حقيقة موجودة بين الأقطار العربية، في حين نرى التراث الفلسطيني يتزايد مُسرعا نحو الانقضاض والتناسي. ناهيك عن تصريحات جورج بوش الابن الأخيرة الطامحة إِلى بناء شرق أوسط كبير يكون فيه للصهيونية العالمية اليَدّ الطولي في المنطقة.
ولِما للدول المالكة للقوة النووية من عمق استراتيجي في المنطقة العربية وخاصة تلك التي لعبت دوراً كبيراً للسيطرة على مخلفات الدولة العثمانية المنهارة السيئة الصيت والتاريخ، فَقَدْ حاولنا في هذا البحث طرح الأمور السياسة المتعلقة بواقع الأنظمة الحاكمة في المنطقة ودور الأحزاب التي أدت أدواراً لا يمكن إغفالها مُطلقاً. راجين أن نعطي القارئ صورة حية لما كان يدور من نزاع وصراع بين الدول الكبرى، أو ما بين المعسكر الشرقي والغربي حول مناطق النفوذ العالمي للسيطرة على الموارد البترولية التي تمثل بحجمها ما يقارب 77% من احتياطي البترول العالمي والتي سوف تصل مَعَ نهاية 2015 إِلى 86.1% بعد إن يتناقص احتياطي البترول الأمريكي دولياً إِلى 3%.
كما لم يغفل البحث التطور التاريخي للصناعة النووية بشقيها السلمي والحربي، محاولاً ربط التطور النووي التكنولوجي بواقع القوى المتواجدة المتنازعة وكيفية استعماله سياسياً لابتزاز شعوب العالم. إضافة إِلى مدى التغيرات التاريخية السياسية المرتبطة بالواقع النووي الدولي وواقع التعامل مَعَ دول منطقة الشرق الأوسط. ولم يقف البحث عند تلك الحدود بل استرسل لربط موازين القوى الدولية بأهمية المنطقة العربية وضرورة السيطرة عليها اقتصادياً وسياسياً وذلك ضمن ما أُبرم من معاهدات واتفاقات بين الدول الكبرى أو من خلال النشاطات غير المرئية لضمان تدفق البترول العربي للغرب.
وعلى الرغم من ترابط الأحداث وصعوبة فصلها فَقَدْ أقدم البحث على ضرورة تبسيط الوقائع التاريخية النووية السياسية والعسكرية، وذلك من خلال طرح الأحداث بصورة منفصلة لِكُلِّ عقد من الزمان في القرن العشرين وما تلاه في القرن الحادي والعشرين، متوخياً ضرورة إعطاء نبذة عن أهم ما حدث في السنوات التي سبقت العقد لضرورة ربط الوقائع بعضها ببعض. فعلى سبيل المثال قام البحث بالتحدّث عن أهم مجريات الأمور في العقد السادس من القرن العشرين (1950-1959) قبل الشروع بسرد أحداث العقد السابع من القرن العشرين (1960-1969)، إذ من خلال هذا الأسلوب يرى القارئ نفسه وكأنه باتصال مستمر مَعَ واقع الأحداث التي عايشها العربي بسبب بزوغ نجم السلاح النووي.
كما لم يغفل البحث قَطّ وضوح صلة المعسكر الغربي المتمثل بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بالكيان الصهيوني. فلذا نرى في فقرات كثيرة قَدْ تطرق البحث لنشاط المنضمات الصهيونية ودورها في الحرب النووية التي أول ما بدأت ما بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية. ناهيك عن الدور الفعال لما يسمى اليوم بإسرائيل في تطور أحداث الشرق الأوسط وما مدى مفهوم الحرب والسلم بالنسبة لأمن إسرائيل الذي طالما طبلت وزمرت له الولايات المتحدة الأمريكية. وَقَدْ ناقش البحث وجهات النظر الغربية المزدوجة للتعامل بين العرب وإسرائيل وخاصة في الفترة الديغولية الواقعة ما بين عام 1958م إِلى عام 1967م، والفترة الميترانية التي انتهت عام 1995م.
ولعل من أهم الأمور التي ناقشها البحث وغُطيت بمساحة كبيرة في عدة أقسام على مدى الخمسين سنة الماضية كانت موقف الدول الكبرى بشقيها الغربي والشرقي من مسألة امتلاك دول منطقة الشرق الأوسط (ما عدا إسرائيل) للخبرة النووية، وما مدى تأثيرها على مستقبل المنطقة ومصالح الدول الكبرى. كما جاب البحث غمار المشاكل التي حلّت بتلك المنطقة للحفاظ على بقاء الكيان الصهيوني وحماية أمنه وبناء اقتصادياته وبصورة واضحة ومركزة. إذ من خلاله تمكنت الدول الغربية والشرقية المالكة للسلاح النووي من إجبار دول منطقة الشرق الأوسط بالدخول في معاهدات دولية تحت مظلة الأمم المتحدة تعطي الولايات المتحدة الأمريكية حَقّ التدخّل في خبايا الأمور النووية لأيّ بلد تحت شرعية ما يسمى بمنظمة الطاقة النووية الدولية، تاركة إسرائيل دون أيّ إجبار أو تضييق للدخول في ذلك المأزق كي تمتلك وحدها السلاح الشرس وبمساعدة أمريكية فرنسية بريطانيا إيطالية بحتة.
ولإتمام مكامن البحث للوصول إِلى نتيجة حتمية ومُرضية لا شائبة فيها، راح البحث يصول في بواطن الصراع الجاسوسي الذي خلق الانهيار والتأزم ما بين بلدان العالم وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا من جهة والمعسكر الاشتراكي المتمثل بالاتحاد السوفيتي المُنهار من جهة أخرى. فمن بين سطور هذا الصراع نشبت حروب ودمرت مدن على أراضٍ في دول بعيدة كُلّ البعد عن أراضي المعسكرين خوفاً من استعمال السلاح النووي الذي قَدْ يفتك بإحداهما إِلى حال لا رجعة فيه أبداً، فكانت الحرب الكورية والحرب الفيتنامية وغيرها، حَيْثُ برز التكتيك السياسي والتطور التكنولوجي بشقيه التقليدي والنووي بروزاً لا شائبة فيه، جعل من الدارسين والمحللين الاستراتيجيين يهابون من فِقْدان زمام الأمور وإنهاء الحياة على كوكبنا هذا كنتيجة لأيّ تهور سياسي أو شخصي. وهو ما برز في منتصف عام 1962م ما بين سكرتير عام الحزب الشيوعي السوفيتي خروشوف ورئيس الولايات المتحدة الأمريكية جون كندي حول مسألة زَرع الصواريخ النووية السوفيتية في كوبا.
وبسرد تلك الأحداث المريرة التي عَصفت بمنطقتنا العربية وخاصة الشرقية منها، توخى البحث الحذر والدقة للغوص في أعماق الأحداث ليتفهم الصورة المرسومة للمنطقة من قبل أصحاب المصالح العليا فيها. حَيْثُ بان من بين طيّات الحديث الكثير من التغيرات السياسية والتوجهات الفكرية في المنطقة مَعَ إطلالة العقد الثامن من القرن العشرين والذي بدا فيه الصراع العربي الصهيوني يأفل نوره، ويتوج نتاج زواج العوانس الغربي الشرقي بالحرب العراقية الإيرانية الضروس التي استمرّت حوالي ثمان سنين. تمكنت خلالها من إيقاف عجلة التطور في تلك المنطقة وممتصة سيل الأموال المتدفقة من البترول الشرق أوسطي لدفع فواتير الأسلحة التي بات تشكل مخزوناتها عبئاً اقتصادياً ثقيلاً ينذر بسقوطها وغروب شمسها. ومن دواع الأسف واليأس تطرق البحث إِلى المعطيات والأسباب التي جعلت من منطقة الخليج العربي منطقة حرب مدمرة في أوائل العقد الأخير من القرن العشرين لتكون المنطقة العربية بأجمعها دول ضعيفة غير قادرة على قتال ذُبابة، في حين باتت إسرائيل تُعدّ من الدول المالكة للأسلحة النووية الفتاكة لتفرض نفسها على شعوب منطقة الشرق الأوسط ولتصبح حقيقة بعد أن كانت حُلُم صهيوني.
وَقَدْ تَفَحصت محاور البحث المعلومات المتعلقة بالاتحاد السوفيتي وقادته ومدى تأثير القيادة السوفيتية في إنهاء الوجود النووي تدريجياً، وذلك من خلال التوقيع على معاهدات الحَدّ من امتلاك وتصنيع الأسلحة النووية ما بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي. ونظراً للسياسة السوفيتية الجديدة التي انبثقت في منتصف الثمانينات، أيّ بعد اعتلاء غرباتشوف دَفة الحكم في الاتحاد السوفيتي وتوقيعه على اتفاقيتي عام 1987م وعام 1991م الخاصة بامتلاك الأسلحة النووية مَعَ الولايات المتحدة الأمريكية، فَقَدْ أصبحت اليَدّ العليا للولايات المتحدة الأمريكية لتنفرد بامتلاك النوويات بلا هوادة لترسم خريطة عالمية جديدة تكون السيطرة فيها لها ولأوامرها التي لا تحوي سوى امتصاص ممتلكات الدول الضعيفة واستعبادها. ولم يتوقف البحث عند تلك الحدود فحسب، بل راح يدور حول التحركات الجديدة للولايات المتحدة الأمريكية وخاصة تلك التي لها علاقة بالشرق الأوسط.
فَفِي الحين الذي تُعلن فيه الصين الشعبية عن استعدادها لمساعدة أية دولة في بناء مفاعلها النووي بعد أن أصبحت قوة اقتصادية وبشرية وتكنولوجية قوية تضاهي الولايات المتحدة الأمريكية مَعَ حلول عام 2010م، أنتبه الساسة الأمريكان لذلك وراحوا يبحثون لتنشيط العلاقة مَعَ الصين الشعبية وَحَلّ المسائل العالقة بينهم مُنْذُ عام 1953م، أيّ مُنْذُ الحرب الكورية لكي تُقنع أو تُجبر ساسة الصين وقادتهم بضرورة عدم مدّ أيّ بلد بأية معلومة نووية وخاصة تلك الدول الشرق أوسطية، مقابل تسهيل الكثير من المتطلبات الصينية التكنولوجية. إضافة لتنازل الولايات المتحدة الأمريكية عن الكثير من مصالحها التي تعد إستراتيجية في منطقة شمال آسيا لتضمن بذلك عدم امتداد يَدّ الصين الشعبية إِلى منطقة الشرق الأوسط وخاصة الواقعة في الخليج العربي، كي تبقى القوة والاقتدار والسيطرة والتقدم متجسداً فقط في إسرائيل لا بغيرها من دول المنطقة سواء كانت عربية أم إسلامية.
وتطرق البحث بإسهاب عن العلاقة النووية بالحرب العراقية الكويتية واحتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية في مطلع هذا القرن والنشاط الأمريكي لزعزعت الشرق الأوسط وجعله أكبر من الناحية السياسية، تكون اليد الطولي فيه للكيان الصهيوني.
ولعلنا أن نشير بهذا الصدد الذي يتطرق لاحتلال العراق مَعَ بداية القرن الحادي والعشرين من لدن القوى الأمريكية المعادية للاستقرار العالمي؛ إلى الكتاب القيم الذي صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان "الاعتراف الأخير: حقيقة البرنامج النووي العراقي"؛ ولهذا المُؤَلف أهمية قصوى لكونه حمل بين طياته حقائق؛ صرح بها أكبر عالمين نوويين عرفهما التاريخ الغربي قبل العربي والشرق الأوسطي وهما كُلّ من العالم جعفر ضياء جعفر والعالم نعمان سعد الدين النعيمي. وبالتالي نرى هناك ضرورة أن يطلع القارئ على ما حوى الكتاب من حقائق علمية وسياسية ألمت بالعراق والمنطقة ليكون بعد ذلك قَدْ تمكن من معرفة ما حدث وما سيحدث. ولعلنا لا نخف حقيقة إذا قلنا أن كتاب جعفر والنعيمي قَدْ غطى حلقة قَدْ لم نتمكن من تغطيتها فلذا نهيب بالقارئ الكريم أن يطلع عليه.
ولإكمال معرفة الألعوبة السياسية المرسومة للشرق الأوسط وما يخبئه الأقوياء للسيطرة على المنطقة بحثنا بالمواضيع التي رأيناها مكملة لبحثنا الهادف معالجة تأثير السياسة النووية الدولية على منطقة الشرق الأوسط وخاصة في إيران والهند وباكستان ولو بإيجاز. خصوصاً وقد طرأ حديثاً بعضاً مما توقعناه؛ حين أقدم برويز مشرف رئيس الدولة الباكستانية ليبين مدى أهمية قيام علاقات دبلوماسية واقتصادية وعسكرية مَعَ الكيان الصهيوني.
وَمَعَ اختصاص البحث بالجوانب التاريخية والسياسة المتعلقة بتطور الأسلحة النووية ومدى تأثر منطقة الشرق الأوسط بتلك الظواهر العجيبة، قام البحث بإعطائنا فكرة مركزة ومختصرة عن التكنولوجيا النووية وهندستها بصنفيها السلمي والحربي ومركزاً على خصائص وصفات وعناصر القنبلة الذرية علمياً وتاريخياً، كي يخرج القارئ بحصيلة متكاملة بما يتعلق بالنواحي النووية من جميع زواياها. وبذلك يمكن للمهتمين بالنزعة النووية من الإلمام الشامل بجوانب الموضوع، مما يسهل عليهم عملية التحليل والاستنتاج لواقع مستقبل المنطقة العربية، وخاصة الشرقية منها. ومما يَلِفّ حولها من دول شرق أوسطية أخرى، ناهيك عن سهولة الوصول للصورة الحقيقية لواقع الصراع العربي مَعَ الكيان الصهيوني الذي امتد لأكثر من خمسين سنة.
وفي نهاية المطاف لابُدّ لي من وقفة حقّ وشكر للذين أسدوا إلينا النصائح من خلال مراجعتهم للنصّ ومناقشاتهم المفيدة والقيمة؛ أذكر منهم على وجه الخصوص البرفسور جيم هلت Jim Holte والبرفسور نورمن هيو. Norman Hugh كما أُقدّم سديد شكري واعتزازي واحترامي إلى الدكتور جين سلنتاين Jean Sallantin على عمله المضني في ترجمة النصوص الفرنسية للغة الإنكليزية ليتسنى لي قراءتها ومتابعة الأحداث الموجبة للبحث. ومن دواعي اعتزازي وسروري أن أعرب عن شكري وتقدري العميق للدكتور جويل لويس Joel Lewis على ما أبداه من مساعدة قيمة في ترجمة بعض النصوص الروسية للغة الإنكليزية والتي بما لا شكّ فيه قَدْ كانت متممة لما اسرد من أحداث بين سطور هذا البحث. أما عزيز الامتنان والشكر والتقدير فلابد أن أقدمه إلى أستاذي وصديقي الموجه التربوي الدكتور عبد الحسين عواد وذلك امتنانا واحترامنا وإجلالاً مني على ما بذله من مراجعة لغوية ليكون الكتاب بصورة جميلة بين يدي القارئ. ولعل شكري الجزيل والاحترام القدير لابُدّ أن أقدمه بكل اعتزاز وحُبّ واحترام إلى الأستاذ عدنان عيدان ولي؛ الذي لم يبخس علينا بعلمه ومقدرته الثقافية والتاريخية والإلكترونية شيئاً؛ فعكف على الرغم من ضيق وقته يراجع الكتاب من الناحية اللغوية بواسطة الأدوات الإلكترونية. بالإضافة إلى إبداء آرائه القيمة التي لا شكّ إنها أعطت الكتاب قيمة حقيقة خصوصاً عندما نبهنا إلى الإصدار الجديد الخاص بالعالمين جعفر ضياء جعفر ونعمان سعد الدين النعيمي. وفي نهاية المطاف أتمنى أن نكون قَدْ وفقنا الله لما فيه خير الأمة وإعلاء شأنها.
أ. د. هيثم غالب الناهي
آب/أُغُسْطُس 2004م
لندن
الفصل الأول
الطاقة النووية والبداية
الطاقة النووية والبداية
بعد عام من انتهاء الحرب العالمية الأولى تبنت الحكومة البريطانية قراراً يدعو إِلى عدم دخول بريطانيا في أية حرب خلال السنوات العشرة القادمة على أن تكثف الجهود لإعادة بناء الجيش وتحسين المعامل الإنتاجية التي أرهقتها الحرب العالمية الأولى وتشجيع البحث العلمي للاستفادة من مصادر الحياة المكتشفة في المستعمرات البريطانية المورثة من الدولة العثمانية المنهارة السيئة الصيت (1). هذا القرار أحدث ثورة علمية كبيرة في العلوم الأساسية والتي كانت إحدى أهم إنتاجياتها البحوث المركزة في مجال البحث النووي الذي انفردت به المملكة المتحدة آنذاك. فمع إطلالة عام 1931م تبنى اللورد ريثرفورد Rutherford مبدأ ضرورة دراسة كيفية استخلاص الطاقة المخزونة في نواة الذرة واستعمالها أن أمكن كبديل للنفط، ولكن سرعان ما تغيرت المفاهيم والمقولات العلمية والبحثية عندما اكتشفت ذرات اليورانيوم المخصب عام 1939م (2). هذا الاكتشاف المهم لليورانيوم المخصب لم يكتسب أهمية لكونه ينتج طاقة نووية هائلة، بل كانت أهميته نابعة من استجلاب النيترونات خلال عملية الإخصاب لنواة اليورانيوم.
فكلما حدث الإخصاب تولدت نيترونات جديدة يمكن استعمالها للتخصيب مرة أخرى مولدة معها سلسلة من التفاعل النووي الذاتي البقاء والذي يعرف في يومنا هذا، علمياً أو فيزيائياً بـ: Self-Sustaining Nuclear Chain Reaction. وعلى الرغم من تحديد مسار التفاعل النووي نظرياً في عام 1939م إلا أنَّه لم يدخل حيز النجاح العملي والتكنولوجي بشقيه السلمي والحربي إلا في الثاني من كانون الأول عام 1942م حين تمكن بعض الخبراء النوويين الأمريكان في جامعة شيكاغو من توليد تلك السلسة من التفاعلات النووية ذات الطاقة الإشعاعية الهائلة داخل مختبراتهم العلمية المتخصصة في هذا المجال، حَيْثُ تمكنوا بنجاح من بناء أول مفاعل نووي Nuclear reactor في العالم عرف فيما بعد بالمفاعل الذريّ. وبهذا الإنجاز الكبير تكون قَدْ بدأت الولادة الرسمية الفعلية لما يسمى في عصرنا الحاضر بالطاقة النووية التي لم تتمكن وليومنا هذا من أن تكون بديلاً عن الطاقة النفطية التي حظيت بها الكثير من بلدان الشرق الأوسط خاصة العربية منها (2).
1.1 تاريخ البحث العلمي الذريّ
بدأت رحلة الاكتشاف النووي من الناحية العملية العلمية مَعَ أول اكتشاف لمعلمها الأول هنري بكيوريل Hanri Becquerel في فبراير عام 1896م. حَيْثُ تمكن ولأول مرة من تحديد أهمية التفاعلات الإشعاعية نظرياً في المواد الفلزّيّة، بعد أن عجزت الجامعات الأوربية ومُنْذُ منتصف القرن الثامن عشر من إثبات أيّ وجود لحركة جزيئات الذرة. ولم تمضِ أكثر من سنة حَتَّى تمكن جي جي تمسون J J Thomson من اكتشاف الحزمة الإلكترونية المتجمعة على الكاثود بطريقة عملية بعد أن بنى مجمل تطبيقاته على نظرية بكيوريل. مهّد هذان الإنجازان الطريق عام 1905م للعالم الألماني ألبرت أنشتاين (Albert Einstein 1897-1955) لينشر بحثاً في المجلة الألمانية الفيزيائية ذُو أهمية بالغة في الفيزياء النووية. بيَّنَ فيه أول معادلة رياضية فيزيائية تشرح العلاقة ما بين الحركة الجزئية للمادة وعلاقتها بتوليد الطاقة غير المرئية، التي قَدْ تُولد طاقة هائلة إذا ما باتت مركزة في جزيئات تكوينها (3).
استمرّت المختبرات العلمية الأوربية في البحث في كيفية تفعيل حركة الجزيئات وتجميع طاقاتها مُنْذُ اكتشاف أنشتاين عام 1905م، وحَتَّى تمكن اللورد النيوزلندي آرنست راثر فورد Ernest Rutherford 1871-1937 الذي كان يعمل في مختبر الفيزياء الإشعاعية بجامعة مانشستر البريطانية من إجراء أول تجربة علمية مختبريه تخللها قصف الرقائق الذهبية بأشعة ألفا. حَيْثُ تمكن من خلال تلك التجربة من أن يحدد علمياً أن هناك أشعة تنعكس بقوة ثاقبة من تلك الرقائق بصورة متشعبة ما بين زاوية 20 درجة إِلى 110 درجة. وما أن انتهى راثر فورد من تجربته هذه حَتَّى صرح في مؤتمر علمي بجامعة مانشستر عقد لهذا الغرض في ديسمبر عام 1911م: (1, 2, 3)
"بعد تجربتنا هذه التي أثبتت قوة انعكاس الأشعة المتولدة من الذرات المقصوفة بأشعة ألفا، يمكنني القول من خلال تلك المعلومة أن إنتاج الطاقة الذرية بات وشيكاً".
هذا الإنجاز مكَّنَ العالم البريطاني جيمز جادوك James Chadwick عام 1932 من اكتشاف النيترونات. وساهم مساهمة فعالة في تسيير دفة البحوث النووية في مختبر رانديوم بفرنسا Randium Institute in France والذي مكنهم من إنتاج أول نشاط إشعاعي صناعي Artificial Radioactivity. كما ساهمت نظرية أرثر فورد بتطوير اتجاه البحث في إيطاليا، إذ في عام 1930م بروما بدأ العالم الإيطالي أنريكو فيرمي (Enrico Fermi 1901-1954) البحث عن كيفية خلق نظائر النشاط الإشعاعي Radioactivity Isotopes بواسطة القصف النيتروني. ويبدو أن فيرمي الإيطالي قَدْ نجح في إنتاج نظائر النشاط الإشعاعي بالطريقة المثلى. إلا أنَّه فشل في مراقبة فاعلية اليورانيوم عندما يتم قصفه بالنيترونات. ولكن مَعَ هذا يعتبر علماء الذرة إن ما حققه فيرمي إنجاز لا يمكن تجاوزه أبدا إذ ما أريد أن يؤرخ للحالة العلمية النووية وإنجازاتها البحثية (2, 3).
هذا الاكتشاف الأخير الذي اكتشفه فيرمي عُرف من خلاله أن امتلاك القنبلة الذرية بات شيئاً مؤكداً بعد أن تمكن العلماء من إثبات نتائج بحثهم عملياً. وحالما تأكد ستراسمان من تلك النتيجة، وقبل إعلانها علمياً، أرسل بتلك المعلومات إِلى قريبته العاملة في منظمة الوحدة اليهودية العالمية بألمانية ليز ميتنر Lise Meitner التي بدورها قامت بنقل تلك المعلومات إِلى ابن أخيها الذي كان يعمل في مختبر مَعَ الدنمركي اليهودي نيلز بوهار( Niels Bohr (1885-1962 بكوبنهاكن، والذي بدوره قام بإبلاغ الأمريكيين بتلك النتائج. وما أن استلم الهنغاري الأصل ليو سزيلارد Leo Szilard الذي كان يعمل في مختبر في الولايات المتحدة الأمريكية تلك النتائج حَتَّى راح بالتعاون مَعَ من يعمل مَعَهُ من الأمريكان بالتأكد من صحة تلك النتائج، حَيْثُ تَمَّ إثبات صحتها حينما تولدت كمية هائلة من الطاقة الإشعاعية باستعمال ثلاثة إِلى أربعة نيترونات قاصفة (4).
يتبع
تعليق