واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية - في الوقت الذي يعيش فيه الأوروبيون من حلفاء الولايات المتحدة على وقع الصدمة جراء فوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية يبدو الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في ذروة سعادته ويتبادل الأنخاب مع من حوله.
فلطالما أعرب ترامب عن تشكيكه بفاعلية حلف شمال الأطلسي "ناتو". وفي كتابه الصادر عام 2000 تحت عنوان "أمريكا التي نستحقها" كتب ترامب قائلا إن على دول شرق أوروبا أن تحل مشاكلها الإقليمية القديمة وحدها دون تدخل أمريكي.
ربما كان موقف ترامب آنذاك نابعا من تداعيات الحرب التي كانت رحاها تدور قبل ذلك بسنوات في يوغوسلافيا السابقة، ولكن القلق الأمني الأوروبي الآن لا يتعلق بالبلقان، بل بالتهديد الذي يشكله بوتين على أوكرانيا. غير أن السيد ترامب لا يبدو أن لديه مخاوف مماثلة، حتى أنه عبّر خلال حملته الانتخابية عن موقفه من حلف الناتو قائلا إن أمريكا عليها ألا تُدافع إلا عن الدول التي تدفعها حصتها المالية بالكامل.
أما المقرب منه نيوت غينغريتش، المرشح لمنصب وزير الخارجية، فقد تجاوز هذا الموقف إلى حد القول بأنه يشك في قدرة واشنطن على الدفاع عن أستونيا بحال تعرضها لغزو روسي، مضيفا أن الدولة الصغيرة الواقعة في شرق أوروبا تبدو فعليا "واحدة من ضواحي" مدينة سان بطرسبورغ الروسية، رغم أن تلك الدولة هي واحدة من بين حفنة محدودة العدد من الدول ضمن حلف الناتو تقوم فعليا بتسديد المتطلبات المالية الواجبة عليها.
حقبة وجود ترامب في السلطة ستزعزع الأسس التي تقوم عليها الالتزامات الأمنية الأمريكية تجاه أوروبا منذ عام 1941. أوروبا ما تزال تعتمد بشكل كبير على القدرات العسكرية الأمريكية، وخاصة في مجالات الردع النووي والقوة الجوية والمدرعات والخدمات اللوجستية وكذلك المعلومات الاستخبارية، أما اليوم، فستسارع دول القارة للبحث عن طرق لحماية نفسها، وسيندم البعض منها على التأخر في فعل ذلك بعد التحذيرات الأمريكية العديدة لها من مغبة عدم الإنفاق على الدفاع.
أما السيد بوتين بالمقابل، فقد حصل على أكبر دعم ممكن له في السلطة منذ توليه لها قبل 17 عاما. فهدفه الرئيسي كان على الدوام إعادة كتابة أسس الأمن الأوروبي.
وجهة النظر الغربية للعلاقات الدولية منذ فترة ما بعد عام 1991 تقوم على الآتي: تسعى الدول الكبرى لتحقيق مصالحها بطريقة غير عدائية وضمن شبكة من العلاقات الثنائية. الدول الصغيرة بالمقابل تبقى لها كلمتها إزاء ما يحصل. أما النزاعات فتحل عبر المفاوضات أو في قاعات المحاكم دون اللجوء إلى قوة السلاح.
لكن وجهة النظر في الكرملين مختلفة ولا يمكن لموسكو قبول هذه المبادئ التي ترى روسيا أنها كُتبت في فترة كانت فيها ضعيفة وخائرة القوى بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. وتعتقد موسكو أنها عبر هذه المبادئ عرضة للمعاملة وكأنها مجرد لاعب آخر على الساحة وليست الدولة الأكبر حجما في العالم من حيث المساحة.
لطالما بحثت روسيا عن طرق لتبديل اللعبة وقد اختبرت مدى صبر الغرب عام 2007 عندما شنت هجوما الكترونيا على أستونيا، وكذلك خلال حربها مع جورجيا عام 2008 وبعد ذلك ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، وما تبع ذلك من تشققات وشروخ في الثقة تسببت بها موسكو في التحالف الأطلسي عبر استضافتها لإدوارد سنودن، المنشق عن وكالة الأمن القومي الأمريكية.
روسيا لم تواجه عقوبات كبيرة بسبب كل تلك التصرفات، وهي الآن أمام رئيس أمريكي جديد لا يؤمن بضرورة معاقبتها أصلا. اللعبة برمتها باتت بيد بوتين والفوز في المباراة بمتناول يده.