بقلم العميد الركن خالد حمادة
باريس التي أوفدت وزير خارجيتها إلى لبنان في مهمة تبدو مستحيلة بهدف إقناع الأطراف اللبنانيين بضرورة حلّ مسألة الشغور في رئاسة الجمهورية، والتي سبق لها أن صُدمت ورُدّت خائبةً بعد فشل رئيس جمهوريتها بإقناع وزير خارجية إيران بتسهيل شروطه لإنهاء الأزمة اللبنانية، باريس نفسها ومنذ ثلاثة أيام فتحت ذراعيها «لإيران الحرّة» وربما للمؤتمر الدولي لدعم المعارضة الإيرانية مذكّرةً بـ «كومونة باريس(La Commune de Paris)» عام 1871 التي جمعت من تقدّموا للدفاع عن فرنسا من خارج الجمعية الوطنية بعد اندحار نابليون الثالث والدخول المذل للجيش البروسي إلى باريس.
مئة ألف معارض شاركوا في «كومونة باريس». المعارضة الإيرانية قدّمت نفسها أمام برلمانات دولية ونُخب مثقّفة من أكثر من أربعين دولة ووضعت أزمتها مع النظام الإيراني أمام الرأي العام الدولي، بعد أن عاشت مساراً من اليأس والفشل في إمكانية التغيير من داخل إيران سواء عبر المؤسسات القائمة أو عبر وسائل التعبير المُتاحة. ولايتيّ محمد خاتمي وانتخابات عام 2009 وخدعة الإعتدال لنموذج رفسنجاني- روحاني قدّمت أكثر من مثال على ذلك.
زعيمة المعارضة الإيرانية، مريم رجوي، وضعت حركتها كامتداد تكاملي للثورة الدستورية في إيران ولحركة مصدّق، وأعلنت العمل لإسقاط نظام ولاية الفقيه كحلٍّ وحيد لإخراج إيران من واقعها المُتردي وكشفت عن الحجم غير المسبوق للرقابة والقيود وعمليات القمع والإعتقال التي يتعرض لها المواطنون العرب والكرد والبلوش والتي تعد الأكبر منذ اندلاع الثورة، بحضور آلاف من المثّقفين والفنانين ورجال الأعمال والناشطين المدنيين إلى جانب عدد من الجمعيات الإيرانية التي حضرت لتقديم تقييمها لقضايا عدّة في مجال قمع الحريّات العامة والآفاق المستقبلية للتطورات الإيرانية في ضوء اتّساع حركة الإحتجاجات الشعبية في مختلف المحافظات والمدن وعلى خلفية التصعيد الخطير في الإعدامات التي بلغت رقماً قياسياً.
مداخلة تُركي الفيصل، رئيس مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، شكّلت متغيّراً بارزاً بل وجهاً جديداً للتواصل مع المعارضة الإيرانية لم نعهده ولم نكن نتوقّعه من قبل. لقد استعرض الفيصل التاريخ العميق للعلاقات الفارسية العربية مؤكّداً على الجوانب الإيجابية للتواصل التاريخي والثقافي بين إيران والعرب والذي لم يتعرض سوى لبعض الشوائب المحدودة، محمّلاً الثورة الإسلامية مع الإمام الخميني إستحضار كلّ أنواع المذهبية والدمار في جميع دول الشرق الأوسط، ومؤكّداً دعمه الشخصي لهذه المعارضة. طبعاً الأمير تُركي لا يتبوأ أي منصب رسمي في المملكة ولكنه يمثّل حقبةً بارزة من العلاقات الدولية عبر سفارتيّ واشنطن ولندن، مما يؤكد وجود اتّجاه واضح لتوسيع دائرة مشاركة مراكز الأبحاث ومجموعات الرأي في المملكة العربية السعودية بالقضايا الإقليمية وتشكيل مجموعات ضاغطة للتأثير فيها. تدخّل المجتمع المدني ومجموعات الضغط ومراكز صنع القرار في هذا المجال تشكّل إضافة نوعية على «الحرب بالوكالة» المفتوحة بين المملكة وإيران في ميادين شتى، سواء عبر الساحة اليمنية حيث يتحوّل الحوثيون وأنصار علي عبدالله صالح إلى فريق محلي بعد النجاح في قطع طرق الإمداد بشكل كبير عن إيران، أو عبر سوريا حيث تتعرّض ايران لإمتحانٍ عسير في ساحاتها فمن دون سوريا تبتعد إيران عن البحر المتوسط ويفقد حزب الله العمق الاستراتيجي ويسقط كلاعب إقليمي.
كومونة إيران في باريس خاطبت الرأي العام الإيراني في الخارج والداخل وأظهرت قدراً كبيراً من الإستيعاب بمعنى تمكين القوة الناعمة، التي يظهر أنّها متوافرة في إيران ولدى العالم الإسلامي وتحديداً دول الخليج، من لعب دورها بعيداً عن الشروط التي سبق ووضَعَها نظام ولاية الفقيه في إيران والقائمة على الشحن المذهبي. كومونة إيران في باريس ومن خلال توجهها للأقليات وإعلان رفضها للديكتاتوريات الدينية تطرح إشكالية علاقة السياسة بالدين عندما تصبح الأقليات مكوّناً ثابتاً في النسيج الإجتماعي، وهنا يقتضي السؤال ما هو الدور الإيجابي للحضور الإيراني ما وراء الحدود وخاصةً في الدول العربية بعد ان تحوّلت كلّ الشعارات المُعلنة إلى واقع يتسمّ بالإذلال والإقصاء وبعد أن أصبح المجتمع الإسلامي أشدّ بؤساً وأكثر تشتتاً وأبعد في الجهل وأكثر بربرية مما كان عليه قبل أن تحصل هذه الثورة.
كومونة إيران في باريس عبأت الجماهير المتحفزة ووضعت أمامها الهدف الأكثر إثارة دائماً في التعبئة وهو إسقاط كلّ ما يرمز إلى السلطة ولا شيء يعادل إسقاط الرموز في لحظة الثورة.
*مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات
Twitter: @KMHamade
E-mail: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.