منذ التدخل العسكري الروسي في سوريا في سبتمبر (أيلول) 2015 تحولت موسكو إلى لاعب متفرد في مستقبل سوريا السياسي، ومنحها هذا الوضع إمكانية غير مسبوقة في التحكم بمفاصل الوضع السياسي والأمني في منطقة الشرق الأوسط، وأصبح الرئيس بوتين ركيزة استراتيجية في التحكم بمجريات التطورات الميدانية العسكرية في سوريا والعراق ومنع انزلاقها إلى حروب كبيرة تؤسس لحالات تصادم بين أنظمة المنطقة التي تخوض حروباً بالوكالة ضد بعضها البعض.
لم يكن بإمكان بوتين الحصول على هذه المزايا الاستراتيجية التي لم تستطع لا الامبراطورية الروسية ولا الاتحاد السوفييتي الحصول عليها من قبل لولا "الفراغ الاستراتيجي" الذي تركته إدارة اوباما وبخاصة في الفترة الرئاسية الثانية بعد فشل مشروعها المتمثل بدعم ما سمي "بالإسلام السياسي المعتدل" وثورات "الربيع العربي".
كان التدخل العسكري – والأمني الروسي يمثل مصلحة مباشرة لكل من إسرائيل وكذلك إيران، حيث لعبت موسكو دور المنظم للأدوار الصراعية لأطراف الإقليم على أرضية الإمساك بكل خيوط "اللعبة"، وقد تنبه نتانياهو مبكراً لقيمة الدور الروسي من أجل لجم الدور الإيراني ومنع إيران وميليشياتها من اختطاف الدولة السورية والتحكم بمستقبلها.
كان الاتفاق الرئيسي بين موسكو وتل أبيب يتمثل في منع إيران من نقل أسلحة ثقيلة من سوريا إلى حزب الله، ومنع إيران وميليشياتها من إقامة قواعد ذات فاعلية هجومية على تخوم الجولان، وقد صمد هذا الاتفاق منذ 2014 إلى الآن، إلا أن الهجوم الإسرائيلي الذي وقع نهاية الأسبوع الماضي وتواترت أخبار متضاربة بشأن إسقاط الدفاعات الجوية السورية لطائرة استطلاع إسرائيلية يعد خرقاً للتفاهم المشار إليه وقد يؤسس لقواعد لعبة جديدة تجعل من الصعب على موسكو مواصلة الإمساك بخيوط المعادلة الصراعية داخل سوريا وفي الإقليم.
وما زاد الامور تعقيدا انباء تم تداولها وقد نسبت الى مصدر رفيع في قسم الهندسة التابع لوزارة الدفاع الإيرانية، مفادها أن دمشق وطهران "صُدموا" عندما لم يتفعل نظام الدفاع الروسي في المرات السابقة لحماية المجال الجوي السوري. ويضيف مراسل في طهران "فرزاد قاسمي" نقلا عن مصادر في قسم الهندسة في وزارة الدفاع الإيرانية، أن الخبراء الإيرانيين استبدلوا مؤخراً رموز التنشيط لمنظومة الدفاع الجوي في سوريا، وهذا ما أدى إلى تشغيل الصواريخ ضد الطائرات الإسرئيلية المقاتلة صباح يوم الجمعة. ووفقاً للمصدر، يشتبه الإيرانيون والسوريون، أن روسيا قدمت رموز الدفاعات الجوية لإسرائيل، فيما تنتظر وزارة الدفاع الإيرانية توضيحاً من موسكو على هذا الأمر.
لكن من الواضح ان ايران وقعت ضحية قراءة مغلوطة لما تعتقد انه انتصارات حاسمة في معركة الموصل ضد تنظيم داعش الإرهابي، فقد أغرتها هذه "الانتصارات " في شمالي العراق إلى استثمارها في الوضع السوري من خلال التمرد النسبي على قواعد اللعبة التي أرستها روسيا منذ 2013 ومنعت بموجبها الاحتكاك المباشرة بينها وبين إسرائيل على الأراضي السورية .
تستشعر موسكو خطر "التمرد" الإيراني على قواعد اللعبة في سوريا وقد تكون قد قامت بإجراءات عملية لمعاقبة طهران على ذلك خاصة أن موسكو ومنذ سنوات كانت صريحة جداً مع النظامين السوري والإيراني في القول لهما إن نقل أسلحة ثقيلة وإستراتيجية من إيران عبر سوريا لحزب الله يعطى إسرائيل الحق في قصف تلك الشحنات دون سابق إنذار، والسؤال المطروح حالياً هل تستطيع موسكو إعادة إيران إلى "بيت الطاعة الروسي" أم أن مرحلة التنافس بين الدورين (الروسي والإيراني) في سوريا قد بدأت وهل ستنتهي إلى الطلاق أم الصدام أم أن احتمالات حدوثها صعبة ؟؟
علينا وعند محاولة الإجابة على السؤال السابق الأخذ بنظر الاعتبار العامل الذاتي السوري وأقصد هنا النظام السوري ومصالحه، فالنظام في سوريا يعمل بشكل دقيق للغاية للحفاظ على توازن علاقته بين موسكو وطهران، كما يعمل أيضاً على التجسير قدر الإمكان على "الفجوات" في العلاقة بين الحليفين، فمصلحته تتمثل بإدامة التحالف وتعزيزه لأن أي خلل في ذلك التوازن سيجعل فرص القوة التي يمتلكها النظام بسبب فائض القوة الممنوحة له من قبل الطرفين تتلاشي ويصبح عرضة للسقوط .
تعمل موسكو على احتواء حادثة تدمر وتطويقها وربما تكون تصريحات وزير الاستخبارات الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، إن إسرائيل "مطمئنة إلى دور روسيا في ضبط سلوك نظام الأسد، وإجباره على عدم تغيير قواعد اللعبة"، لدليل على أن موسكو أنجزت مهمتها في ضبط الموقف وقد تكون الأمور قد تجاوزت الضبط إلى تحويل الأزمة إلى فرصة تزيد من هامش الحركة والمناورة لموسكو في خلق قواسم جديدة من المصالح بين إسرائيل من جهة ودمشق وطهران من جهة أخرى ، فبعد أقل من أسبوع على حادثة تدمر سربت مصادر إسرائيلية أمنية لصحيفة هآرتس أنباء عن الجهود التي تبذلها موسكو من أكثر من عام لدى النظام السوري بطلب من إسرائيل للكشف عن رفات الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين الذي أعدم في دمشق عام 1965.
وتشير هآرتس إلى أن الحكومة السورية أبلغت موسكو أن الحديث يدور حول قضية يزيد عمرها عن 50 عاماً وهناك صعوبة جمّة في تحديد مكان دفن كوهين، وأن المسؤولين السوريين أكدوا أنهم قاموا بإجراء فحص لكنهم لم يهتدوا إلى مكان دفن كوهين ولا يستطيعون تقديم المساعدة أكثر في هذا الأمر.
يعكس تسريب هذا الخبر في هذا الوقت بالذات رغبة إسرائيلية في إظهار طبيعة الدور الروسي وانعكاساته على السلم والتعاون الإقليمي.
الدور الروسي يتعاظم في المنطقة بصورة عامة وفي سوريا بصورة خاصة وباتت كل (الطرق تؤدي إلى موسكو) وعلى وقع شيفرة بوتين!
24.ae