عندما تنتهي صلاحية الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية، يصبح تفكيكها عملية معقدة وشاقة، و تصبح خطرا نوويا عائما، يغلي في أعماقها الوقود النووي القاتل الذي لا يمكن إخراجه منها إلا بشق الأنفس. وتجد الجيوش البحرية النووية صعوبة في التعايش مع أساطيلها من الغواصات الحاملة للصواريخ الباليستية، والغواصات من طراز "هنتر كيلر" المتهالكة التي يعود تاريخها الى الحرب الباردة.
ونتيجة لذلك، أصبح هناك عدد من أغرب المقابر الصناعية على سطح الأرض، والتي تمتد من شواطيء المحيط الهادي شمال غرب الولايات المتحدة، مروراً بالدائرة القطبية، إلى فلاديفوستوك، موطن الأسطول الروسي في المحيط الهادي .
تأخذ مدافن الغواصات تلك أشكالاً متعددة. ففي بحر كارا شمال سيبيريا، تتخذ هذه المقابر شكل مستودعات نووية، حيث تتناثر مفاعلات الغواصات والوقود على عمق 300 متر في قاع البحر. هنا يبدو أن الروس كانوا مستمرين حتى أوائل التسعينات في دفن غواصاتهم النووية بنفس الطريقة التي كانوا يدفنون بها الغواصات التي تعمل بالديزل، أي بإلقائها في المحيط.
و في مستودع الخردة الخاص بغواصات الديزل حول خليج أولينيا شمال غربي شبه جزيرة كولا القطبية الروسية، تكشف القطع المتآكلة عن أنابيب الطوربيد في الداخل، وعن الأبراج الصدئة المقلوبة في وضعيات مختلفة وغريبة، وعن هياكل ممزقة.
كماأحال السوفيت بحر كارا إلى حوض مليء بالنفايات المشعة، حسبما تقول مؤسسة بيلونا النرويجية التي تعنى بالحفاظ على البيئة، ويستقر في قاع البحر حوالي 17 ألف حاوية بحرية من المواد المشعة، و16 مفاعل نووي، و5 غواصات نووية بكاملها، إحداها مازالت خزانات مفاعلها النووي معبأة بالوقود.
بحر كارا يعتبر الآن وجهة لشركات النفط والغاز، ما يعني أن وقوع حادث بالخطأ أثناء عمليات التنقيب قد يؤدي إلى انبعاث المواد المشعة من المفاعلات، وانتشارها إلى مناطق الصيد.
وتبدو تلك المدافن الرسمية للغواصات أكثر وضوحاً للعيان، لدرجة أنه بإمكانك رؤيتها باستخدام برنامج غوغل للخرائط أو برنامج "غوغل إيرث". وبتقريب الصورة على منطقة ما في هانفورد بولاية واشنطن، يمكنك رؤية أكبر مستودع أميركي للنفايات النووية، كما يمكنك رؤية هذه المستودعات في كل من خليج سايدا في شبه جزيرة كولا القطبية، وكذلك قرب مرسى السفن في فلاديفوستوك.
ففي منطقة هانفورد، يمكنك رؤية صف وراء صف من الحاويات الحديدية العملاقة، طول كل منها حوالي 12 متراً. كما ترى الحفر الترابية في انتظار الدفن الجماعي في المستقبل، وترى الحاويات في صفوف منتظمة في خليج سايدا وقرب الميناء، أو تطفو على المياه في بحر اليابان، أو مربوطة إلى رصيف الميناء في قاعدة الغواصات الروسية في بافلوفكس، قرب فلاديفوستوك.
هذه الحاويات العملاقة في هانفورد هي كل ما تبقى من مئات الغواصات، وهي تعرف باسم "الوحدات ذات المقصورات الثلاث"، وهي تمثل ذلك الجزء المحكم الغلق الذي يحتوي على الوقود المفرغ، والذي أنتجته وزارة الدفاع الأمريكية في قاعدة السفن التابعة للقوات البحرية في بريميرتون بواشنطن.
إنها عملية معقدة. أولا: تجر الغواصة التي انتهت صلاحيتها إلى ميناء مؤمن لتفريغها من الوقود، حيث يفرغ مفاعلها النووي من كافة المواد السائلة، للكشف عن الأجزاء المكونة للمفاعل النووي، ومن ثم يزال كل جزء منها ويوضع في حاويات للنفايات النووية، ثم يُحمل على قطارات مؤمنة لإلقائها في مستودع للنفايات طويلة الأجل.
في الولايات المتحدة، يعد هذا المكان منشأة للمفاعلات النووية التابعة للبحرية في معمل ايداهو القومي مترامي الأطراف. أما في روسيا فهناك مصنع "ماياك" لإنتاج البلوتونيوم وإعادة تدوير النفايات النووية في سيبيريا.
وعلى الرغم من أن آلات معينة داخل المفاعل النووي، مثل مولدات البخار فيه، والصنابير، والأنابيب، والصمامات، تحتوي كلها على يورانيوم منضب، إلا أن المعادن في هذه المفاعلات النووية جرى خفض إشعاعاتها بتسليط النيوترونات على ذراتها، مما أدى إلى تفتيتها.
وهكذا بعد إزالة الوقود، تجر الغواصة إلى ميناء جاف حيث تُفصل مكونات وأجزاء المفاعل عن هيكل الغواصة، إضافة إلى جزء مفرغ على كل جانب من جانبي المفاعل، بعد ذلك يجري لحام سدادتين من الصلب السميك على الجانبين.
ولذا، ليست الحاويات مجرد أوعية، بل هي قطع حديدية ضخمة عالية الضغط من الغواصة النووية ذاتها. وما تبقى من هيكل الغواصة، كالأجزاء غير المشعة، يعاد تدويره فيما بعد.
وتستخدم روسيا أيضاً هذه الطريقة لخشية الغرب من أن يؤدي غياب الدقة في عملية التخلص من الغواصات التي تخرج من الخدمة إلى وقوع المواد الانشطارية في أيدي غير صديقة.
في خليج أندريفا قرب سايدا، على سبيل المثال، لا تزال روسيا تخزن وقوداً مستهلكاً من 90 غواصة من عقدي الستينات، والسبعينات. لذا، بدأت دول مجموعة الثماني برنامجاً مشروعاً لعشر سنوات وبكلفة 20 مليار دولار لنقل تكنولوجيا التخلص من الغواصات النووية الى روسيا الاتحادية، وتضمن ذلك تحسين أساليب التخزين والتكنولوجيا في منشآت تفريغ الوقود في سيفيرودفينسك، وفي منشأة التفكيك، ولبناء ميناء أرضي لتخزين المفاعلات التي أخرجت من الخدمة.